د. زكي الجابر
عسكرة المجتمع ولنا موقف
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
في مؤتمر عالمي عقد في منتصف الخمسينات تناقش مشاركون على اختلاف في العقائد السياسية والاجتماعية في موضوع الحرية. وقد انتهى المؤتمر إلى إجماع في الرأي حول مفهوم الحرية وأساليب تنظيمها، إن كان للحرية ما يقتضيها أن تنظم. وعند خاتمة المناقشات واستقرار الرأي نهض أحد المفكرين ليقول لكل المشاركين: ’’ لقد دفنتم الحرية بدلا من إنقاذها والحفاظ عليها. كيف يمكن لمتناقشين تتباين آراؤهم بين اليمين واليسار والوسط أن يهتدوا إلى رأي واحد وأن يصلوا إلى تجانس وأن يعلنوا فكرة لا يختلفون عليها أو حولها؟!‘‘
أنقل ذلك إليك وقد بدأنا تلمُّس مجتمعات يتحول ناسُها إلى عسكر وأرضها إلى معسكر، لا يحسنون غير قول نعم، ويندفعون إلى حيث لا يدرون استجابة لأمر أو ربما لإشارة. لقد ألفنا في المجتمعات أن تأبى أن تكون بين ظهرانيها عصابات السرّاق أو القتلة أو الإرهابيين أو الملوّحين بالهراوات والمُدى والسكاكين، ليس بحكم مخالفة هذه العصابات للسائد من القيم الاجتماعية، بل لأن هذه العصابات ترى في السرقة والقتل والإرهاب والتهديد والوعيد وسيلة عيش وطريقا لجمع المال. إن هذه العصابات تستعيض عن ’’العمل‘‘ بحمل السلاح وإشاعة الخوف والفتك والسلب والاستباحة. وإذا ما كان ثمة إنكار على تلك العصابات أن تعاف العمل وأن تهين قدسية عرق الجبين فكيف يكون الموقف إزاء تحويل مجتمع برمته إلى حَمَلة سلاح، يعيش على الغزو وتأجيج الصراع الدموي، ويتحول الفخر لا بمدى الإنجاز الاقتصادي بل بمدى سيل الدم وقعقعة السلاح وهدير آلات القتال، وباسم
ذرائع مختلفة تمتد من الحفاظ على الوطن إلى نشر المبادئ!! يقول لنا التاريخ إن التتار كانوا محترفي صناعة القتل. لقد هجروا زراعة الأرض ورعي الماشية إلى غزو ما قَرُب أو بَعُد من شعوب، وتحولت ألمانيا إلى جحافل من العسكر توظف صناعتها الرائعة من أجل الدمار وفناء الشباب تحت رايات قهر العالم!
وإذا كنت مثلي تُؤمن بكرامة العمل والعاملين وشرف البناء والبُناة فإن من مستلزمات وعينا بذاك أن نشير إلى ما يسود المجتمع المعسكر من ضوابط وما يرتسم عليه من ملامح.
إن أبرز بوادر عسكرة المجتمع تتجلى في ذوبان العلاقات الشخصية وأواصر الألفة تحت مظلة رموز مركزية تفرض إزاحة الخصوصية وتتخطى الرحمة وتتجاوز المودة الإنسانية. ولعلك أدرى بهذه الرموز وتباينها عبر الزمان والمكان بالرغم من وحدة نظرتها التي ترى الإنسان نظاما عقائديا، انفعاله انفعال جماعي، وفكره فكر يتجانس والفكر الذي يؤمن به، كما هو مفترض، الجميع. هذه المجانسة لا يهمها أن يجري هذا الجميع إلى الموت، ولا يؤخرها عن ذاك ارتباط بمسؤوليات تجاه الأسرة.
إن نقيض عسكرة المجتمع يتجسد في تبادل الأفكار وما ينطوي عليه تبادل الأفكار والجهر بها من احترام للآخرين وتجنب للعنف وابتعاد عن فرض الرأي بقوة السلاح أو الإرهاب. إن تبادل الأفكار يعني وضع المجتمع في حالة فعل ينأى به عن الوقوع في أيدي عصابة تحترف القهر وتوظف الاضطهاد، كما يعني قيام مؤسسات ترى في الاختلاف ما يركز مشروعية تلك المؤسسات بل مشروعية الدولة في إطارها الكلي والشامل.
إن من أبرز مساوئ المجتمع المعسكر ليس في اتخاذ الموت بديلا عن الحياة، بل في تكوين الأحياء الموتى، وفي تحويل رجال العصابات إلى نجوم وأمثلة تُقتدى، وفي تلاشي قيم الأسرة من ترابط وتعاطف ليحل الانشداد إلى شعارات طالما اتسمت بالغموض
والضبابية. وإزاء هذا الغموض وتلك الضبابية يختفي الاستفهام ويخبو نور التساؤل وتتلاشى أنوار الحرية.
قد تختلف مسببات سقوط المجتمعات في العسكرة وإنكار فضيلة العمل واحتراف صناعة الرعب، وقد تكون ثمة مسببات خارجية تتفاعل مع أخرى داخلية تساعد على استنبات الولاء الأعمى، ولكن، إذا لم يغالطنا الظن، فإن انحسار المناخ الفكري وتلاشي الطاقة الثقافية وانطفاء الوهج الحضاري تشكل عوامل تتحد لتدفع في اتجاه انحدار العقل الإنساني وانتشار روح الكسل وسيادة الاتجاهات الرافضة للنقد والحافزة إلى التدمير وتجريد الإنسان من إنسانيته وتحويله إلى ذئب لا يعرف التراحم والتواد.
إن في سيادة الجو الثقافي الذي تتصارع فيه الآراء وتتفاعل تيارات النقد ما يدفع بالموقف الاجتماعي إلى النضج، حيث ينهض الأفراد بأدوارهم الاجتماعية عن وعي حقيقي، وتقوم قوى الإنتاج بأداء وظائفها الفاعلة في ازدهار الحركة الاقتصادية ونمو حركة العمران، وقبل ذلك وبعده تنامي الشعور بحقوق الإنسان وضرورة احترام كرامة المواطن والوعي بأن للحياة نعيمها الذي ينبغي أن يذاق.
قد يكون من أسوأ أنواع الهلع ذلك الإحساس بأن أطفالنا سيضمهم، شبابا، مجتمع لا يؤمن بالعمل بقدر إيمانه بقدرة السلاح، وأنهم قد يكونون حطبا في محرقة توقدها شعارات البطولة وحماسة أبطال المافيا وعصابات الإرهاب. إن هذا الإحساس لا ينبغي أن يسوقنا إلى الجبن والعجز بل إلى الدفاع عن الحرية، حرية تبادل الأفكار واحترام الآخر وإشاعة التراحم وتحكيم قوى العقل الذي قال عنه حكيم المعرة وشاعرها ذات يوم:
كذب الظن لا إِمام سوى العقل
مُشيرا في صُبحِه والمساءِ
فإذا ما أطعتَه جلب الرحمة
عند المسير والإرساءِ
إن العنف يفسد الإنسان، ذلك ما جاء في الشهادة التي قدمها في مقر اليونسكو بباريس مخرج أفلام أطفال هادئ الصوت. لقد جاء في نص الشهادة: ’’عندما قَتلت رجلا أول مرة أصابني الغثيان. بعد سنوات وخلال الحرب وبصفتي ضابط مدفعية، مسحتُ من الوجود قرية بأكملها ولم تتأثر فيَّ شعرة واحدة. ‘‘
لا يستطيع أحد أن يدّعي بأن العنف لا يفسد الإنسان، وهل بالوسع أن يقول قائل غير ذلك!
**************
* نشرت في صحيفة العَلَم (المغرب)، 7-3-2000
849 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع