قاسم محمد داود
الوالي المُتيم والفاتنة البغدادية
كانت باخرة شركة لنج للملاحة النهرية ترسو امام بناية الجمرك المطلة على نهر دجلة في بغداد وكان قائد الباخرة البريطاني يترقب بقلق وخوف على الرغم من الحماية التي يتمتع بها هو وباخرته التي ترفع علم بريطانيا على ساريتها، لأنه يعلم علم اليقين ان والي بغداد العثماني لن يرحمه رغم الحماية فقد حوله عشق الحسناء البغدادية إلى مجنون تتصف تصرفاته بالرعونة والغباء، لم يهدأ القبطان وظل هو ومساعديه يرقبون المكان عندما وصلت العربة التي تجرها الخيول ثم توقفت أمام سلم الباخرة وترجلت منها راهبتان كانت أحداهما يبدو عليها الارتباك ومعهما راهب كان هو الآخر خائفاً يتلفت يمنة ويسره . وعلى عجل صعد الجميع إلى الباخرة، بعد عدة دقائق وصلت إلى المكان مجموعة من الجنود(جندرمة) وطلبوا إنزالهم من الباخرة وألقاء القبض عليهم، لكن القبطان منعهم من ذلك. أنصرف الجنود خائبين وتنفس القبطان الصعداء بعد ان تحركت الباخرة فوق مياه دجلة متجهة نحو مدينة البصرة بأقصى سرعة.
عاد شيء من الهدوء على ركاب الباخرة الثلاثة، سارة خاتون الحسناء البغدادية والراهبة هنرييت والراهب الإسباني بيير، بعد أن تمت المرحلة الأولى من خطة الهروب بنجاح.
بدأت أولى فصول قصة سارة خاتون في حفلة راقصة أقامها والي بغداد العثماني حسين ناظم باشا حاكم العراق للفترة من 1910 – 1911 وهو ضابط رفيع المستوى برتبة فريق أول في الجيش العثماني. أقيمت الحفلة في شهر آب عام 1910 على ظهر باخرة نهرية لجمع التبرعات من أجل أنشاء مستشفى الغرباء في بغداد وكانت الحفلة مختلطة حضرها القناصل وزوجاتهم وأفراد من الجاليات الأجنبية وبعض العائلات المسيحية الثرية، وكانت بغداد تشهد لأول مرة حفلة من هذا النوع.
من بين الحضور كانت سارة ذات الـ 21 ربيعاً برفقة أفراد عائلتها، كان حضورها لافتاً بزيها البغدادي وخمارها (البوشي) الشفاف الذي لم يمنع إشراقة وجهها من أن تُسقط كل دفاعات الوالي ذو الـ 57 عاماً والذي كان إلى وقت ليس ببعيد رئيس أركان جيوش الإمبراطورية العثمانية، فقد رفع الراية البيضاء عندما لمس يدها الرقيقة مصافحاً ومرحباً بها: "تشرفنا خاتون"، حبس أنفاسه ثم تنهد مبهوراً وتمتم: "ما شاء الله تبارك الخالق" ومع نفسه خمن بأنه ليس ثمة أمرأه أخرى في العالم أجمل منها، وظل طوال الحفلة يراقب حركتها ويزداد افتتانناً بهذا الجمال الذي يكاد يسلبه وقاره، كان جمالها القاهر أكبر من هيبة المنصب، شعرها المتدفق من تحت الوشاح كناصية مهرة، وعيناها الواسعتان أكثر وضوحاً من الضوء.
سارة أوهانيس ماركوس إسكندريان (سارة خاتون) ولدت في بغداد عام 1889، والدها من أثرياء بغداد وأحد وجهاء الأرمن فيها، بالإضافة إلى الثراء أوتيت سارة الكثير من الجمال إلى الحد الذي جعل والي بغداد يتقمص دور مجنون ليلى العامرية وروميو شكسبير بآن واحد. بعمر ست سنوات فقدت سارة والدتها صوفي واختها الصغيرة الوحيدة إيزابيل ثم اكتملت دائرة تعاستها وهي بعمر العاشرة بموت والدها وبقيت تحت رعاية عمتها صوفي ووصاية عمها سيروب إسكندريان هي وثروة طائلة تتضمن أموالاً وبساتين وأراضي زراعية في بغداد والصويرة والحلة ومنطقة الشوملي، وأراضي سكنية في بغداد قسمت وبيعت والتي عرفت لاحقاً بحي الرياض (كمب سارة)، بالإضافة الى بيت فخم يطل على نهر دجلة في المنطقة التي تسمى حالياً المسبح، حولَ في فترة الحكم الملكي إلى فندق معروف أسمه (ريفر فرونت هوتيل). بحس الأنثى ومن نظرات الوله المصوبة نحوها استطاعت سارة ان تقرأ ما كان يدور في ذهن الوالي عندما كانت ضيفته في تلك الحفلة، وفكرت أن الاستعانة بالوالي سبيلها للتخلص من وصاية العم على ثروتها الكبيرة الذي كان يتصرف بأموالها لفائدته واستبدالها بوصاية مطران الكنيسة الأرمنية لذا طلبت الأذن لزيارة ناظم باشا ولم يتأخر الباشا المتيم فكان رده مرحباً. ومرة أخرى كانت نظرات الباشا العجوز تغزو جسد الفاتنة الأرمنية الذي يطلق عبيراً بكل ما فيه من تضاريس الأمر الذي أربكها فعجزت عن الكلام، فكان على العمة صوفي رفيقتها في الزيارة ان تتكلم بدل أبنة الأخ التي لم تعد ترى من المكان سوى شاربي الوالي المفتولة بدقة وهي تتحرك متراقصة مع الكلمات التي كانت تخرج سيلاً من فم الوالي المرحب بلا انقطاع. شرحت العمة الموضوع الذي أنصت إليه الوالي في ساعة سعده هذه بشكل جاد ولم تمضي سوى أيام بعد اللقاء حتى أرسل الوالي في طلب العم سيروب وابنه دانيال وأمرهما أن يقدما له كشفاً بكل ممتلكات سارة، التي سمعت الخبر وفرحت به فالجمال كفيل بأن يلين أقوى وأشد الرجال، لكن الرياح لم تكن كما اشتهت سفن أماني سارة، فالكهل العثماني المسلم يريد ان يستعين على خريفه بربيع المسيحية الحسناء، هذا ما أخبره أبن العم دانيال عند زيارته لها ذات مساء صار ثقيلاً عليها وعلى الطائفة الأرمنية في بغداد، خرج دانيال مطروداً من دارها ليبلغ الوالي برفض سارة القاطع لطلب الزواج. لم يتقبل الوالي الأمر فالشعور بالهزيمة من صبية بغدادية وأن كانت جميلة أمام سطوة والي بغداد التركي واقتداره والذي أصبح في الواقع مجنون سارة، تمرد دون خوف لن يكون أمراً عابراً. وأمام حكم العاطفة وشعور الهزيمة المذل، راح يضيق عليها الخناق وينصب لها شراك الانتقام، لكن الذكاء كان نعمة أخرى اقترنت بنعمة الجمال عند سارة فأفلتت من كل الشراك وصمدت بشجاعة أمام المضايقات وتبين للباشا المتيم أنها من طراز خاص يصعب صيده وبعيد المنال. وبقرار ساذج في ساعة ستكون ساعة نحسه كان جنوده (الجندرمة) يطوقون بيتها فقد أوعز الوالي باقتحامه وإحضارها عنوة، وباندفاع من الشعور بالخطر تسلقت سارة الجدار الذي يفصل بين بيتها وبيت جارها القنصل الألماني في بغداد (هسا). الذي وجد أن بقاءها في داره قد يسبب أزمة دبلوماسية مع الحليف العثماني فنقلها على الفور إلى حيث لا يمكن للوالي ان يبعث جنوده، إلى دار عبد الرحمن الكيلاني نقيب أشراف بغداد في محلة باب الشيخ. وكما للوالي سلطته وجنوده فأن للنقيب مكانته في مجتمع يضع العرف بمنزلة القانون أو أكثر فكان لسارة المستجيرة ان تجار في دار الكيلاني الذي وفر لها الحماية منطلقاً من مبادئه الدينية والاجتماعية في نصرة المظلوم والوقوف إلى جانب الحق، لم يتجرأ ناظم باشا على اقتحام دار النقيب الكيلاني خوفاً من أثارة المجتمع البغدادي لما للنقيب من احترام كبير من قبل الجميع. إلا أنه وزع جلاوزته حول الدار لألقاء القبض على سارة عند مغادرتها له. وبعقل أذهبه العشق وشعور بالأذلال وبعد خمسة أيام قضتها سارة في بيت النقيب أمعن الوالي خلالها في التضييق عليها ومحاولة إيذائها، فأعتقل خادمتيها لولو وفريدة، وبعد أن علم أن لسارة خطيب أمر بسوقه للخدمة العسكرية في كركوك على الرغم من دفعه للبدل النقدي الذي يمنحه الحق في أداء الخدمة العسكرية في محل إقامته. من محلة باب الشيخ انتشرت القصة وشاع خبرها في كل محلات بغداد وكتب الشعراء القصائد وألفوا الأغاني و(البستات) التي تدين سلوك الوالي. فنشر الشاعر جميل صدقي الزهاوي قصيدة بعنوان "طاغية بغداد" قال فيها: رام هتكاً لما تصون فتاة/ كسبت في أمر العفاف اشتهارا/ بنت قوم لم يدنس العرض منهم/ بقبيح هم من سراة القوم النصارى/ يا مهين العراق هل كنت تدري/ إن أهل العراق ليسوا غيارى. وكان للسياسة دورها فقد كان في بغداد آنذاك أعضاء لكل من حزب الاتحاد والترقي وحزب الحرية والأتلاف الذي كان ناظم باشا أحد أبرز أعضائه، أستغل الاتحاديون تذمر الأهالي وسخط الناس في بغداد الذين كانت الشهامة والحمية سبيلهم لتنظيم الاحتجاجات للتنديد بالوالي وسياساته وتنظيم حملة ضده وضد حزب الحرية والأتلاف. وكأن القدر يرسم لناظم باشا مسار تعاسة عشقه، فقد وصلت اخباره إلى إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية، وتم ذلك عندما وصل مراسل صحيفة (طنين) التركية المعروفة بولائها لحزب الاتحاد والترقي إسماعيل حقي بابان في جولة انتخابية وصحفية والتقى بسارة التي شرحت له تضييق الوالي عليها ومطارداته الصبيانية لها. وعند عودته إلى إسطنبول نشر القصة على صفحات الصحيفة، ولم يتأخر نواب العراق في مجلس المبعوثين في العاصمة بتقديم تقرير عما جرى في بغداد في 12 كانون الأول و6 شباط 1911 مما دفع بوزير الداخلية العثماني طلعت باشا إلى انتقاد والي بغداد والتلويح بعزله من منصبه. على أن حماقة ناظم باشا دفعت به بعد أن أحس بنذر الخطر تحيط به إلى أفعال لم تحسب عواقبها، فأراد أن يضع سارة تحت الحراسة بحجة أنها مصابة بمرض عقلي وراح يحاول الحصول على تقرير طبي يثبت ذلك، علمت سارة بالأمر فقررت الخروج من بغداد ولتنفيذ خطة الهروب كان عليها ترك دار النقيب والذهاب إلى دير الراهبات الفرنسيات، وعند خروجها من الدار وهي محجبة تستقل عربة تجرها الخيول(الربل كما كان تسمى في بغداد) لمحها الرقباء من(الجندرمة) المنشرين حول الدار وعند تصديهم للعربة بقصد ألقاء القبض على سارة، اندلعت فجأة مشادة بين مجموعة من الشباب ومناوشات بالأيدي تبين أنها مفتعلة من شباب محلة باب الشيخ لا لهاء الجندرمة عن العربة وإتاحة الفرصة للحوذي كي ينطلق بها بعيداً عن المكان. وصلت إلى الدير وبمساعدة الراهبات، هربت متخفية بزي راهبة وبصحبة الراهبة هنرييت والراهب الإسباني بيير مستقلين عربة من هناك وبسرعة إلى باخرة من بواخر شركة لنج البريطانية التي كانت تعمل بالنقل النهري بين بغداد والبصرة كانت راسية على ضفة نهر دجلة، وأستطاع الثلاثة الصعود إلى الباخرة للذهاب إلى البصرة. لكن ناظم باشا علم بالأمر فأرسل عدداً من الجندرمة لإلقاء القبض عليها. إلا أن قائد الباخرة منعهم من صعود الباخرة لكونها ترفع العلم البريطاني وتابعة لقنصلية اجنبية وكانت بواخر القنصليات تتمتع بنفس حصانة القنصلية التابعة لها. وهكذا تجرع الوالي المتيم كأس مرارة خيبته الأخرى، وأفلتت سارة بعيداً عن شباكه، بعد ان انطلقت باخرة النجاة إلى البصرة، وأُمرَ ربانها بأن يقودها بأقصى سرعتها ومن دون توقف في أي مدينة تمر بها. وفي البصرة كانت بغداد في قلب سارة وفي البال لكن الأمان من المحال مادام هذا الوالي المتيم هناك في السراي يمني النفس بالفوز بها غير آبه بانحداره نحو بؤس شتاء نزواته. لذلك كان الهروب أبعد من البصرة وبتعاون بين القنصل البريطاني والقنصل الروسي في البصرة ومن أجل دق مسمار وان كان صغيراً في نعش السلطنة العثمانية التي توشك شمسها على الأفول عندما أطلق عليها أعدائها لقب (رجل أوروبا المريض) أتفق الأثنان على تهريب سارة على إحدى البواخر الروسية الراسية في شط العرب وكانت تستعد للأبحار إلى مدينة بومبي في الهند، مع توقف في ميناء بوشهر الإيراني في الخليج العربي، حيث كانت سارة ستمكث هناك لمدة من الزمن تحت رعاية السير برسي كوكس المقيم البريطاني في المدينة والذي سيكون بعد سنوات يجلس حاكماً بنفس المبنى في بغداد (القشلة) الذي كان يحكم منه ناظم باشا العراق. ومن بغداد التي غادرتها غادتها الحسناء مكرهة، غادرها ناظم باشا مقالاً من منصب الوالي في 17 آذار 1911 فقد عزل من منصبه بأمر من إسطنبول وكأنه يريد اقتفاء آثار من هام بها، توجه بعد ثلاثة أيام من وصول قرار عزله بالباخرة إلى البصرة ومن هناك إلى إسطنبول عن طريق بومبي وفيها عاوده هاجس البحث عن سارة، وعندما شعرت إدارة الهند البريطانية بالأمر أوعزت إلى سارة أن تتوارى عن الأنظار ريثما ييأس صريع حبها فيغادر المدينة. وكمن يطارد سراباً او في "آخر العمر يطارد خيط دخان" لم يحظى بلقاء سارة وإلى الأبد لكنه عبر عن حبه لها برسالة ارفقها بصورته تركها لدى صاحبة البيت الذي تسكنه سارة سلمتها لها عندما عادت اليه بعد أن تأكدت من مغادرته بومبي التي غادرتها هي الأخرى إلى باريس حيث تزوجت عام 1913. وبعد خمس سنوات عادت إلى بغداد التي عاشت بها هي وزوجها الأرمني واسرتها حتى وفاتها عن عمر ناهز 71 سنة. لم يعش ناظم باشا طويلاً فقد اغتيل في 23 كانون الثاني 1913 من قبل جمعية الاتحاد والترقي خلال الانقلاب العسكري العثماني.
1024 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع