سلام مسافر
ثلاثة أيام صعقت العالم! - الحلقتين الثانية و الثالثة
وصلت بيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف الى طريق مسدود.
لم تفلح الاصلاحات الترقيعية، في رفع الانتاج الصناعي، والزراعي، ودخلت مناطق باكملها في دوامة نقص حاد، لم يشمل المنتجات ذات الاستخدام الشعبي المنزلي الواسع، بل اختفت من المحلات، المواد الغذائية الرئيسية، وتضاعفت الطوابير لتمتد كيلومترات، خلافا لوعود غورباتشوف؛ بتحقيق الاكتفاء الذاتي، ورفع المعاشات ومستوى الدخل، ووفرة الغذاء والسلع.
ولعب إنخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، دورا رئيسا في إصابة الاقتصاد بالشلل، تفاقمت حالته، على يد مؤسسات الدولة المترهلة التي اجتاحها وباء الفساد، والروتين، والإدارات السيئة، وغياب الرقابة، وضعف القيادة حقبة ليونيد بريجنييف وعجائز الحزب الشيوعي السوفيتي، وكان غورباتشوف أصغرهم سنا في العقد الخامس حين تسلم قيادة الحزب والدولة، وعقدت عليه الآمال في الإصلاح .
وفيما كان المواطنون، ينهضون بواكير الفجر، للوقوف في طوابير لاقتناء زوج مستورد من الأحذية او بنطلون جينز، كانت غالينا بريجنيف، إبنة الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي، ليونيد إيليتش بريجنيف، تصحو من سكرة الليلة الماضية، مرعوبة، منفوشة الشعر، عكرة المزاج؛ تهرع نحو حديقة بيتها الريفي الفخم، كي تتاكد من أن المجوهرات المدفونة تحت إحدى شجرات السرو لم تمس!
كانت قصص خياناتها الزوجية، مع ضباط وزارة الداخلية، حيث يعمل زوجها وزيرا، على لسان المواطنيين همسا، وبصوت مسموع ،تنتشر على انها٦ فولكلور شعبي في السنوات الأخيرة لحقبة كهول المكتب السياسي.
و على نطاق واسع، ذاع صيت، مؤلفات المؤرخ الروسي المعروف روي ميدفيديف، الذي أطلق عليه الصديق المترجم القدير المقيم ثمانينات القرن الماضي في موسكو ، حسين محمد سعيد، تندرا لقب " أبو قلام" لانه أشتهر بصورته مع دست من أقلام باركر تطرز الجيب الايسر أعلى سترته!
ولأقلام المؤرخ روي ميدفيديف؛ قصة:
فقد كان يصنف وشقيقه التوأم جورس ميدفيديف على إنه منشق عن النظام، لكنه لم يتعرض الى الملاحقة خلافا لشقيقه، الذي اعتقل عدة مرات وكان عالم أحياء،وكاتب، الف كتابا بعنوان " علم الأحياء وعبادة الفرد" سلط من خلاله الضوء على تدخل ستالين في توجيه العلماء لأغراض ايديولوجية لا تخدم تطور العلوم ، فعوقب واعتقل، و هاجر الى الغرب، وساعد شقيقه في نشر كتب ومقالات تفضح بذخ اسرة ،وحاشية الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي، وحظيت باقبال واسع من القراء المتعطشين لمعرفة ما يجري داخل الاتحاد السوفيتي.
ولم يجد جورس ميدفيديف؛ غير القرطاسية، وأقلام الباركر الفاخرة، طريقة لدفع المكافآت الى شقيقة، بحكم ان المال المرسل من الخارج يضعه تحت طائلة القانون.
وهكذا تحولت باركر الى علامة فارقة للمؤرخ المُعمر، مواليد 1925 ( أبو قلام).ومع ان اغلب مؤلفات التوأمين ميدفيديف ، محظورة، الا انها كانت تباع في مخازن العملات الصعبة بموسكو .ومن ثم تنتشر بين القرّاء.
ومع وصول غورباتشوف الى قيادة الحزب والدولة، تكشف المستور، وصدرت آلاف الكتب والمقالات وحتى الأفلام الوثائقية، تتحدث عن فساد بريحنيف، وولعه بالسيارات الفارهة وامتلاكه لمجموعة من سيارات فيراري وكاديلاك وبورش التي ما كان المواطن السوفيتي يراها الا في الافلام الاميركية ، واقتناء زوجته وابنته الفراء الثمين، وإحياء حفلات باذخة تستخدم في لياليها أطقم من الكؤوس والصحون الذهبية لأسرة ال رومانوف؛ آخر القياصرة الروس، يتم إخراجها من المتاحف، وقسم منها كان يتحطم اثناء حفلات المجون.
انتشرت الفضائح، كالزيت في الماء، وصدرت صحف التابلويد بمئات آلاف النسخ، تصل أحيانًا الى مليون وأكثر، لا تترك زاوية معتمة في الماضي السوفيتي الا واقتحمتها؛ حقا ام باطلا.
في هذه الاثناء، تلاشت الى حد العدم، الثقة بعدالة النظام الاشتراكي؛ وصار الجمهور يقارن بين ( الغرب المتعفن) وفقا للادبيات الحزبية السوفيتية، والنظام ( الزاهر) في بلادهم.
ولم تشفع مجانية التعليم والخدمات الصحية، والسكن بايجارات وخدمات لا تزيد عن خمسة بالمئة من الراتب الشهري، والنقل بأجور رمزية، وغيرها من مقومات النظام الاشتراكي؛ في تعزيز قناعة الجماهير بأفضلية النظام في الاتحاد السوفيتي على الراسمالية المتوحشة .
وانطلقت مئات النكات تسخر من النظام ورموزه، وصار الغرب الجنة المفقودة بالنسبة للملايين الضجرة من طوابير السلع والغذاء.
وأخذت قبضة موسكو؛ تضعف على الجمهوريات السوفيتية، التي بدات تعلن رغبتها في الانفكاك عن الإتحاد السوفيتي، وانفصلت جمهوريات البلطيق الثلاث؛ لاتفيا ولتوانيا واستونيا، وباشرت أرمينيا وجورجيا إجراءات فك الارتباط بموسكو وأخذت جمهوريات آسيا الوسطى تتململ في انتظار ساعة الحسم، وازدادت ديون الإتحاد السوفيتي الداخلية والخارجية، وفقد الروبل ما تبقى له من قوة شرائية.
وصارت المضاربات بالعملة عنوانا لدولة تحتضر.
سلام مسافر
يتبع…
الصور:
*التوأمان روي وجورس ميدفيديف
*غالينا بريجنيف مع والدها الأمين العام للحزب الشيوعي السوفيتي ليونيد ايليتش بريجنيف
------------
ثلاثة ايام صعقت العالم!
سلام مسافر - الحلقة الثالثة
على خلفية، الإحباط الشعبي العام، من النظام السوفيتي، والتنكر لجميع حسناته، مقارنة بأوضاع شعوب البلدان الأوربية، وما يشاع عنها من رفاه، وحريات عامة، تعرف عليها المواطنون السوفيت، مباشرة، وليس عن طريق الأفلام، اثر فتح السفر بعد ان كان حكرا على النخبة الحزبية، و بعض أبطال العمل الاشتراكي، والخبراء والبعثات بأعداد محدودة.
فقد انتعشت تجارة الشنطة، اوغ الرحلات الكوكبة بين تركيا والمانيا، والصين والإتحاد السوفيتي، بهدف التسوق، وممارسة تجارة المفرق،بحشر الحقائب في عربات القطار المزدحم بتجار السوق الموازية .
واذا كانت تجارة العملة، والتعامل مع السوق السوداء ، جريمة اقتصادية، في الحقب السابقة، فانها حقبة غورباتشوف، غدت ممارسة طبيعية، تشترك الأجهزة الأمنية في أرباحها؛ بل إن كبار المرتشين أو من كانوا يعرفون" اللصوص الشرعيين" الذين أطلق سراحهم من السجون، صاروا يديرون تجارة الشنطة، ويؤسسون لأسواق مفتوحة على نمط البازارات الشرقية ، فيها كل ما تقذفه محلات الخردة الأوربية.
وجرى إفتتاح محال تجارية باسم الماركات العالمية مثل بيير كاردان وفيجي وزارا وماركس اند سبنسر وغيرها.
وفي خلال فترة قصيرة، تكونت طبقة من الاثرياء؛ قامت بتمويل وسائل أعلام، لم تبق حجرا على حجر في النظام السوفيتي، الا وقلبته، وتجاوز الأمر الى النقد القاسي، لكل الحقبة السوفيتية، وساهم الكتاب والصحفيون الليبراليون ذوي التوجهات الغربية في تسويد صفحة النظام السوفيتي على مدى سنواته السبعين.
وتحول الحزب الشيوعي الى آلة ضخمة عاطلة، يعقد مؤتمرات شكلية؛؛ يصفق مندوبو المؤتمرات ببلاهة، والية لخطب غورباتشوف الذي كان يغرق في الوعود، فيما خصمة اللدود، بوريس يلتسين، يتجول في الشوارع مع أنصاره ومريديه؛ ينادي بتغيير جذري للنظام، وتجريم الحقبة السوفيتية، واجتثاث الحزب الشيوعي، مع انه كان لوقت قريب جدا أمين عام منظمة موسكو للحرب الشيوعي السوفيتي، وعضوا قياديا في اللجنة المركزية لأكثر من ثلاثة عقود.
وفي خطوة، أطلقت اشارة البدء لنسف الدولة الاتحادية، أعلن يلتسين إستقلال روسيا، بعد آن جرى انتخابه في اقتراع شعبي عام رئيسا لجمهورية روسيا الاشتراكية السوفيتية.
وولدت، سلطتان، الاولى يتراسها غورباتشوف غير المنتخب شعبيا بل المعين من قبل مجالس السوفيت( البرلمانات المحلية) ورئيس شعبوي، يعد بالانفتاح الاقتصادي،والشراكة مع الغرب، وفتح الأسواق أمام الاستثمارات، وخصخصة ممتلكات الدولة، وانهاء دور الحزب الشيوعي في قيادة المجتمع والدولة.
وبينما كانت موسكو ولينينغراد( استعادت اسمها التاريخي بطرسبورغ) تموران بالأحداث ، ويتصارع السياسيون فيها على الحكم، وتنحاز غالبيتهم الى الشعبوي يلتسين؛ كانت أقاليم روسيا الشاسعة تعاني من نقص حاد في السلع والمواد الغذائية، ومن تعثر الخدمات، الأمر الذي أيقظ الحركات القومية الانفصالية من سباتها.
واخذت الجمهوريات السوفيتية، تنفصل كالنيازك عن المدار السوفيتي ومجرته موسكو.
أدرك ميخائيل غورباتشوف أن الأمور تفلت بسرعة من قبضته، فأقترح معاهدة جديدة للاتحاد بين الجمهوريات السوفيتية.
وتم مطلع أذار/ مارس 1991 تنظيم أستفتاء شارك فيه مواطنو تسع جمهوريات في مقدمتها روسيا، حول الحفاظ على الدولة الاتحادية بعد الإتفاق على معاهدة جديدة تتضمن اصلاحات دستورية وإدارية.
لقد صوت اكثر من سبعين بالمئة على بقاء الاتحاد بصيغته المحسنة. لكن قادة الجمهوريات سواء المشاركة في الاستفتاء او تلك التي قاطعت، لم يكترثوا لنتيجته، وكانوا سبّاقين الى الانفصال .
واصل غورباتشوف الإتصال مع رؤساء كازاخستان واوكرانيا وبيلاروسيا وغيرها لاعداد معاهدة الإتحاد الجديد باسم " أتحاد الجمهوريات المستقلة" على غرار الكومنولث على ان تبرم في موسكو يوم 20 اغسطس 1991.
وفي الخامس من الشهر، طار غورباتشوف،وعقيلته رايسا مع ابنته وحفيدته للاستجمام في إجازة سنوية على شاطئ البحر الأسود بجزيرة القرم.
وظهر معظم قادة الإتحاد السوفيتي في مطار فنوكوفو الحكومي يلوحون له مودعين،دون ان تظهر أية علائم على انشقاقات في المؤسسة الحزبية،التي حافظ كل قادتها على تأييد خطوات غورباتشوف،
وان فلتت من بعضهم مثل ايغور ليغاتشوف عضو المكتب السياسي، سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، تلميحات، تنتقد الاندفاع، بدون كوابح، نحو الإجراءات الخطيرة في بعض مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية، لتظهر لاحقا الى العلن بقوة، على شكل مناوشات مع الشعبوي بوريس يلتسين، ولتصبح صرخة ليغاتشوف في آخر مؤتمر للحزب" باريس انت غير محق" لازمة شعبية، ومادة لقصائد " الدارمي" و" المربع" على الطريقة الروسية وفيها قدر كبير من قاموس الشتائم التي تخدش الحياء، وقد تشنف الأذان!
فقد أعترض ليغاتشوف على تشكي يلتسين، وتلويحه " بالمظلومية" التي يعاني منها، بإعتباره اصلاحيا، منفتحا، وسط متعصبين عميان.
واتهمه بمحاولة تسخير منظمة موسكو الحزبية، لأهداف تكتلية، وتعريض الحزب الى التفكك. ولم يوفر من المصطلحات اللينينية عن التحريفية والانتهازية، وخيانة الحزب وغيرها من الطعون .
المفارقة، أن حملة من اعتبروه يمينيا، يعاني من الجمود العقائدي، خدمت في المحصلة، يلتسين، وجعلت منه ضحية، تتعاطف معه قطاعات واسعة من الرأي العام المحبطة.
وعلى طبول"المظلومية"،تقدمت جحافل حاملي نعش الشيوعية!
سلام مسافر
يتبع…
الصور:
*القيادات السوفيتية على منصة الموتمرات وفاق في الظاهر وخلافات مدمرة تحت الطاولة.
للراغبين الأطلاع على الحلقة الأولى:
https://algardenia.com/maqalat/50350-2021-08-16-06-24-44.html
948 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع