د. جابر أبي جابر
سوسلوف – الكاهن الأعظم
ولد ميخائيل سوسلوف عام 1902 بقرية شاخوفسكويه (مقاطعة روستوف) في أسرة فلاحية فقيرة. وفي عام 1921 انتسب إلى الحزب الشيوعي (البلاشفة). ثم مالبث أن أرسله الحزب للدراسة في "المدرسة التحضيرية للعمال" بموسكو. وعقب التخرج منها (عام 1924) التحق بمعهد بليخانوف العالي للاقتصاد الوطني الذي أنهاه في عام 1928. وبعد ذلك تابع دراسته في قسم الدكتوراه بمعهد الاقتصاد التابع للأكاديمية الشيوعية. وقد كان في الوقت نفسه يقوم بالتدريس في جامعة موسكو الحكومية والاكاديمية الصناعية.
وفي عام 1931 انتقل إلى جهاز لجنة الرقابة المركزية للحزب. وبعد ثلاث سنوات ترأس اللجنة التي قامت بأعمال التطهير داخل هيئات الحزب في إقليم الأورال ومناطق أخرى. وخلال الأعوام 1935-1937 شارك في تنظيم عدة محاكمات ترهيبية للذين" ابتعدوا عن خط الحزب" من أنصار زينوفييف وتروتسكي. وفي عام 1938عيّن سكرتيراً ثانيا للمنظمة الحزبية في مقاطعة روستوف. وفي الأعوام 1939-1944 شغب منصب السكرتير الأول للمنظمة الحزبية في إقليم ستافروبول. وأثناء احتلال الألمان للإقليم المذكور كان عضواً في المجلس العسكري لمجموعة قوات شمال القوقاز وترأس عمليات حرب الأنصار في المنظقة. وفي العامين 1943-1944 أشرف على الترحيل القسري للقرشاي وبعض الأقليات القومية الأخرى من القوقاز إلى كازاخستان وقيرغيزيا بتهمة التعاون مع الألمان ومقاومة السلطة السوفيتية. وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية عيّن رئيساً لمكتب اللجنة المركزية للحزب في جمهورية ليتوانيا حيث منح صلاحيات استثنائية لتصفية الفصائل المسلحة العديدة، التي كانت تسعى إلى طرد السوفيت من أراضي الجمهورية عقب خروج المحتلين الألمان من هناك.
وفي عام 1946 نقل سوسلوف إلى موسكو للعمل في جهاز اللجنة المركزية حيث ترأس قسم العلاقات الخارجية. وفي العام القادم أصبح سكرتيراً للجنة المركزية وشغل في الوقت نفسه منصب رئيس دائرة الدعاية (1947-1952). وفي الأعوام 1948-1953 تصدر الحملة العنيفة الموجهة ضد الكومسوبوليتيين (المقصود ضد اليهود) التي تتوجت في نهاية المطاف بقضية الأطباء. وإلى جانب وظيفته الأساسية عمل سوسلوف لفترة قصيرة رئيساً لتحرير صحيفة برافدا لسان حال الحزب الشيوعي السوفيتي. وفي السنوات الأخيرة من حياة ستالين قام بإعداد الخطابات، التي ألقاها في مناسبات عديدة. وخلال المؤتمر التاسع عشر للحزب، المنعقد في تشرين 1/ أكتوبر عام 1952، انتخب عضواً في المكتب السياسي، الذي كان يُسمى آنذاك هيئة رئاسة اللجنة المركزية. ولكن عقب وفاة ستالين عُزل من هذا المنصب. وقد كان الزعيم السوفيتي يدعوه "السكرتير العام السري للحزب الشيوعي السوفيتي". وبعد عزله عين رئيساً لقسم العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية. ومع ذلك مالبث أن استرد منصبه في المكتب السياسي بحلول منتصف عام 1955 كمسؤول عن القضايا الإيديولوجية. ومن الملفت للنظر أنه لم تكن بينه وبين مالنكوف علاقات ودية نتيجة بعض الخلافات التي انتهت باخراجه من قوام المكتب السياسي في عام 1953. ولهذا فقد تقرب من خروشوف في صراعه مع مالنكوف ووقف إلى جانبه. وفي كلمته أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي أشار سوسلوف إلى أثر عبادة الفرد على إضعاف دور الجماهير والحزب وتجاهل القيادة الجماعية وقتل روح المبادرة. وأقد أكد على أن عبادة الفرد ألحقت أضراراً بالغة على الصعيدين التنظيمي والإيديولوجي. وبعد بضعة سنوات ساءت علاقاته مع الزعيم السوفيتي الجديد من جراء خلافات عميقة ومستمرة تجاه العديد من القضايا نظراً لمواقف سوسلوف المحافظة والمتشددة.
فعلى سبيل المثال عارض سوسلوف تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. كما وقف ضد نهج خروشوف الرامي إلى تطبيع العلاقات مع بلغراد حيث كان يؤكد بإصرار على أن يوغسلافيا لم تعد بلداً اشتراكيا نظراً لانزلاقها نحو النظام الرأسمالي. وقد اعترض على سياسة إزالة آثار الستالينية التي كان ينتهجها الزعيم السوفيتي. ولم يؤيد مخطط تخفيف المركزية المفرطة في الاقتصاد. ولكن، من جهة أخرى، وقف حائلاً دون تحقيق نوايا خروشوف في تحويل الكولخوزات إلى سوفخوزات وأكد على أن الأولى أكثر ربحاً وانتاجية من الثانية. كما كان سوسلوف ينظر بتشاؤم بالغ إلى عزم خروشوف تحقيق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي خلال سنوات معدودة (بحلول عام 1980). وقد أعلن بهذا الشأن قائلاً" علمنا أن الشيوعية لا تظهر فجأة وإنما تأتي إلى حيز الوجود وتنضج وتتطور وتمر خلال نموها عبر مراحل معينة...". غير أنه لم يكن بوسع الزعيم السوفيتي الاستغناء عنه لخبرته الواسعة في القضايا الإيديولوجية. فهو باعتباره المنظر الأول للحزب كان يمتلك مبرارات السلطة نفسها. والمعروف عن سوسلوف أنه كان يحفظ عن ظهر قلب مئات الاستشهادات من مؤلفات ماركس وإنجلس ولينين بخصوص شتى المسائل والمناسبات.
وقد دفعه الاستياء من سياسة خروشوف في نهاية الأمر إلى التفكير بالسعي إلى عزله عن مقاليد الحكم. ولهذا بادر في عام 1964 بالشروع في حبك مؤامرة للإطاحة به فظهرت لتحقيق هذا الهدف مجموعة من المناوئين لعبادة الفرد الجديدة ومنهم ليونيد بريجنيف وأنسطاس ميكويان ورئيس الكي جي بي فلاديمير سيميتشاسني، الذين تسنى لهم الإطاحة به. خلال عمله الطويل في الجهاز الحزبي الرئيسي صار سوسلوف على معرفة ممتازة بطبيعة السلطة السياسية في الاتحاد السوفيتي وآلية عملها. فقد استوعب تدريجياً وعلى نحو جيد قواعد اللعبة السياسية وطريقة التصرف في مختلف الحالات. وكان السعي للخدمة والامتثال إلى أقوال وأوامر الرؤساء أمراً ملائماً لطبيعته. وهذا ما سهّل عليه العمل بدون الاصطدام بأية عراقيل أوحواجز أخلاقية. وقد كانت تلك المرحلة تتطلب أناساً صامتين وبعيدين عن التأمل والتفكير والحس الانتقادي. وكان من الأسهل بكثير على ذوي المدارك المحدودة الترقي في الوظائف والمناصب الحزبية والحكومية آنذاك، وكان المطلوب هنا المراوغة والقدرة على حبك الدسائس وإظهار الوفاء لمن هم أعلى مركزاً والالتزام بالشكليات واللاهوادة في التعامل مع الخصوم والأعداء. وقد انسجم سوسلوف تمام الانسجام مع هذا الوضع. وبفضل ذلك ترقى إلى السلم الهرمي للحزب خطوة وراء خطوة حتى وصل في عهد بريجنيف إلى شغل المركز الثاني في الدولة.على كل حال لم يكن سوسلوف يوماً ما مهتماً بأن يصبح زعيماً للاتحاد السوفيتي إذ كان يفضل البقاء في الظل بعيداً عن الاضواء.
والجدير بالاهتمام أن شقيقات زوجة سوسلوف كن متزوجات من شخصيات بارزة في البلد. فإحداهن كانت زوجة عضو المكتب السياسي أرفيد بيلشيه والأخرى كانت زوجة مدير معهد الفلسفة الماركسية اللينينية الأكاديمي ألكسي يغوروف والثالثة كان زوجها يعمل في جهاز اللجنة المركزية معاوناً لسوسلوف. كان سوسلوف، إلى جانب العديد من الأمور والميادين، مسؤولاً عن العلاقات مع الأحزاب الشيوعية الأجنبية وخاصة الحزب الشيوعي الصيني. وفي خريف عام 1956 قام مع رئيس هيئة أمن الدولة "الكي جي بي" ايفان سيروف وأنسطاس ميكويان بزيارة لبولندا والمجر لتهدئة الأوضاع هناك. وقد استطاعوا بنجاح تسوية الاضطرابات في بولندا والمجيء بغومولكا إلى رئاسة الحزب كشخصية يرضى عنها الشعب خاصة أنه كان بولندياً قحاً خلافاً للزعماء السابقين اليهود. أما في المجر فقد كان الوضع أكثر تعقيداً حيث جرت هناك ثورة شعبية عارمة. وحسب اعتقاد المسؤولين السوفيت المتشددين ومنهم سوسلوف كان من الصعب إيقاف هذا المد الثوري بصورة سلمية, ولهذا اتخذت القيادة السوفيتية قراراً بالتدخل العسكري في هذا البلد الاشتراكي لقمع الثورة. ويرى بعض المؤرخين أن موقف سوسلوف كان المرجح لاتخاذ القرار المذكور. وفي أواخر عام 1979 كان سوسلوف ضمن المجموعة، التي اتخذت القرار الخاص بإرسال القوات السوفيتية إلى أفغانستان من أجل " تأدية الواجب الأممي".
أما على الصعيد الداخلي فالمعروف أن سوسلوف كان دوغمائياً ومحافظاً ومتشدداً. كما كان كتوماً للغاية وحذراً إلى حد كبير ساعياً إلى تجنب المسؤولية الشخصية غير الضرورية. وقد ألقى سلوكه الإيديولوجي الجامد ظلالاً كثيفة على المجتمع السوفيتي خلال سنوات طويلة. فالمعروف أن الإيديولوجيا في الاتحاد السوفيتي لم تكن مجرد ميداناً للدعاية أو مضماراً للعلوم الاجتماعية فحسب، بل وكذلك أداة مهمة جداً في أيدي السلطة الشيوعية. وأوضح مثال على ذلك أن الدرجات العلمية في شتى المجالات كانت لا تمنح بدون تقديم امتحانات في الفلسفة الماركسية اللينينية.
كان سوسلوف مسؤولاً في اللجنة المركزية للحزب عن العديد من المؤسسات الإيديولوجية مثل "الدائرة الثقافية" و"دائرة الدعاية" و"دائرة العلوم والمؤسسات التعليمية" إلى جانب الإشراف على الإدارة السياسية في الجيش السوفيتي و"الهيئة الحكومية للطباعة والنشر" و"المؤسسة العامة للسينما" و"الإذاعة والتلفزيون". كما تعيّن عليه العمل بشكل وثيق مع "الكي جي بي" والنيابة العامة. وإلى جانب هذه المؤسسات الواسعة كلها كان سوسلوف يعير اهتماماً كبيراً لنشاط اتحاد الكتاب السوفيت عبر مشاركته في اجتماعات الاتحاد الرئيسية. كما أن هذا الأمر ينسحب أيضاً على "اتحاد الفنانين" و"اتحاد الصحفيين" ونشاط المسارح. كما اهتم سوسلوف بالمناهج الدراسية ونظام التثقيف الحزبي وكذلك بعلاقة الدولة مع المؤسسات الدينية.. وعموماً أقام سوسلوف شبكة رقابة واسعة في جميع أرجاء البلد. وقد أدخل إلى الجامعات والمعاهد العليا مادة "الشيوعية العلمية". وعلى هذا النحو فقد كان يعتبر "الكاهن الأعظم" للاتحاد السوفيتي.
ارتبط اسم سوسلوف باضطهاد المنشقين وطرد الكبار منهم خارج البلاد مثل الكاتب ألكسندر سولجنتسين والفيلسوف ألكسندر زينوفييف والشاعر يوسف برودسكي. وقد فرض في عهد بريجنيف رقابة شديدة على كافة أشكال المطبوعات بما في ذلك مؤلفات لينين وزوجته نادييجدا كروبسكايا ومكسيم غوركي ومنع نشر عشرات من المؤلفات الأدبية القيمة للكتاب السوفيت، التي لم تصدر علانية إلا في سنوات البيريسترويكا وبعدها. وضمن هذه المؤلفات الممنوعة رواية سولجنتسين" جناح السرطان" التي صدرت باللغة العربية في السبعينات ببيروت ورواية فاسيلي غروسمان" الحياة والمصير" التي نشرت باللغة العربية مؤخراً. وتجدر الإشارة إلى أن سوسلوف اعترض على إصدار رواية أرنست هيمنغواي الشهيرة " لمن تقرع الاجراس" التي تتناول أحداث الحرب الأهلية الاسبانية. ولكن عقب مناشدة زعيمة الحزب الشيوعي الإسباني دولوريس إباروري (باسيوناريا) له بعدم منعها، تم أخيراً نشرها بعد حذف عدد من مقاطعها. على كل حال لم ينجو من مقص الرقيب تحت توصياته وإرشاداته العديد من أعمال دوستويفسكي وغوركي وبلغاكوف إلخ.
في عام 1974 تجاسر مئة فنان من مجموعة الرسام المعروف ايليا بيلوتين على توجيه رسالة مفتوحة إلى سوسلوف احتجوا فيها على أسلوبه المتحجر في التعامل مع الفنانين وأعمالهم الإبداعية مشيرين إلى أن التضييق على حرية التعبير يعرقل تقدم الفن السوفيتي. وبهذا الصدد طالبوه بالاستقالة من منصبه.
ونظراً لمواقفه المعادية لليهود سعى سوسلوف إلى تطهير وسائل الإعلام والمؤسسات الاجتماعية الحساسة منهم، غير أنه لم يستطع تحقيق ذلك إلا جزئياً.
ولكن، من جهة أخرى، كان سوسلوف، خلافاً لمعظم أمناء اللجنة المركزية، متواضهاً ولطيف المعشر بعيداً عن استغلال منصبه للحصول على الخيرات المادية والامتيازات الأخرى. وقد اتسم أسلوب حياته الشخصية بالزهد الشديد والبعد التام عن البهرجة.
ومن مفارقات السياسة أن سوسلوف لعب، إلى جانب أندروبوف، دوراً ملحوظا في الدفع بغورباتشوف إلى الواجهة السياسية. حصل سوسلوف تقديراً لخدماته" الجليلة"على أرفع الأوسمة السوفيتية ومنها وسام لينين(خمس مرات) ووسام ثورة أكتوبر ووسام الحرب الوطنية من الدرجة الأولى. كما منح العديد من أوسمة الدول الاشتراكية كوسام"النجمة الذهبية" (هنغاريا) ووسام" كارل ماركس" (ألمانيا الشرقية) ووسام" غيورغي دمتروف" (بلغاريا). توفي المنظر الأول للحزب الشيوعي السوفيتي في 25 كانون2/يناير عام 1982 أي قبل بضعة شهور من وفاة بريجنيف. وقد أقيمت له جنازة مهيبة في الساحة الحمراء لم يشهد الاتحاد السوفيتي مثيلاً لها منذ وفاة ستالين لأية شخصية حزبية أو حكومية أو عسكرية.
1004 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع