المهندس هامبرسوم أغباشيان
ارتساخ (ناغورنو قره باغ) وصراع الارمن من اجل الوجود
اشتدت المعارك مرة اخرى بين أذربيجان وأرمينيا حول منطقة ارتساخ (ناغورنو قره باغ).
ففي 29 ايلول 2020 شنت القوات الاذرية بدعم لوجستي من تركيا و بمساعدة الخبراء العسكريين الاتراك هجوما شاملا على طول الحدود مع ارتساخ (ناغورنو قره باغ) لحل المشكلة القائمة بينها وبين اقليم ارتساخ عن طريق الحرب ، واستمرت المعارك بضراوة لاكثر من عشرة ايام وبتحريض مستمر من تركيا دون الوصول الى الاهداف التي رسمها اردوغان لحليفة علييف، واخيرا تم الوصول الى اتفاق هش لوقف اطلاق النار لاسباب انسانية بتدخل روسيا اللاعب الاساسي في منطقة القوقاس، ولكن لم يستمر ذلك طويلا، ولا زالت المعارك مستمرة عند كتابة هذه السطور.
جذور الخلاف بين الطرفين على المنطقة؟
بدأ ، (ارتساخ) و(قره باغ) و(ناغورنو قره باغ) هي تسميات مختلفة لنفس الاقليم.
(ارتساخ) هو اسم الاقليم الاصلي باللغة الارمنية ، و(قره باغ) هي التسمية الاذرية للاقليم وتعني الحديقة السوداء لكثافة الاشجار في المنطقة ولاحقا جاءت التسمية الروسية (ناغورنو قره باغ) ومعناها (قره باغ الجبلية).
كانت ارتساخ تاريخيا وقبل الاف السنين جزأ من ارمينيا وقد لعبت السياسة السوفيتية في بداية العشرينيات من القرن الماضي دورها لفصلها عن ارمينيا والحاقها ياذربيجان بعد ان اصبحت كل من ارمينيا واذربيجان تحت المظلة السوفيتيه ، وقام ستالين بضمها الى اذربيجان لترضية الاتراك ومحاولة جذبهم الى الجانب السوفيتي بعيدا عن المعسكر الغربي بعد خسارة تركيا الحرب ضد الحلفاء ، وكذلك لتطبيق نظرية التعايش بين الشعوب من الاديان والقوميات المختلفة حسب الايدولوجية السوفيتية.
يعود تاريخ ارتساخ الى الاف السنين وهو مرتبط بتاريخ وجود الارمن في المنطقة كما ذكر ، بينما يعود تاريخ اذربيجان الى عام 1918 حينما تاسست ولاول مرة ( جمهورية اذربيجان) بعد الحرب العالمية الاولى ، وكان سكانها من قبائل المغول والتتر ومن القبائل الاخرى التي استوطنت المنطقة. ويذكر بان تسمية اذربيجان جاءت لتتناغم مع تسمية منطقة اذربيجان ذات الاكثرية التركية في شمال ايران وربطها تاريخيا بها لخلق عمق تاريخي للدولة الحديثة .
في بداية القرن العشرين امتد النظام الشيوعي الى القوقاس واصبحت جمهوريات القوقاس الثلاثة (جورجيا وارمينيا واذربيجان) جزء من الاتحاد السوفيتي.
قرار ستالين بضم ارتساخ الى اذربيجان
في كانون الاول 1920 اعلن ناريمان ناريمانوف رئيس اذربيجان انذاك بان (قره باغ وزانكيزور وناخيشيفان)هي جزء لا يتجزأ من ارمينيا، وحسب ما جاء في صحيفة ( ارمينيا السوفيتيه) الصادرة في 19 حزيران 1921 باللغة الارمنية فان اقليم قره باغ اعتبر جزأ لا يتجزأ من ارمينيا السوفيتيه (وقد كانت اذربيجان وارمينيا جمهوريتان ضمن الاتحاد السوفيتي).
لم يكن هذا الحل مرضيا للاذريين واضطر ناريمانوف لتغيير لهجته الاخوية السوفيتية ليطالب بضم قره باغ الى اذربيجان.
تشكلت لجنة على مستوى قيادة الدولة السوفيته لمعالجة النزاع واستمرت الاجتماعات وكانت مؤيدة لضم الاقليم الى الوطن الام ارمينيا ، وهنا تدخل جوزيف ستالين وقرر عام 1923 ضم ارتساخ (قرة باغ) ذات الاكثرية الارمنية الى أذربيجان دون الرجوع الى اعضاء اللجنة، وبحدود إدارية رسمت لتجعل كل ما يحيط بهذا الاقليم آذريا رغم رغبة السكان الانضمام الى ارمينيا ، وتركت هناك مساحة من الارض تحت السيطرة الاذرية تفصل الاقليم عن ارمينيا.
بالمقابل منحت السلطة السوفيتية الاقليم صلاحيات واسعة للحكم الذاتي داخل جمهورية أذربيجان، وهو ما كان أشبه بقنبلة موقوتة.
لم يرض هذا الحل الشعب الارمني في ارتساخ وارمينيا، ولقد بذلت ارمينيا جهودا كبيرة لاقناع القادة السوفيت بعد ستالين واخرهم ميخائيل غورباتشيف لتصحيح هذا الخطا التاريخي. ففي عام 1977 ، تضمنت أعمال جلسة مجلس وزراء الاتحاد السوفياتي (23 نوفمبر 1977) ما يلي ، (نتيجة لعدد من الظروف التاريخية ، تم ضم ناغورنو كاراباخ بشكل مصطنع إلى أذربيجان منذ عدة عقود. لم يؤخذ في القراراعتبار الماضي التاريخي للمنطقة ، وتكوينها العرقي ، وإرادة شعبها ومصالحها الاقتصادية. مرت عقود ، وما زالت مشكلة كاراباخ تثير القلق). لم يتم اتخاذ اي قرار في حينه وفي المحاولت الاخرى لتصحيح الخطا التاريخي وبقى الوضع على حاله لحين بداية تفكك الاتحاد السوفيتي.
ديموغرافية اقليم ارتساخ
يقطن الإقليم حوالي 150 ألفا جميعهم من الأرمن الذين سكن اجدادهم هذه البقاع منذ الاف السنين، وعدد كبير منهم متمركز في العاصمة ستيباناكيرت.
كان عدد سكان الاقليم اكثر من ذلك ولكن الضغط الاذربيجاني المستمر بعد ضم الاقليم اليها وحتى في الحقبة السوفيتية ادى الى نزوح عدد كبير منهم الى ارمينيا ففي عام 1923 كانت نسبة الارمن في الاقليم 94.49% وانخضفت هذه النسبة لتكون 76.99% في عام 1989 . وفي نفس الوقت تم اسكان الاذريين في المنطقة لتغيير ديموغرافية الاقليم ، علما بان منطقة ناخيتشيفان الارمنية التي ضمها ايضا ستالين الى اذربيجان في نفس الفترة قد تم افراغها نهائيا من سكانها الارمن تحت الضغط الاذري، ولازالة اثار الارمن هناك تم تحطيم كل اثر تاريخي يعود لهم وهدم مقابرهم، ويسكنها اليوم الاذريون .
حرب التحرير واعلان جمهورية ارتساخ
مع بدابة انحلال النظام السوفيتي بدا صراع مسلح بين ارمن اقليم ارتساخ مدعومة من قبل حكومة ارمينيا والاذريين دام عدة سنوات ( شباط 1988 - مايس 1994) وكانت كلا الجمهوريتين من الجمهوريات السوفيتية (المتاخية) عند بداية النزاع. طلب البرلمان في اقليم ارتساخ في البداية الانضمام إلى أرمينيا، ومع رفض اذربيجان للطلب نمى الصراع بشكل تدريجي، وفي الفترة التالية ومع تفكك الإتحاد السوفيتي، تحول الصراع الى حرب شاملة ، واستطاع الارمن تحرير الاقليم (ما عدا مناطق شاهوميان وجزء من ماردوني ومارداكيرد) والسيطرة على خمسة مدن آذرية خارج الاقليم لدفع القوات الاذرية الى الوراء لدرء الخطرعلى الاقليم.
في نهاية المطاف، اتفق الجانبان على وقف لإطلاق النارعام 1994، لكنهما لم يتوصلا إلى تسوية نهائية للنزاع وبقى الاقليم رسميا تابعا لأذربيجان، ولكنه خاضع لسيطرة الأرمن حيث اعلن الإقليم نفسه جمهورية مستقلة.
الوساطة الدولية لانهاء النزاع سلميا
دوليا ، تم إنشاء مجموعة مينسك (Minsk Group) التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في عام 1992 من قبل مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (CSCE) ،(حاليا منظمة الأمن والتعاون في أوروبا - OSCE) لتشجيع التوصل إلى حل سلمي للنزاع بين أذربيجان وأرمينيا حول ارتساخ عن طريق المفاوضات. ( تتالف المجموعة من 11 دولة تتراسها روسيا وفرنسا والولايات الامريكية المتحدة وتحاول اذربيجان حاليا ادخال تركيا ضمن الدول التي تتراس المجموعة).
العقدة التي لم تنحل طوال هذه الفترة بين الطرفين المحاربين هي الوصول الى ارضية مشتركة للتفاوض.
هناك مبدآن يشكلان الأساس لهذه المفاوضات، اولهما التمسك بوحدة اراضي الدول والثاني حق الشعوب في تقرير مصيرها وهما مقبولان من قبل الامم المتحدة.
اذربيجان تشترط انسحاب القوات الارمنيه ثم الدخول في مفاوضات لمنح حكم ذاتي للاقليم ضمن اذربيجان ومتمسكه ببند الحفاظ على وحده الاراضي الاذرية.
ارمن ارتساخ يطالبون بالتفاواض غير المشروط وحل مشكلة استقلال الاقليم والاعتراف به ثم الانسحاب من كافة الاراضي الاذريه متمسكين ببند حق الشعوب في تقرير مصيرها.
في التاريخ القريب هناك مثال مهم على ذلك وهو انفصال الباكستانيين عن الهند وتاسيس دولة باكستان عندما قرر المسلمون في باكستان تقرير مصيرهم والانفصال عن الهند التي غالبيتها من الهندوس، واعترفت الامم المتحدة بالقرار وبالدولتين. وكذلك لاحقا قررت بنغلاديش الانفصال عن باكستان وتم ذلك ايضا ، وهناك حاليا مشروع استفتاء على استقلال سكوتلنده عن بريطانيا وغيرها العديد من الامثلة.
الهجوم الاذري الاخير على طول الحدود
ان القتال الحالي هو الأسوأ منذ التوصل لاتفاق وقف إن طلاق النارعام 1994، فلقد كانت هناك مناوشات يومية وتحرك اذري على طول الحدود بين فترة واخرى وعدة محاولات لاختراق الحدود من قبل الاذريين ومنها عام 2016 والتي دامت لعدة ايام وكانت هذه التحركات تتوقف بتدخل الوسطاء واهمهم روسيا. لم يكن اي اشتباك لصالح ارمينيا الذي تحاول حل المشكلة بالطرق السلمية، لذا نرى ان جميع الحركات كانت تبدا من قبل الاذريين اما لتخفيف الضغط الشعبي وضغط المعارضه على الرئيس علييف او لاختبار القوة العسكرية في المناطق او لاستفزاز الارمن وجعلهم يردون على النار وتختلط الاوراق.
قامت اذربيجان بتعزيز ترسانتها العسكرية بطائرات بدون طيارين اسرائيلية الصنع وكذلك بالاسلحة التركية المتنوعة والعتاد والاسلحة الروسية المتنوعة، وتحت الضغط الشعبى والتحريض والدعم التركي بدات الهجوم على كافة الجبهات.
اما الجانب الارمني الذي يتسلح بالسلاح الرويس فكان دوره منذ البداية دفاعيا ما عدا بعض معارك الكر والفر لاسترجاع السيطرة على المناطق.
بالنسبة لاسرائيل فان هذه الحرب فرصة جيدة لتسويق المزيد من السلاح الاسرائيلي الى اذربيجان مقابل نفطها، وتجربة كفاءة الاسلحة الاسرائيلية المتطورة، ومن ناحية اخرى التحالف مع اذربيجان للتقرب من حدود العدو الايراني الذي تريد اذربيجان ايضا اضعافة طمعا في المنطقة الشمالية من ايران التي يسكنها اتراك اذريون.
تحظى أذربيجان بدعم علني من تركيا، وتطالب بانسحاب القوات الأرمينة من الاراضي الخاضعة لسيطرتها كشرط لايقاف القتال. اما ارمينيا فلقد اعلنت مرارا عن استعدادها لوقف اطلاق النار والبدأ يالمفاوضات بدون شروط مسبقة من الطرفين.
تقول أذربيجان ان (ناغورنو قره باخ) هي أرضنا على اساس انها الحقت رسميا بها بامر من ستالين ، وفي المقابل هناك مقوله شهيرة للارمن وهي ( اذا كان الاذريون يعتقدون ان ارتساخ ارضهم فهي وطننا) فهل هناك من يتنازل عن وطنه.
لماذا يصر اردوغان بمواصلة الحرب.
هناك دوافع عديده تجعل الرئيس التركي يشجع على استمرار الحرب. فظاهريا مساعدة الاخ الاثني اذربيجان ، وباطنيا الفوائد الاقتصادية التي يحصل عليها من هذا التاييد، فبالاضافة الى النفط والغاز والسوق التجاري المفتوح اما المنتوجات التركية هناك سوق السلاح السري حيث تبيع تركيا جميع انواع الاسلحة الى اذربيجان دون قيد او شرط .
السبب الثاني هو النفط والغاز في بحر قزوين، ويحاول اردوغان ايجاد قاعدة عريضة له هناك ليكون من اللاعبين العالميين الرئيسيين في مجال الطاقة . سبب اخر لاطالة الحرب هو جر روسيا الى ذلك و محاولة اردوغان فرض نفسة كلاعب سياسي شريك للروس في القوقاس التي هي اصلا تحت التاثير الروسي ومن هناك الحصول على تنازلات من الروس في مناطق الصراع الاخرى في سوريا وليبيا.
اما السبب الاكبر والذي لا يستطيع اردوغان الاعلان عنه الان هو تنفيذ الخطة الطورانيه الكبيرة لربط الشعوب من الاصول المغولية والتتريه مع بعضها امتدادا من تركيا الى الصين عبر الدول الناطقة بالتركية في اواسط اسيا، وهنا تظهر مشكلة وجود ارمينيا كدوله تفصل جغرافيا بينها وبين الدول التي يريد الارتباط معها جغرافيا كما موضح في الخارطة ادناه.
ارمينيا هي المنطقة العازلة بين تركيا وبقية الدول الناطقة بالتركية ابتداءا من اذربيجان وامتداد الى اواسط اسيا ومنغوليا والصين.
نفذت تركيا العثمانية ابادة جماعيه ضد الارمن عام 1915 حين قامت بابادة مليون ونصف المليون من الارمن والاستيلاء على مدن ارمينيا الغربية مثل فان وارضروم وموش وسيواس وغيرها والتي كلها تعود الى ارمينيا الغربية حسب معاهدة سيفر، ولا يوجد في تلك المدن اي ارمني في الوقت الحاضر، وامتدت حدود تركيا شرقا لتلتقي بحدود ارمينيا الشرقية.
ويحاول اردوغان الان تنفيذ خطة ابادة جديدة لمن تبقى من الارمن وافراغ المنطقة من ابنائها الارمن وذلك بافتعال الحروب ودعمها وادامتها ونقل الآلاف من المرتزقة السوريين من اصول تركمانية الى اذربيجان لمحاربة الارمن وابادة من تبقى منهم تمهيدا لمد سيطرته شرقا الى عمق اسيا.
الكراهية العنصرية لدى الاتراك ضد الشعوب الاخرى
صرح حافظ حاجييف وهو زعيم حزب "مساواة" الجديد في اذربيجان قبل فترة قائلا (أبناؤنا سيفجرون محطة الطاقة النووية في أرمينيا حتى لا يبقى أرمن في هذه المنطقة)، اي الابادة العنصرية بطرق حديثة، وتم التأكيد على هذا التهديد في 17 تموز 2020 من قبل المتحدث باسم وزارة الدفاع الأذربيجانية حيث ردد الدعوات لتطهير الأرمن من القوقاز. في حين يستمر السياسيون الأتراك بصب الزيت على النار والاعلان عن كراهيتهم التاريخية وتعصبهم العنصري والديني ضد الارمن، فلقد صرح زعيم حزب الحركة القومية التركية دولت بهجلي في 4 تشرين الأول (إن أرمينيا يجب ان تغرق في الدماء التي أراقتها)، علما بان بهجلي هو الحليف الاكبر لاردوغان، وتعبر كلماته عن كراهية عنصرية واضحة تدعوا الى الابادة العنصرية والعالم المتمدن يبحث عن مصالحه الاقتصادية.
اخيرا أدى تدخل تركيا بكل الوسائل الى جاني اذربيجان إلى تغيير التوازن في المنطقة وزاد بشكل كبير تهديد امن سكان ارتساخ وبدات اعمال التهجير القسري بالقصف المتعمد للسكان.
الخاتمة
ان تحرير ارتساخ واستقلاله هو صراع من اجل الوجود بالنسبة للارمن ، والاعتراف باستقلال ارتساخ هو الحل الوحيد المناسب والفوري والمنطقي والقائم على أسس قانونية لوضع حد لهذا النزاع الدموي التاريخي.
إن جمهورية ارتساخ (ناغورنو كاراباخ) اعلنت استقلالها منذ 26 عاما وتعيش بشكل مستقل وقامت ببناء دعائم الدولة الحديثة من جيش وبرلمان واقتصاد وانتخابات حره الخ ، ومحاولة ارجاع عجلة التاريخ الى الوراء وخصوصا اذا اخذنا بنظر الاعتبار تاريخ المنطقة وسكانها الاصليين هو ضرب من المستحيل ، ولقد قال احد ابطال تحريرها في بداية التسعينيات الشهيد مونتي ملكونيان انها (الصفحة الاخيرة في تاريخنا ولا يمكننا ان نطويها)، هكذا يرى الارمن المشكلة ، انها صراع من اجل الوجود.
------------------
لوس انجلس - كاليفورنيا
15 تشرين الاول 2020
1059 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع