وللطفلِ العربيِّ حُقوقُه أيضاً

                                                   

                           د. زكي الجابر

وللطفلِ العربيِّ حُقوقُه أيضاً

                   إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد

ذلك العالمُ الجميلُ، عالَمُ البراءةِ والنَقاءِ والطَهارةِ والعَفوِيّةِ، يَشهَدُ، وفقاً لما تَتناقَلُه أجهزةَ الإعلامِ صباحَ مساءَ، مَوجاتٍ كاسِحةً من العُنفِ تتراوحُ بين الإهانةِ اللَفظِيّةِ والاعتداءِ البَدَنيِّ والاغتصابِ الجنسيِّ والمُراوَدةِ علَى الفَحشاء. وإزاءَ ارتفاعِ تلكَ الموجاتِ ترتفعُ صيحاتُ المُنظَّماتِ الإنسانيّةِ في أكثَر من مكانٍ مناديةً بِوَقْفِ هَدْرِ حقوقِ هذا المَخلوقِ الحَضاريِّ النبيل. إنَّ للطفلِ حقوقاً يَجبُ أن تُوَفَّى وتُحترَم.
وقد لا يكونُ غريباً أن يكونَ الطفلُ نفسُه من بينِ المعنيّينِ والمُنادِينَ بحُقوقِه. لقد تجاوزتْ وسائلُ الإعلامِ الإلكترونيّةُ الحدودَ المادّيَّةَ للمكانِ، وأصبَح المَوقفُ لا يتحدَّدُ بالمَوجودِ الماثِلِ بل أيضاً بالغائِبِ وما يَحملُ من معلوماتٍ تَتَداخلُ في صُلبِ عمليّةِ التأهيلِ الاجتماعيّ. ومِن هذهِ المعلوماتِ ما يستجدُّ من حديثٍ عن حُقوقِ الطفلِ وعن الواجباتِ المُترتِّبَةِ على الآباءِ والأمَّهاتِ في وقتٍ تنتزع ُفيه مسؤولياتُ العملِ ومُتَطَلباتُ العَيشِ الكثيرَ من وقتٍ كان مُخَصَّصاً لرعايةِ الطِفلِ وحِمايتِه وتربيتِه بدنيّاً وعاطفيّاً. لم يَعُدْ هناكَ من يُشَكِّكُ بشُموليّةِ وسائلِ الإعلامِ وتَغَلغُلِها في الحياةِ اليوميّة، وأنّها أصبحتْ تُمَوِّلُ أطفالَ اليومِ بما يشكِّلُ الإطارَ التفسيريَّ لِما حَولَهم من ممارسات. لقد تجاوزتْ هذه الوسائلُ العملَ داخلَ الثقافةِ إلى صُنْعِ الثَقافةِ والمُشارَكَةِ في تَكوينِ ’’الحقيقةِ الاجتماعيّة‘‘.
ليسَ غريباً إزاءَ كلِّ ذاكَ أنْ يطالبَ الطفلُ بحقوقِه، وربّما وصلَ الأمْر بالبَعضِ مِنهُم، عَلَى حَدِّ ما وَصَلنا من عِلمٍ، أنَّهم وقفوا أمامَ المحاكمِ يُقاضُونَ مَن اعتَدَى علَى حُقوقِهم حتَّى ولو كانَ أقربَ الناسِ إليهم.
لقد تَخَطَّى طِفل العالَمِ الحديثِ حُدودَ ذلك الطفلِ الذي تحدَّثَ عنه ابنُ بَطُوطة(1). لقد نشأَ ذلكَ الطفلُ ما بينَ الجُدرانِ الصامتةِ سَجيناً مع والِده السجينِ، لم تَقعْ عيناهُ على حَيَوانٍ غيرِ الفأرِ الذي كانَ يتقافَزُ هنا وهناك في قَعرِ السِجن. سألَ الطفلُ يوماً أباهُ عن اللَحمِ الذي يتناوَلانِه في الطعامِ، فقالَ الأب: هذا لَحمُ غَنَمٍ، سألَ الابنُ أباه: وما الغَنَمُ؟ فأخذَ يَسرِدُ صفاتِ الغَنَمِ وأحوالَها، قال الابنُ: يا أبي، أتُراها مثلَ الفَأرِ؟ فيُنكِرُ الأبُ عليهِ ذلكَ قائلاً: أينَ الغَنَمُ من الفَأرِ؟ وليسَ للطِفلِ مِن جَريرةٍ إذا ما جَهلَ الغَنَم والبقَرَ والإبِل. لقد كانَ يُنفقُ أيّامَهُ لِصقَ الفأر!
إن رُؤيَة الطفلِ تتحدَّدُ وَفقاً لِما يتأطَّرُ بهِ من نظامٍ إعلاميٍّ، وهذا النظامُ الإعلاميُّ ذو أبعادٍ متنوِّعةٍ، وهو ناقِلُ أخبارٍ شتَّى وصورٍ متنوِّعةٍ تَتجاوزُ المَمنوع. وقد آنَ الأوانُ أن تسألَني: وما شَأنُ الطِفلِ العربيِّ في كلِّ ذاك؟
ليسَ ثَمَّةَ مجالٌ للإنكارِ بأنَّ الجُهودَ المَبذولَةَ من أجلِ تَنميَةِ الطُفولةِ، وفي مَجالاتِ حُقوقِ الطفلِ، ما زالتْ غيرَ كافية. هناك اعتداءاتٌ تُمارسُها قُوَى الاحتلالِ على الأطفالِ العربِ على أرضِ فِلَسطينَ تصلُ إلى كسرِ الأيادي واستعمالِ الرَصاصِ والرَصاصِ المَطّاط. وعَبرَ الساحَةِ العربيَّةِ، ما زالت مدارسُنا تمارسُ الضربَ، ويَنتَشِرُ عَبْرَ المقاهيِ والشوارعِ أطفالٌ يصبُغونَ الأحذيةَ ويبيعونَ بطاقاتِ اليانصيبِ ويُمارسونَ التَسوُّل.
إنَّ القولَ بأنّ الجهودَ المبذولةَ ما زالتْ غيرَ كافيةٍ وغيرَ مُتكافِئةٍ لا يَنفي أنَّ هناكَ إدراكاً بأحوالِ الأطفالِ العَربِ نَجدُ له انعكاساتٍ في الأدبيّاتِ العربيّةِ التي أفرزتْها عدّةُ اجتماعاتٍ ومُؤتَمراتٍ عُقِدتْ هنا وهناك من أرضِ العَرب.
لقد أعربَ ميثاقُ الطفلِ العربيِّ – جامعةُ الدولِ العربيّةِ – عن تَمَثُّلِه لما تضمَّنتهُ المواثيقُ الدُوليّةُ من اهتمامٍ بالإنسانِ كإنسانٍ علَى النَحوِ الذي أورَدَه ميثاقُ الأمَمِ المتَّحدةِ وإعلانِ مَنْحِ الشُعوبِ حقَّ تقريرِ المصيرِ وإعلانِ التَغذيَةِ والإنماءِ الاجتماعيِّ والإعلانِ العالميِّ لحقوقِ الإنسانِ والإعلانِ العالميِّ لحقوقِ الطفل.
لقد أوردَ ذلك الميثاقُ، ألميثاقُ العربيُّ لحقوقِ الطفلِ، جملةً من المُنطَلَقاتِ الأساسيّةِ في مُقدِّمَتِها الالتزامُ بتأمينِ الحُقوقِ الواردةِ في الإعلانِ العالميِّ لحقوقِ الإنسانِ للأطفالِ العربِ كافّةً ودونَ تمييزٍ، واعتبارُ تَنميةِ الطفولةِ ورعايتِها التزاماً دينيّاً ووطنيّاً وقوميّاً وإنسانيّاً نابعاً من عقيدةِ الأمّةِ وقِيَمِها الرُوحيّةِ والاجتماعيّةِ وتُراثِها ومبادِئِها وواقِعِها وتطلُّعاتِها. ولقد أكدَّ الميثاقُ، وهو يتحدَّثُ عن الحقوقِ الأساسيّةِ للطفلِ العربيِّ، على حقِّ الطفلِ في رعايةِ الدولَةِ وحِمايتِها له من الاستغلالِ الجسمانيِّ والروحيِّ، حتى إذا كانَ ذلكَ من جانبِ أسرتِه، وأن تُنَظَّمَ عَمالَتُهُ انطلاقاً من سِنٍّ مناسبةٍ، وأن يكونَ في منأىً عن تناوُلِ عَملٍ يضرُّ بصحّتهِ أو يُعَرقِلُ تعليمَهُ أو يُقلِّصُ فُرَصَ نُموِّه البدنيِّ والعقليِّ والنفسيِّ والخُلُقيِّ والاجتماعيّ. ولم تَغِبْ توجُّهاتُ الميثاقِ عن ’’الاستراتيجيّةِ‘‘ العربيّةِ للتَنميةِ الاجتماعيّةِ الشاملةِ – جامعةُ الدولِ العربيّةِ – وبالأخصِّ عندَ الحديثِ عن التأثيراتِ السَلبيَّةِ في نفسيَّةِ الطفلِ والتَغيُّرِ الواضحِ الذي يمكنُ ملاحظتُه لدَى بَعضِ الحالاتِ الأُسَرِيّةِ والمُتمثِّل في اختلاطِ الرُؤيةِ عند مُحاولةِ التَعرُّفِ على مَن يقومُ بالدورِ الاقتصاديِّ ومن يَنهَضُ بالدَورِ النَفسيِّ ومن يتولَّى تَدبيرَ مُتطَلَّباتِ الأُسرةِ داخلَ البيتِ: أهوَ الأبُ أمِ الأُمُّ أمِ الجِيرانُ أمِ الشَغّالَةُ أمِ المُربيّة؟
لقد احتضَنَتِ القاهرةُ في أيلول 1994 المُؤتمرَ الدُوَلِيَّ للسُكّانِ والتَنميةِ الذي أولَى فيما أولَى اهتماماً بالطِفلة والطفلِ. جعلَ المؤتمرُ قضيَّةَ الطفلةِ هَدفاً، وطالبَ بالقضاءِ على أشكالِ التمييزِ ضِدّها، ومِن بينِها تفضيلُ الأبناءِ الذُكورِ مِمّا يَنتَهي إلى مُمارَساتٍ ضارّةٍ غيرِ إنسانيّة. وفي التَقريرِ ما ينُصُّ على وُجوبِ ٱتّخاذِ المدارسِ ووسائلِ الإعلامِ والمؤسَّساتِ الاجتماعيّةِ الخُطُواتِ والإجراءاتِ المُؤديّةِ إلى القضاءِ على الأفكارِ التي تزعزعُ احترامَ الذاتِ لدَى البنتِ، وحَثِّ الحُكوماتِ على مَنعِ الاتّجارِ بالبَناتِ واستغلالِهِنَّ في البَغاءِ والمَطبوعاتِ الخَليعة.
أمّا عن الطفلِ فقد تحدّثَ المؤتمرُ عن تأثيراتِ الفَقرِ المُدمِّرةِ لصحَّتِه وعما يَحملهُ من مَخاطِرِ إصابتِه بسوءِ التغذيةِ والمرضِ والسُقوطِ ضحيَّةَ الاستغلالِ والاتّجارِ والإهمالِ والاعتداءِ الجنسيِّ وإدمانِ المخدِّرات. وطالبَ المؤتمرُ بوجوبِ قيامِ جميعِ البُلدانِ بِسَنِّ قوانينَ لمُحاربةِ استغلالِ الأطفالِ اقتصاديّاً وسُوءِ مُعاملتِهم بدنيّاً وعقليّاً أو إهمالِهِم تَجاوُباً مع الالتزاماتِ التي نَصّتْ عليها اتفاقيّةُ حقوقِ الطفل.
ويبدو أمراً لازماً، إذا ما أخذْنا مُقوِّماتِ الخُلُقِ العربيِّ المُسلِمِ بنظرِ الاعتبارِ، أن تُصبِحَ الطفولةُ أوْلَوِيَّةً من أوْلَوِيّاتِ القَرارِ العربيّ، وهذا يَعني ٱتّخاذَ قَرارٍ سياسيٍّ ينصُّ على تلك الأولَوِيَّةِ كما يَنُصُّ على التزامِ المُؤسَّساتِ الرَسميّةِ وغيرِ الرسميّةِ بِها، كما يبدو أمراً مُلزِماً تَنشِيطُ عملِ لِجانِ الطفولةِ وإبداءُ العَونِ للمنظّماتِ الوطنيّةِ والعربيّةِ والدوليّةِ المَعنِيَّةِ بالطِفلِ وقَضاياه.
قد يكونُ مُهِمَّاً تفعيلُ التَشريعاتِ القانونيّةِ بِما تَنصُّ عليهِ من تَنظيمٍ لِشأنِ الطفلِ والطُفولةِ ومن عقوباتٍ زاجرةٍ لِمَن يحاولُ المَساسَ بِحُقوقِ الطِفل. ولكنّ الأهمَّ من ذلكَ هو أنْ يتكوَّن لدينا مناخٌ عامٌّ يُيَسِّرُ سُبلَ العملِ وينشرُ الوَعي ويُحفِّزُ الطاقاتِ وُصولاً إلى تكوينِ أجيالٍ من الأطفالِ العربِ كُرَماء النفسِ، واعِينَ بحُقوقِهم وواجباتِهم، متمتِّعينَ بصحِّةِ العَقلِ والبَدَن.
قد يكونُ من بابِ المُسَلَّماتِ القولُ بأنَّ أطفالَ اليومِ هم رجالُ الغَدِ ونِساؤُه، وإذا كُنّا نَرنو إلى غَدٍ أفضلَ فَلْنَعْمَلْ من أجلِ تكوينِ مناخٍ أفضلَ تحتلُّ فيه حقوقُ الطفلِ العربيِّ، سليلِ الحضارةِ العربيّةِ الإسلاميّةِ العظيمةِ، مكانةً مُتميِّزَةً فُضْلَى. إنّ المناخَ المُلائمَ هو الذي يتوفَّرُ فيهِ ما يُساعدُ على إجراءِ المُسوحِ للتعرُّفِ على وَضعِ الطفولةِ، واعتمادِ منهجٍ متكاملٍ للخَدماتِ الأساسيّةِ للعنايةِ بالأطفالِ المُشَرَّدينَ، وتدريبِ القياداتِ المتخصّصةِ في مجالاتِ رعايةِ الطُفولةِ وتوجيهِ المُنحَرفينَ ورِعايتِهم، وتقديمِ كلِّ ما يخدمُ الطفولةَ في البَوادي والأريافِ والحَواضِرِ الهامشيّةِ، وإعدادِ البرامجِ الإعلاميّةِ الخاصّةِ بالتوعيةِ بحُقوقِ الطفلِ والتي تُساهمُ في تكثيفِ مَعرفَةِ الطفلِ بتلكَ الحُقوق.
إن السواعدَ الغَضَّةَ التي نَلمَحُها اليومَ هي ذاتُ السواعدِ التي سنَراها في الغدِ تَعملُ وتَبني، وتَكِدُّ وتكدَحُ، وتَحرِثُ وتَسقي، وتزرعُ وتَحصِدُ، فَلْنَكُنْ أُمَناءَ عليها من خلالِ تَهيِئَةِ المناخِ الكفيلِ برعايةِ حقوقِها وحمايتِها.
********************
1- ابن بطوطة (محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي)، مؤرخ وقاضٍ وفقيه. ولد في طنجة 1304/703 وتوفي في مراكش 1377/779. رحّالَة استغرقت رحلتُه 27 سنة، عَنْونَها ’’تُحفةُ النُظّارْ في غرائبِ الأمصار وعجائِب الأسفار‘‘ وقد تُرجمتْ إلى الپرتغالية والفرنسية والإنگليزية.
نشرت في صحيفة ’’العَلَم‘‘ (المغرب) في 5-8-1997.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

838 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع