كل الكُتّاب والأدباء يظل الكتاب محور تفكيرهم منذ اللحظة الأولى التي تورطوا فيها بحبه. يبقى المعشوق الخالد الذي لا يستطيعون الانفلات من سطوته، ولا الخروج من صومعته إلى أن ينطفئ ضوء حياتهم. هناك ميثاق عهد متين الصنع بينهم وبين الكتاب لا يملكون الشجاعة على نقض بنوده وتمزيق أوراقه. لذا تجد كثيرين منهم يفنوا عمرهم فداءً له.
وأنا أطالع أخبار الكتب والأدباء، لفت انتباهي قيام الكاتبة البريطانية "جوليا دونالدسون" التي حازت مؤخراً على جائزة بريطانية في أدب الأطفال، بإدانة خفض الإنفاق على الخدمات المكتبية الذي أخذت تتبعه الحكومة البريطانية في الآونة الأخيرة، مما أدّى إلى إغلاق مكتبة وتعرّض نحو 250 مكتبة للإغلاق.
لم تكتفِ الكاتبة بهذه الإدانة، بل طالبت وزيرة الثقافة الجديدة "ماريا ميلر"، إلى دعم الخدمات المكتبية، مبدية تخوفها بأنّ الاستمرار في خفض الإنفاق على الخدمات المكتبية سيؤدي إلى خلق حالة من الأميّة الثقافية في بريطانيا، والتي ستؤدي بدورها إلى استشراء الجرائم وغيرها من المشكلات الاجتماعية، إضافة إلى توجسها من تراجع مكانة بلادها الثقافية التي تتمتع فيها بالصدارة.
الكاتبة البريطانية التي توجّست من انعكاس خفض الإنفاق على سلامة عقول النشء الجديد من الأطفال، مبالغ فيه! كون بريطانيا وغيرها من دول أوروبا تعلم بأن المكانة الثقافية والعلمية التي وصلت إليها لم تحدث بين يوم وليلة، بل بتغذية مجتمعاتها بمنابع الكتب، وتخريجها أجيال تُقدّس الكتاب بروافده المعرفيّة.
شعرتُ بتحسّر كبير، فلم أرَ في حياتي بكافة أرجاء بلادي ومنذ أن وعيت على الدنيا إلى حد اليوم، مكتبة عامة التهم فيها ما لذ وطاب من بطون الكتب الثقافية المتنوعة الاتجاهات! وكنتُ كلما زرتُ بلداً أوروبياً وشاهدتُ مكتباتها العامة الكبرى التي تقف شامخة بمبانيها الجميلة، وبداخلها يجد المرء كل ما يرغب في الاستزادة منه، أفهم لماذا أصبحنا في مؤخرة الأمم، ولماذا سبقونا بعربة التحضّر مئات السنين!
لا أدري لماذا في أوطاننا ننظر للمكتبات العامة على أنها جانب مكمّل للصورة، وليست أصل الصورة! لماذا نغفل عن دورها الأساسي في تنشئة الأجيال الصاعدة؟! لماذا تقتصر المكتبات على داخل المدارس والكليات والجامعات، ووضع رقابة مُشددة على الكتب الموجودة فوق رفوفها؟! لماذا لا يهدي الأدباء لأبنائهم كتباً في يوم عيد ميلادهم، كي يُدركوا قيمة الكتاب في حياتهم؟! لماذا لا يعلمونهم بأن الكتاب ثروة، ستفيدهم في حياتهم مستقبلاً عندما يخرجوا إلى معترك الحياة؟!
الكتاب من وجهة نظري مدرسة تجارب كاملة، يتعلّم المرء من بطونها، ويستقي بفضلها الكثير. لقد قام العقاد الذي لم يكن يحمل سوى شهادة الابتدائية، بتعليم وتثقيف نفسه عن طريق الكتب، وكان يُقارع عميد الأدب العربي طه حسين في المكانة الفكرية. والروائي محمد شكري من المعروف عنه أنه لم يتعلّم إلا عند بلوغه العشرين من العمر بفضل نهله من دنيا الكتب.
متى سأجد في كل حي بمدينتي مكتبة تخدم أبناءها، كما هو حاصل في اليابان مثلاً؟! متى سينظر الطفل العربي للكتاب نظرة فضول ورغبة في التزوّد من وقود حروفه لينيرعقله ويُوقد ذهنه؟! متى سأجد اهتماماً حقيقياً من حكومة بلادي لدعم المكتبات، حماية لعقول الأجيال القادمة من التخلّف الفكري؟!.
إنّ المجتمعات التي تعطي ظهرها للكتاب، وتستخف بقيمته، مجتمعات لا أمل في خلاصها من الجهل وتحررها من الأميّة! مجتمعاتنا العربية اليوم بحاجة إلى نقلة واعية في تفكيرها حتى تفهم، ولكي تفهم يجب أن تقرأ وتتمعّن، وتُدرك أن طريق التحضّر يبدأ من دروب العلم والمعرفة وما أحلاها.
728 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع