ما وقع أخيراً من تصعيد غوغائي، أثبت أن الوعي السعودي آخذ بالنضج والاتجاه نحو الفهم الصحيح للمجريات، فنحن شعب لا يزايد على إسلامه وحبه لرسوله الكريم، ومع ذلك لم نأخذ أميركا وحكومتها بجريرة الفيلم الأحمق؛ لأن المنطق السليم لا يوزر وازرة وزر أخرى، وهو الفكر نفسه الذي صرفنا إلى التعقّل ورد الفعل الموضوعي في قراءة الحدث من أوله. صحيح أننا لن نرضى المساس بمقدساتنا، ولكننا أيضاً لا نقبل أن نكون «مع الخيل يا شقرا»، بل نقف ونفكِّر، ثم نُصدر قرارنا العاقل الذي يخدم ما ندافع عنه، ويُعلي من قضايانا قبل أن يضرها.
وبأي حال، فهذه الفوضى التي أكملت ما سبقها من تخبّط وعشوائية، لا أقول إلاّ أنها بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على ما يُسمى بالربيع العربي، بل هو إعلان نعي صريح يتيح للدول المتعقِّلة وأولها الخليجية التقاط الأنفاس، والالتفات بتأنٍ وذكاء إلى جذرية التغييرات والإصلاحات التي تنوي الاضطلاع بها، وبكل روية ودرس للخطوات الآتية، فالإصلاح عادة من الأمور التي ينبغي أن نسارع إليها عندما نستطيع، لا عندما نُجبر عليها، أمّا الربيع العربي الذي كرهّنا بموسم الربيع وعوضاً عن «أوائل ورد كنّ بالأمس نُوّما»، صارت «أوائل خلايا كنّ بالأمس نُوّما»، هذا الربيع انتهى فصله تماماً، وما يبدأ بموته في الغرب، فسيلحقه الموت في حيّنا الشرقي... ما يموت هناك، سيموت هنا، والأيام بيننا.
عند خروج الرسومات الدنماركية المسيئة لرسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، تحمّس الشيخ القرضاوي ودعا إلى يوم غضب إسلامي نصرة واحتجاجاً، واليوم هو نفسه الشخص الذي يدعو إلى الهدوء في معالجة الموقف، مع أن إساءة الفيلم أكثر وجعاً وتعدِّياً من رسم كاريكاتوري أزعم أن أغلبنا لم يشاهده، ولم يصل إليه، فأين ولّت الغيرة على النبي عليه الصلاة والسلام حتى تحول رد الفعل بهذا الشكل الجذري؟ لَمْ تذهب مكاناً، هي وُظِّفت في موضوع الرسومات كي تُحرج الحكومات القائمة آنذاك، أمّا اليوم فلا داعي لتوظيفها طالما أن جماعتنا وصلوا! منتهى البراغماتية المغلّفة باسم الدين، ويسري تأثيرها ويمرّر على شعوب خُدعت بشعارات الديموقراطية والانتفاض لحريتها ومشاركتها، أمّا السؤال الذي طالما تردد: هل شعوبنا بحاجة إلى الديموقراطية أولاً أم التنمية قبلاً؟ ويبدو أن الإجابة كانت مع كلمة ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز حين تساءل عن جدوى الثروات المالية والبشرية في عدم وجود أمن واستقرار؟ وهو ما يقودنا إلى تقديم عامل التنمية على العوامل الأخرى في معادلة استتباب الدول والشعوب.
يقول المفكِّر محمد عابد الجابري: «التنمية تتناول ثلاثة ميادين: ميدان الاقتصاد، وميدان المهن والصناعات، وثالثهما ميدان الاجتماع والسياسة والثقافة، والتنمية في المجال الأخير – كما في المجالات الأخرى- لا تصْدق ولا تحقِّق الهدف منها إلاّ إذا كان التدبير فيها يتم بالحكمة التي تعني معرفة ما هو موجود، ومعرفة ما يجب، وهذه المعرفة إنما يحصل عليها الناس بالمناقشة وتبادل الرأي والاجتهاد».
وبمناسبة الحديث عن الديموقراطية، فهي لم تكن هدفاً في ذاتها في الجمهورية الأفلاطونية، ذلك أن غرض أفلاطون الأسمى كان في تحقيق عدالة المجتمع، أمّا الديموقراطية بمعنى حكم الشعب نفسه بنفسه، فلم يكن الناس في الحضارة اليونانية ولا في الحضارات التي تأثرت بها ينظرون إلى هذا النوع من الحكم على أنه الأفضل والأمثل، بل كانوا يعدونه قرين الفوضى، الذي ينتهي إلى الفوضى، فماذا عن العدل؟ لا يقوده تاريخياً سوى النخب المسؤولة، ومن هذه القيادة تُستحق الحقوق، فحق المسؤول في طاعة المواطن، وحق المواطن في عدل المسؤول، والعدل هنا لا يعني المساواة بين الناس كافة على اختلاف قدراتهم ومشاربهم وشرائحهم، وإنما هو إنزال الناس منازلهم، والتمييز بين هذه المنازل، وإقامة العدل في ما بينها بإعطاء كل منها وظيفته. هذا ما تحتاجه شعوبنا اليوم كي تستقر وتأمن أولاً، «ومن ثم» تتشكّل التربية السياسية للمواطن، ويتولّد الفكر الانتخابي في ثقافته، فيعي من عليه أن يختار، ولم يختره! وعندها لا تخف على شعب عرف طريقه إلى التفكير.
م/ الحياة اللندنية
919 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع