للزلازل مفاتيح وأبواب

                                         

أكد الناجون من كارثة تسونامي أنهم التقطوا بعض الإشارات قبل هبوب الإعصار، فأمواج البحر الناعمة ارتفعت أمواجها فزعة، وضربت الزلازل قاع البحر، وهربت الحيوانات قبل انفلات الإعصار بالكامل وإغراقه مساحات شاسعة من الأراضي والبشر.

ليست تسونامي متفردة في طرح مقدمات وقرع الأبواب لمن يجيد قراءة لغة نقرها. فحتى الكوارث المصنوعة بيد الإنسان تسبقها مقدمات. ففي الرابع والعشرين من أكتوبر عام 2000، وقبل عام من انهيار برجي التجارة العالمية بنيويورك، بدأ البنتاجون تدريبات ضخمة أطلق عليها اسم «ماسكال» تضمنت محاكاة لاصطدام طائرة بوينج 757 بمبنى البنتاجون. وفي أول يونيو ظهرت تعليمات جديدة فجائية من رئاسة الأركان العسكرية تمنع أي إدارة أو قوة جوية من التدخل في حالات خطف الطائرات بدون تقديم طلب إلى وزير الدفاع الذي يبت بالقرار النهائي بخصوص الإجراء الذي يمكن أن يتم اتخاذه. وقبل يوم واحد من الحادثة التي ضربت تداعياتها المنطقة العربية بعنف، وفي العاشر من سبتمبر عام 2001 وصل إلى «ويلي براون» محافظ سان فرانسيسكو اتصال هاتفي ينصحه بعدم الطيران إلى نيويورك لحضور اجتماع كان مقررا في الحادي عشر. واتضح فيما بعد أن المكالمة صدرت من مكتب «كونداليزا رايس». وفي نفس اليوم وصباح الحادي عشر من سبتمبر عام 2011 أيضا تم بث صور طائرات مقاتلة وهمية على شاشات الرادارات العسكرية مما أربك الدفاعات الجوية. ضرب البرجان ومن بعدهما بعامين ضرب العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل.
الكوارث الطبيعية وتلك البشرية تسبقها مقدمات، وكذلك الأحداث الشخصية الكبرى يسبقها إشارات. فقبل وفاة أمي بأشهر ثلاث رأيت في نومي أن نصف شعري قد اقتلع. ثم كان أن هرب بدون سبب القط الذي ظلت تحبه وتنظر إليه بحنان، حتى بعدما تداخلت عليها الأسماء وباتت تناديني باسم أمها تارة واسم أختها تارة أخرى. وفي الأسبوع السابق لوفاتها انشطرت قطعتها الخزفية الأثيرة إلى ألف قطعة وكانت قد ورثتها من آجال بعيدة في أسرتها، وطالما روت حكايات العائلة مبتدئة من المزهرية التي انتقلت إلى جدتها يوم أن تزوجت. وفي العام الماضي وقبل أن تقرر طبيبة الأسنان التي تعالجني خلع مهنتها والتفرغ للأدب، قدم إلى عيادتها مريض تصادف أن كان ناشرا. رأى على مكتبها بعضا من المجموعات القصصية والروايات وعلم من حوارهما أنها تكتب القصص القصيرة، فطلب نماذج من عملها. وفي الموعد التالي وقبل أن يبدأ علاج أسنانه أخبرها برغبته في نشر مجموعتها. قالت لي فما بعد إن الرجل كان يتردد على عيادتها منذ عامين، وأن مكتبها مكدس بالروايات دائما، لماذا انتبه ذلك اليوم؟! أجبتها: «ذلك هو موعدك مع النشر».
وكما تسونامي والحادي عشر من سبتمبر، قدمت ثورة مصر تونس إشارات مبكرة. ففي مصر اندلعت مظاهرات العمال في مدينة المحلة العمالية منذ عام 2006، ولم تتوقف طيلة الأعوام التالية، وقبل الخامس والعشرين من يناير يموت في مصر أربعة أشخاص حرقا اعتراضا على إفقارهم بسياسات ظالمة تعمد إلى إلقاء الفقراء إلى الجحيم، وقبل ثورة تونس كانت البلاد تغلي. كنت قبلها بشهرين هناك وفوجئت باسمي «بن علي وليلى الطرابلسي» حاضرا على كل الطاولات. في الأسواق كان التجار يلعنون النظام جهرا ولم تتغاضى الأغاني والفرق المسرحية عن الظلم والفساد يوما. كل المقدمات كانت حاضرة في دول الثورات، وهي أيضا حاضرة في دول أخرى قد تنتظر بعض الوقت كي يشتعل وقودها الجاهز للاشتعال.
يبدأ التغيير دوما بزلزال ما، وكما تتغير ملامح الأرض وما عليها بفعل الهزات نتغير نحن أيضا بفعل الزلازل الكبرى التي تضرب حياتنا. انتبهت إلى أمر الزلازل في حياة البشر حين بدأت في تسجيل السير الذاتية لعدد كبير من النساء في إطار أحد المشروعات الأدبية، لأفاجأ بزلزال حاضر في حياة كل منهن، «بعد الطلاق رأيت الدنيا بعدسة أخرى»، «بعد موت أبي»، «بعد مرض ابنتي»، «بعد القبض علي في المظاهرات»، «بعد تعرضي للحادثة»، «بعد وقوعي في الحب». أنواع من الزلازل دمغت حياتهن وصارت تؤرخ لما قبلها وما بعدها. لم تعد تلك النسوة كما كن، تماما لم تعد مصر كما كانت، ولم تعد «المنصورة مدينتي كما كانت منذ تغير وجهها على يد الإنسان «محمد غنيم» عقب إنشائه صرحه العلمي «مستشفى الكلى». ولم تعد العلاقات بين أميركا والعالم كما هي بعد زلزال الحادي عشر من سبتمبر، ولا عاد إلى أطفال تايلاند أو اليابان الذين فقدوا ذويهم في الإعصار حياتهم السابقة، ضربهم الزلزال مبكرا، نحن البشر كما المدن، كما الدول، كما العالم ننشطر إثر الأحداث الكبرى، نتمزق ونعود للتشكل لنكون كما يجب علينا أن نكون.. لنكون أكثر جمالا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

918 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع