الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
عائلة جميل الملّا خليل النقيب -الجزء الثاني: قصة إنقاذ بغداد من فيضان عام 1954
شهدت بغداد أخطر فيضان لنهر دجلة في سنة 1954 والذي هددها بالغرق، بسبب ارتفاع مناسيب النهر وقلة السدود، وكانت الرصافة الأكثر تهديداً بالغرق. وكان هذا الفيضان أسوأ فيضان يحصل لبغداد في العصر الحديث، كما كان هذا الفيضان السبب وراء اعتذار رئيس الوزراء فاضل الجمالي يوم 25/3/1954 عن عقد اجتماع الجامعة العربية في بغداد.
لقد قام قداسة بابا الفاتيكان يوم 9/4/1954 بالصلاة لبغداد وأهلها من كوارث هذا الفيضان والتبرُّع بهبة مالية كمساعدة. كما قام الملك فيصل الثاني، والذي لم يكمل السنة على تتويجه، بالتبرع بسيارته الخاصة نوع مرسيدس وتسليمها إلى اللجنة العليا لإغاثة منكوبي الفيضان لبيعها والتصرُّف بثمنها لإغاثة المتضررين.
لقد كانت الوسيلة الرئيسية لحماية بغداد هي سدة (ناظم باشا) شرق بغداد والتي بناها والي بغداد ناظم باشا عام 1910 وبمدة عشرة أشهر فقط، حيث غادرها عام 1911 وقُتل على يد رجال حزب الاتحاد و الترقي التركي عام 1913. ومكان سدة (ناظم باشا) الحالي في شارع محمد القاسم-الطريق السريع.
وسدَّة (ناظم باشا) عبارة عن مرتفع ترابي يمتد من الصليخ شمال بغداد وحتى الزعفرانية جنوبها، وكانت هذه السدَّة تُعاني من سوء الصيانة حتى ذلك الوقت، وقد فقدت قيمتها عند انتهاء تنفيذ مشروع الثرثار عام 1956.
بتأريخ 17 آذار 1954 بدأت مناسيب المياه في نهر دجلة ترتفع، ووصلت هذه المناسب إلى مستويات خطيرة في 25 آذار، واعلنت البلاغات الرسمية أن الزيادة لم يسبق لها مثيل منذ 48 عاماً.
واصلت المناسيب ارتفاعها، فتولى الجيش والشرطة والأهالي حراسة السدود، ومع ارتفاع مناسيب المياه، كانت المخاوف تزداد. وتم تخويل مديرية الري العامة باتخاذ أي إجراء تجده مناسبا والقيام بعمل فتحات (كسرات) في بعض المواقع شمال بغداد لتخفيف الضغط على المدينة حسب تقديرها. إلا أن الموقف استمر في التدهور، فمستوى النهر مستمر في الارتفاع وقد غمرت المياه بعض القرى والمناطق شمال بغداد مما أدى إلى تشريد سكانها.
كما أخذت المياه تدخل بعض المناطق القريبة من النهر داخل المدينة، واقتصرت المحاولات الحكومية على إجراءات غير كافية لتقوية سدة ناظم باشا، فعملوا ليلا ونهارا وحتى تحت ضوء الفوانيس.
وفي هذه الأثناء كانت الإشاعات المستندة إلى الخيال تزداد عددا وانتشارا، وكان لإذاعة بغداد دور فعال في دحض تلك الإشاعات وتعبئة الناس، فقامت بإذاعة نشرة كل نصف ساعة حول تطورات الموقف، كما كانت تنشر في الفترات بين النشرات الأناشيد الوطنية وكأنها حالة حرب.
وفي يوم 26 آذار قاربت الزيادة في المياه 36 متراً، وهو المنسوب الذي يفوق درجة الخطر بمتر واحد، فنامت بغداد ليلة 27 آذار وهي فزعة قلقة يُهددها الفيضان والغرق في كل لحظة. واضطرت سلطات الري إلى فتح أربع كسرات في مناطق الخفاجي والرفيع واليهودية والداودية. وسهر الناس ليلة 28 آذار حتى الصباح وهم خائفون وايديهم على قلوبهم. فقد بدأت المياه تتسرب إلى كثير من الدور والمؤسسات القريبة من النهر، وتحولت ساحة السراي الكبرى إلى بحيرة تعذر على الموظفين اجتيازها.
وكانت ليلة 29 آذار أسوء الليالي التي شهدتها بغداد، وصارت مياه الفيضان التي تجمعت خلف السدود المحيطة بها من الشرق ومن الجنوب تهدد العاصمة بغداد، ولا يحول بينها وبين الكارثة سوى (سدة ناظم باشا) التي تحيط ببغداد من الناحية الشرقية وقد أصابها الهزال وأخذت الرياح الشرقية تضغط عليها.
وأثناء هذه الأيام العصيبة قام روفائيل بطي الذي كان وزير دولة بتسليم موظفي الإذاعة بيانا رسميا لإذاعته ضمن نشرة أخبار الساعة الثامنة مساءا، وقبيل الموعد المقرر للنشرة قرأ العاملون بالإذاعة البيان فيما بينهم وأصيبوا بالفزع لأنه كان في الحقيقة أمرا بإخلاء جانب الرصافة من بغداد وذهاب السكان إلى جانب الكرخ. وإذا بوزير الداخلية سعيد قزاز (1904-1959) يدخل إلى دار الإذاعة ويطلب من المذيع (محمد علي) إعطاءه البيان، وقام بتمزيقه أمام الجميع مصرحا بأنه لا حاجة لإذاعة البيان وإن سأل أحدهم عن سبب عدم إذاعته فعليهم القول بأن سعيد قزاز هو الذي الغاه وهو المسؤول عن الموقف وإنقاذ بغداد وأن الإذاعة هي ضمن دوائر وزارة الداخلية والتي هو وزيرها آنذاك.
وفي ليلة 29 آذار اجتمع رؤساء الوزراء السابقون والوزراء والمسؤولون وبعض النواب والاعيان واتخذ مجلس الوزراء بعد مناقشة دقيقة للموقف قراراً بإخلاء بغداد إخلاءا جزئياً.
وقال البيان: (إنه من المستحسن أن يُنقل الشيوخ والأطفال الصغار والمرضى من المناطق المجاورة للسداد الشرقية إلى جانب الكرخ..). وكان في بغداد آنذاك زهاء الثلاثة أرباع المليون نسمة يسكن ثلثهم في جانب الرصافة المُعرَّض للغرق.
لقد كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت هو الدكتور محمد فاضل الجمالي (1903–1997) وهو شخص اكاديمي يفتقر إلى الخبرة. أما وزير الداخلية في تلك الوزارة فهو سعيد قزاز (1904–1959)، والذي كان من أكثر الوزراء شهرة وكفاءة.
لقد عُقد اجتماع عاجل في بغداد ضم أعضاء الحكومة ورؤساء الوزراء السابقين وذوي الخبرة من عراقيين وأجانب. وقد سأل وزير الداخلية (سعيد قزاز) مهندس الري البريطاني عن درجة الخطر المحدق بالعاصمة، فأجابه المهندس أن درجة الخطر تبلغ 95%.
لقد كان صالح جبر (1896-1957)، أحد رؤساء الوزراء السابقين، ممن حضروا ذلك الاجتماع، وكان من المؤيدين لإخلاء الرصافة وقال: "إن نخوة أهل الكرخ تسمح بإيواء سبع عائلات في كل دار من دورهم!!".
أما الوزير سعيد قزاز فكان من أشد المعارضين لإخلاء الرصافة لما يولَّد تنفيذه من ارتباك قد يؤدي إلى التهلكة.
ولما حضر الأمير عبد الإله الاجتماع وجد نفسه بين قرار لمجلس الوزراء ومعارضة شديدة من جانب وزير الداخلية، وكانت وجهة نظر القزاز أن في بغداد جسرين فقط؛ فإذا اصطدمت سيارتان من سيارات المتسابقين في الهرب عند الإخلاء وقعت مذابح لا تُعرف مغبتها ولا يمكن تلافي أضرارها.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار كون سعيد قزاز وزير الداخلية فحسب بينما كان معارضوه رئيس الوزراء الجمالي وأغلبية الطبقة السياسية، فإن نجاحه في التغلب على وجهة نظرهم وفرض رأيه كان بفضل شخصية قوية بما يكفي لدعمه في هذا النقاش، والشخص الوحيد الذي تمتع بهذه المزايا آنذاك كان بالطبع نوري باشا السعيد (1888-1958) الذي ميَّز لغة الخبرة والشجاعة عن لغة الهلع وعدم المعرفة ودعم سعيد قزاز بقوة في موقفه.
اتجهت الأنظار نحو وزير الداخلية سعيد قزاز بانتظار الخطوة التالية بعد أن نال ثقة الحضور. عندها قال سعيد قزاز للمجتمعين: (هناك شخص واحد ذو كفاءة يستطيع إنقاذ بغداد من هذه المحنة القاسة.. إنه العميد الركن خليل جميل آمر صنف الهندسة في وزارة الدفاع).
فاتصل به أثناء الاجتماع طالبا منه الحضور فورا، وعند حضور العميد الركن خليل جميل واطلاعه على القرار طُرح عليه السؤال التالي: "هل تستطيع إنقاذ بغداد وتحمل المسؤولية الكاملة للعملية و نتائجها؟". فكان جوابه الفوري "نعم". وأكد للحضور امكانية إنقاذ العاصمة من قبل الجيش وتحمل المسؤولية الكاملة بشرط أن يقوم الجيش بمفرده بهذه المهمة الصعبة دون أي تدخل من أية جهة أخرى، فصنف الهندسة العسكرية كان يضم أفضل ضباط الجيش العراقي آنذاك.
فقرر نوري باشا السعيد البت في الأمر وكانت نتيجة الاجتماع عدم إخلاء جانب الرصافة وتحميل العميد الركن خليل جميل كامل المسؤولية لإنقاذ بغداد.
وتم إلغاء تخويل مديرية الري العامة وتم بدلا من ذلك تخويل الجيش العراقي البطل بإنقاذ بغداد من الكارثة، وقامت الحكومة بتعيين العميد الركن خليل جميل بمنصب (آمر الفيضان) وتم إعطاءه صلاحيات الحاكم العسكري المطلقة التي شملت تجاوز رئاسة أركان الجيش في العمل.
لقد كان رد فعل العميد الركن خليل جميل سريعا وحاسما وهو استنفار الجيش العراقي البطل لحماية بغداد الحبيبة والدفاع عن أمنها، وأمر بجلب أحد الأفواج من الموصل لحراسة السدة بشكل خاص وقد قام هذا الفوج بمهمته بكفاءة عالية.
وأمر العميد الركن خليل جميل باستعمال جميع المعدات المتوفرة لدى الجيش العراقي وكذلك معدات الشركات المحلية والأجنبية العاملة في العراق والتي كانت من ضمنها شركة بلفور بيتي البريطانية التي كانت تقوم بتنفيذ مشروع الثرثار آنذاك.
ويذكر شهود عيان عاصروا الحدث أن اللواء الركن خليل جميل كان يتابع أدق التفاصيل حول تعلية سدة ناظم باشا من قبل المجموعات الشبابية وكان طلبة الثانوية يقومون بنقل أكياس الرمل إلى السدة لتعبئتها. كما شارك الملك فيصل الثاني والأمير عبد الإله بتعبئة أكياس الرمل ونقلها لوضعها على السدة.
ونتيجة لذلك حدث تغير مفاجئ في جهود إنقاذ بغداد، فقد تغيّر كل شيء لتصبح عملية الإنقاذ في غاية الدقة والفعالية، فتم تحصين السدة بكفاءة وسرعة فائقتين، وبعد عمل مضن دام ثلاثة أيام بلياليها لم يذق العميد الركن خليل جميل وضباطه وجنوده والوزير سعيد قزاز خلالها طعم النوم حتى تم التأكد بأن السدة لن تنهار وسكان الرصافة سيبقون في منازلهم آمنين، وتم الإعلان بحدوث انخفاض في مستوى دجلة وانتهت مهمة الجيش بنجاح تام ولله الحمد.
لقد تجاوزت المساحة التي غمرتها مياه الفيضان مليوني فدان، وبلغ عدد الذين نُكبوا بسببها كان نحو ربع مليون نسمة. أما الاضرار المادية التي لحقت بالطرق والأراضي الزراعية وغيرها فقد تجاوزت خمسة وثلاثين مليون دينار. وقد غرقت (بغداد الجديدة) برمتها ولم تبق منها إلا مداخن كور الطابوق، وغرقت حدائق الوزيرية بمياه المجاري، وغرق (معسكر الرشيد) بما فيه من عتاد وأرزاق، وغرق كل ما كان خلف سدة ناظم باشا.
لقد أرسل عبد الخالق حسونة أمين عام الجامعة العربية برقية مواساة، كما تولت الحكومة المصرية إرسال بعثة طبية، وأرسل لبنان بعثة من الأطباء والممرضات والأدوية. وتبرع الملك سعود بنصف مليون ريال، كما تبرعت بريطانيا بألف خيمة وبخمسة ملايين كيس رمل نقلتها طائرات خاصة سقطت إحداهن وقُتل طاقمها.
لقد كان نجاح سعيد قزاز والعميد الركن خليل جميل وضباطه وجنوده مثيرا للإعجاب، وبعد انتهاء الأزمة اهتزت ثقة الناس بمحمد فاضل الجمالي وتم هجاء الحكومة وشتيمتها، حتى أن المحامي المعروف عضو حزب الاستقلال فائق السامرائي كتب في جريدة حزبه المسماة (لواء الاستقلال) أن (كيس رمل واحد يساوي ألف خطاب لرئيس الوزراء ووزرائه الثرثارين)!
ولم تدم وزارة الجمالي طويلا وقد استقال يوم 29 نيسان/ أبريل 1954. وقد ألقى الملك فيصل الثاني كلمة مناسبة لرفع المعنويات، كما منح العميد الركن خليل جميل وساما تقديرا لإنجازاته وكفاءته.
ويتساءل ابن أخ العميد الركن خليل جميل (الكاتب زيد خلدون جميل) قائلا: (لكن ماذا حدث لأبطال هذه الملحمة؟ لقد سُحل نوري باشا السعيد في انقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 في شوارع بغداد، وأما الوزير البطل سعيد قزاز، فقد أعدمه قائد الانقلاب عبدالكريم قاسم بعد ثورة الشوّاف في الموصل عام 1959، وأما العميد الركن خليل جميل فقد كان قد رُفّع إلى رتبة لواء ركن ومعاون (أي نائب) رئيس أركان الجيش العراقي عندما وقع انقلاب 1958؛ وقد زُج به في السجن لمدة سنة قبل أن يُطلق سراحه بطريقة مهينة؛ وقد قضى بقية حياته متقاعدا وتوفي عام 1983 بعد مرض عضال.
1008 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع