هيفاء زنگنة
هاشتاغ المبادرة العراقية لتحرير أمريكا
شهدنا، منذ ايام، غزو مقر المجلس التشريعي لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية (الكونغرس) من قبل « أنصار اليمين المتطرف» للرئيس دونالد ترامب. جاء الهجوم بعد شهور من نشر الرئيس على وسائل التواصل الاجتماعي أن الانتخابات مسروقة.
أثار الغزو والهجوم على واحد من أهم رموز الديمقراطية بالعالم، بل ويشار إليه باعتباره « مهد الديمقراطية» مشاعر متناقضة تراوح بين الدهشة، والاستغراب، والذهول، والتنديد، والاستنكار بالإضافة الى الشماتة والسخرية السوداء. من ركام المشاعر التي غذاها ( ولايزال ) سيل الصور والفيديوهات التفصيلية للغزو عبر أجهزة الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تبرز تساؤلات أساسية مهمة حول عمق الحدث، ومدى فجائيته. وهل هو فعل آني يتعلق بتحريض الرئيس ترامب عبر التويتر أم انه أكثر من مجرد غزوة يمينية شعبوية؟ وهل صحيح وصف مرتكبيها بأنهم «غوغاء» يدل سلوكهم على فاشية زرعها ورعاها ترامب في تغريداته وأكاذيبه وسلوكه غير المتوازن؟
ولعل السؤال الأقرب إلينا هو كيف ترى شعوبنا هذا الحدث وتحلله و تقّيمه، آخذين بنظر الاعتبار أن نصف الشعب الامريكي، تقريبا، أي ما يساوي بحدود 75 مليون ناخب، صوتوا فعلا لترامب الذي يصفه معارضوه وأجهزة اعلامهم بأنه راعي اليمين الأبيض المتطرف؟ وكيف تُقيم عملية نشر الديمقراطية، في العالم، اذا كان حرمها المقدس، أي أمريكا، يضم هذا العدد الهائل من اليمين المتطرف الذي وجد نفسه في مهاجمة قلب الديمقراطية وتعطيله وتعريض حياة ممثليه لخطر القتل؟ كيف تنظر الشعوب التي امتدت الذراع الأمريكية اليها لتغيير الأنظمة فيها، إما عبر المؤامرات واغتيال الرؤساء أو غزوا بذريعة التحرير، كما في 84 دولة من أصل 193 دولة معترف بها من قبل الأمم المتحدة، حسب المؤرخ الأمريكي كريستوفر كيلي والمؤرخ البريطاني ستيوارت لايكوك، مؤلفا كتاب «غزوات أمريكا: كيف غزونا أو تورطنا عسكريًا مع كل بلد تقريبًا على وجه الأرض»؟
ولنقترب أكثر من الواقع. من وجهة نظرة شعب يعيش آثار وانعكاسات الغزو والاحتلال الامريكي وتسويقهما تحت مسمى « عملية تحرير العراق». واستعين هنا بنعمة توفر مواقع التواصل الاجتماعي، التي على نقائصها، تمكننا من الاطلاع على المشاعر الحقيقية للمتواصلين بلا رقيب او تشذيب وظيفي او رسمي او ايديولوجي. استعاد معظم متابعي حدث غزو واحتلال الكابيتول من العراقيين أحداث الايام الاولى للغزو الأمريكي لبغداد. استعادوا، وهم يشاهدون تخريب المكاتب وتكسير الأبواب ونهب الأثاث، وتعليقات الساسة واجهزة الإعلام المشمئزة الغاضبة المتبرئة من الغوغاء، تصريحات وزير الدفاع دونالد رامسفيلد يوم 12 نيسان/ ابريل حول نهب الدوائر الحكومية العامة تحت انظار القوات الأمريكية، قائلا: « ان النهب فى العراق جاء نتيجة مشاعر مكبوتة من القمع» كما أكد « أن النهب لم يكن بالسوء الذي أشارت إليه بعض التقارير التلفزيونية والصحافية وأن النهب جزء من الثمن، من تحرير العراق. «. ولعل أفضل اقتباس استخدمه عدد من العراقيين لوصف سلوك من غزوا وحطموا مكاتب الكونغرس ونهبوها، بالمقارنة مع ما حدث بالعراق، هو قول رامسفيلد: «إن الأحرار أحرار في ارتكاب الأخطاء والجرائم والقيام بأشياء سيئة». لماذا اذن يتم وصف مهاجمي الكابيتول بالغوغائية والفاشية واليمين المتطرف؟ لم لا ينطبق عليهم منظور وزير خارجية بلد الحرية؟ وهل صحيح أن ترامب، بأكاذيبه، هو المسؤول الوحيد عن وجود خمسين مليون أمريكي من هذا النوع، أم أن الأكاذيب الكبرى سبقت ترامب بعقود وأنها جزء لايتجزأ من السياسة الخارجية والداخلية الأمريكية، مهما حاول ساسة اليوم وأجهزة الإعلام الادعاء بأن المهاجمين « ليسوا منا»؟
في مقال « الجحيم الامريكي» المنشور في الصفحة الاولى من « نيويورك تايمز «، يقول تيموثي سنايدر، المؤرخ المتخصص بالفاشية، إن أكاذيب ترامب الكبرى هي مقدمات الفاشية. فيحاججه الاكاديمي العراقي منذر الأعظمي مذكرا: « لكن النخب الليبرالية ( ومنها الجريدة نفسها) هي التي بدأت او تواطأت مع الأكاذيب الكبرى. لنتذكر الحرب على العراق، وقبلها حادث مضيق تونكين الذي بدأ حرب فيتنام. وهناك أكاذيب الكيان الصهيوني وخيوط التآمر الرسمي المحتملة في إغتيالات الستينيات وأبرزها كندي ومارتن لوثر كنغ. أما ترامب نفسه فانه يشكل مجيء شخصية نرجسية فظة الى قمة السلطة وهو ما ابرز خطورة هذا الطريق». وكيف يمكن نسيان أكذوبة العصر التي أطلقها وزير الخارجية كولن باول، يوم 5 فبراير 2003، عن امتلاك العراق اسلحة دمار شامل تهدد أمن العالم كله، مخاطبا مجلس الأمن الدولي: « زملائي، كل معلومة أدلي بها اليوم مدعومة بمصادر. مصادر راسخة. هذه ليست تأكيدات. ما نقدمه لكم هو حقائق واستنتاجات مبنية على استخبارات لا يتطرق اليها الشك».
هذه الأكاذيب التي شرعنت غزو العراق وتخريبه المستمر حتى اليوم قبل وصول ترامب الى الحكم، دفعت المحامية العراقية سجى رؤوف الى اطلاق هاشتاغ تحرير أمريكا على نهج عملية تحرير العراق. وما تكتبه سجى ليس عاديا. فهي تكتب مشاعرها، بشكل يوميات، بجملة واحدة او اثنتين، مكثفة بالسخرية المريرة والغضب والمخيال التراجو كوميدي. هل هي الشماتة؟ لا أعتقد ذلك. فهي، كما الكثير من العراقيين، لاتزال تعيش أيام دق طبول الحرب وغزوه أمريكيا. وما تكتبه مستوحى من لحظات الهجوم على الكابيتول، وما استحضرته من مشاهد مماثلة بقيت محفورة في ذاكرتها. في سيناريو نزف المشاعر واحاطتها بالسخرية لكي لا يموت المرء كمدا من شدة الظلم، تكتب سجى، بالانكليزية، عن ضرورة تدخل العراق عسكريا لتحرير أمريكا وإعادة الديمقراطية اليها، على الرغم من انها كانت، طوال حياتها مناهضة للحرب. ويضع السيناريو خطوات ومستلزمات التحرير التي لن تكلف العراقيين فلسا مادامت أموال النفط مستغلة مجانا على اية حال. إلا أنها تربط عملية التحرير، كما فعل « محرر» العراق الامريكي بتشريعات، تفرضها على الشعب بعد تحريره. « عليكم تعلم اللغة العربية. استبدال الدولار بالدينار. وافرشوا السجادة الحمراء لاستقبال محرريكم العراقيين. انه تحرير وليس احتلالا. هاشتاغ العراق يحرر أمريكا 2021». والى الجنود العراقيين الذين نراهم على ظهور الدبابات المتقدمة نحو الكابيتول لتحريره وهم يحملون علم العراق عاليا، بينما يرحب بهم عدد من المتظاهرين بالأزهار والحلوى، توجيهات اخرى: « خلافا لعام 2003، علينا حماية المتاحف. يمكننا إعادة اعمار متاحفنا بمحتويات سميثسونيان. لن نضعهم في أبو غريب».
أتساءل ثانية: هل هي الشماته؟ لا أظن ذلك. انه استحضار للغة حرب ظالمة بنيت على الأكاذيب وازدواج المعايير، وهو استحضار ضروري للتذكير. لئلا ننسى. فاذا كانت أمريكا، ومعها دول الديمقراطية مصدومة، كما يقال لنا إعلاميا، لما أصاب « مهد الديمقراطية» فكيف تواصل قلوبنا النبض، وعقولنا التفكير بشكل منطقي، نحن الذين رأينا قصف وتهديم « مهد الحضارة»؟
1104 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع