«النموذج التركي» أم أردوغان في خطر؟

                                 

                     عبدالوهاب بدرخان

لم تنتهِ أحداث تركيا فصولاً بعد، لكن ثمة دروساً أمكن التقاطها مما حصل حتى الآن، بعض منها سيتحكم بالمرحلة التالية وبعض آخر رفع سقف الشكوك في «النموذج» التركي، وبعض ثالث يتعلق بالتجربة الديمقراطية نفسها ثقافةً وممارسةً. وقبل كل شيء لا بد من الإشارة إلى أن العنصر المفاجئ في مجمل التطورات كان الأداء الأردوغاني الذي ربما يعتبره المراقبون اليوم بمثابة نصف المشكلة، فيما مثّلت الاحتجاجات نصفها الآخر.

رغم السخونة والتصعيد اللذين شهدهما الشارع، لم ينسَ أحد أن الحدث التركي يدور على خلفية استقرار في الحكم وخصوصاً في الاقتصاد. وبالتالي فهي أحداث ممكنة الحصول في أي بلد لا يطالب شعبه بانتخابات حرّة ونزيهة، أو حتى بمكافحة الفساد، وإنما يعبّر عن استيائه من جملة سياسات مسّت الأفراد، كلٌ في قطاعه، وعندما انفجر غضب أنصار البيئة على نية بلدية اسطنبول تصفية حديقة عريقة في قلب المدينة، انفجر معها غضب الآخرين فتشكّلت حالٌ مركّبة ومعقّدة وصعبة المراس.
لم تكن تعليقات بعض أطراف النظام السوري أو مسؤولين إيرانيين، أو معارضين مصريين وتونسيين، أو حتى نشطاء أوروبيين، أو أوساط اليمين الإسرائيلي، فضلاً عن وسائل إعلام في كل مكان، سوى ردود فعل تراوحت بين تصفية الحسابات والشماتة وبين ما سمّاه إعلاميون أوروبيون «حسداً» شعبياً حيال تركيا التي اجتازت الأزمة الاقتصادية والمالية بسلاسة ونجاح حتى إنها تشهد الآن «فورة» فيما تعاني جاراتها الأوروبية ولاسيَّما اليونان من انهيارات لا يُعرف لها مستَقرّ. لكن هذا يبقى في إطار ضريبة النجاح، كما أنه يتعلّق في جانبه السوري–الإيراني بـ «حرب نفسية» لا طائل منها طالما أن المتهكمين على تركيا غارقون في محنة عميقة.
لكن ما هو «النموذج التركي» الذي اهتزّ بفعل موجة الاحتجاج هذه. قد يسارع كثيرون إلى القول إن المقصود هو «النموذج الإسلامي» والنجاح الذي حققه ويراد تصديره سواء إلى مصر أو إلى تونس وسواهما. والأكيد أن للبعد الإسلامي حصة ومساهمة في هذا النجاح، إلا أنه ليس كل شيء. فالإسلاميون الأتراك نجحوا لأنهم كانوا ولا يزالون سياسيين أكثر، ورجال دولة أكثر، وحداثيين أكثر، ومكافحين للفساد أكثر. ثم إنهم في الأساس جاؤوا إلى دولة قانون موجودة، ومؤسسات راسخة، وما أضافوه هو ما يحمله اسم حزبهم «العدالة والتنمية»، وهو ما توصلوا إلى تعزيزه وتفعيله فأحرز نتائج في غضون سنوات قليلة، أي في وقت قياسي بالمقارنة مع تجارب أخرى قريبة، كما بالنسبة إلى دول المعسكر الاشتراكي السابق. هذا نموذج ربما يصلح للتصدير، لكن إذا لم تتوفر العناصر الأساسية (الدولة والمؤسسات) والمساعدة (الخبرات والعقلية الحداثية والتدبير) فعبثاً استيرادها إلى بيئة تفتقر إلى بنى طوّرتها التجارب على مرّ عقود. أما فيما يتعلق بتركيا نفسها فما دام هذا النموذج قد أفلح فإنه كفيل بتصويب ذاته، لأن المستفيدين من نجاحاته ليسوا «الإسلاميين» وحدهم.
لم يكلّ رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان من ترديد أن الحَكَم في تركيا هو الانتخابات وصندوق الاقتراع، مصوّراً احتجاجات الشارع ضرباً من الغوغائية يريد دفع البلاد إلى الفوضى.
ولعل تذكيره بـ «الديمقراطية» في محلّه لو أنه استطاع أن يكيّف ردود فعله على النحو الذي يخدمها. فكل الديمقراطيات الراسخة والعريقة تمر باختبارات تنبهها إلى أخطاء أو إهمالات ارتكبت في غمار الممارسة. فقد تزامنت احتجاجات تركيا مع اضطرابات شهدتها السويد، وسبقتها في 2011 حال فوضى وتمرد في بريطانيا استدعت تهكّم إعلام نظام القذافي قبيل سقوطه، وقبل أعوام كانت ضواحي باريس مسرحاً لمواجهات شغلت السلطات الفرنسية لبضعة شهور. وفي كل هذه الأحداث لم تكن «الديمقراطية» موضع تشكيك، لكن السياسات كانت تعاني من ثغرات لا بد من معالجتها بسياسات مختلفة. ولا شك أن التجربة التركية طرحت الكثير من الملفات التي قد تكون حتى «الحكومة المنتخبة» تجاوزت فيها حقائق المجتمع أو بالغت في «الأسلمة». فعلى سبيل المثال كان صمت الإعلام التركي مدوياً إلى حد لجوء الأتراك إلى الإعلام الخارجي لمتابعة ما يجري، كما أن الشباب الغاضب عوّل على وسائل التواصل الاجتماعي للتشاور وتبادل المعلومات، وهاتان الظاهرتان سجّلتا في حركات «الربيع العربي»، وسلطتا الأضواء على إحدى سمات القصور في ثقافة الديمقراطية.
أما كيف يمكن أن تنعكس هذه الأحداث على المرحلة المقبلة فهذا متلازم مع الأردوغانية نفسها، إذ لا يختلف اثنان في تركيا على أن الرجل يتمتع بشعبية وأنه أضفى طابعه الشخصي على كثير من السياسات والمشاريع، لكن الإصرار على مشروع المجمع التجاري مكان «جيزي بارك» رغم وجود حكم قضائي يطالب بمراجعته لم يكن مفهوماً، كذلك الإصرار على اسم عثماني (السلطان سليم) للجسر الجديد على البوسفور رغم أنه يثير حساسيات فئات اجتماعية ليس مناوئة بالضرورة لأردوغان وحزبه.
والأهم أن انفعال أردوغان جاء في اللحظة الخطأ، فهو أنجز للتو اتفاقاً تاريخياً مع الأكراد وينبغي أن يتنبه إلى حمايته وإكمال مراحله، كما أنه ربط مستقبله السياسي بهذا الاتفاق عاقداً طموحه على أن يكون الرئيس المقبل لتركيا لكن بعد تعديل الدستور لتعزيز الصلاحيات الرئاسية. ومثل هذا الاستحقاق كان يفترض أن يترتب خلال الشهور المقبلة، فإذا بأردوغان يندفع لإثبات هيبة السلطة في مشروع عمراني ظناً منه أنه بذلك يدافع عن مشروعه الأكبر.
لا شك أنه أخطأ في التكتيك، فقد يتمكن من الترشح والفوز بالرئاسة من دون تعديل للصلاحيات، لكنه مضطر الآن لإنهاء الأزمة الراهنة بسرعة ومن دون تنازلات موجعة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع