هيفاء زنكنة
مواكب العزاء في العراق عن الشهداء والميليشيات والتمويل
أضيفت الى طقوس أيام عاشوراء، هذا العام، مواكب جديدة يقوم الشباب المشاركون فيها بالسير صفوفا طويلة، وهم يحملون صور شهداء انتفاضة تشرين التي انبثقت في تشرين/ اكتوبر 2019 واستشهد فيها 560 متظاهرا. ردد المشاركون في مواكب العزاء شعارات الانتفاضة بذات الاسلوب، كما تعودوا، من مرددي أو قراء العزاء، وكأنهم يُعزون انفسهم والعالم باستشهاد المتظاهرين المطالبين بحقوقهم، كما استشهد الحسين. ويحتمون، في الوقت نفسه، بجموع مواكب العزاء آملين ان تردع قدسية الايام العشرة ميليشيات القتل وقناصة الموت عن مواصلة حملة الاغتيالات التي طالت شبابا يعرفونهم.
في ذات الوقت الذي واظب فيه شباب مواكب العزاء على حمل صور شهداء الانتفاضة تذكيرا بتضحيتهم والمطالبة بمحاسبة المسؤولين عن اغتيالهم، أصدرت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، تقريرا بعنوان « العراق: مختفون ولكنهم لن يغيبوا عن الذاكرة» بمناسبة اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، دعت فيه الحكومة العراقية إلى إجراء تحقيقات مستقلة وفعالة لتحديد مصير نحو ألف مدني من الرجال والفتيان، أغلبهم من العرب السنة، الذين اختفوا قسراً اثناء العمليات العسكرية التي قامت بها قوات الأمن بمشاركة ميليشيا «الحشد الشعبي» في محافظة الأنبار، غرب العراق، عامي 2015 و2016 « وما ارتكبته من انتهاكات بما في ذلك الإعدام خارج نطاق القضاء والتعذيب” في اطار محاربة داعش بدعم من قوات التحالف بقيادة امريكا.
لقد بات من بديهيات الأمور، في يوميات الحياة العراقية، ان آلة الاغتيالات والعنف ستستمر بالتهام حياة المحتجين وكل صوت معارض أو مطالب بالتغيير الحقيقي وتنظيف البلد من منظومة الفساد، بغض النظر عن ادعاءات الحكومة والساسة بإجراء التحقيقات وتصريحات وفود الحكومات الغربية «المدافعة عن حقوق الانسان» بالعراق. وستبقى أمهات وزوجات المفقودين، يتنقلن بين الدوائر الحكومية، متوسلات الاخبار، بحثا عن احبائهن، وهن يحملن صورهم المبللة بالدموع كما صور شهداء تشرين، كما صور الشهيد الحسين واهله.
ما يعزز بديهية استمرار الاغتيالات ويزيد من حالة اللا استقرار وقلة الأمان والخوف مما تحمله الايام المقبلة، بالإضافة الى شحن آليات الانتقام كمنفذ وحيد للعدالة، هو تغوّل ميليشيات القتل وتمكنها من التحكم بالحكومة ومؤسسات الدولة، عبر أذرعها الحزبية المنخرطة بدورها في البرلمان، وهنا تكمن المفارقة. فالأحزاب العراقية التي غزت الساحة السياسية منذ غزو واحتلال البلد عام 2003، هي أداة بيد الميليشيات وواجهة لها وليس العكس كما هو معروف عادة. بل أن أغلب العناوين العشائرية ومنظمات المجتمع المدني قد أصبحت بنفس حال الأحزاب، إذ أفرغت من محتواها أو أصطنعت كجزء من شبكات الفساد، ولم تعد ذات جدوى في لعب أي دور اجتماعي مستقل. وتتصدر هذه الواجهة ميليشيات « الحشد الشعبي» التي تم ضمها الى القوات المسلحة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016ّ، ووضعت بأمرة رئيس الوزراء، بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة، كسلطة وحيدة مسؤولة عن نشر هذه الميليشيات وإدارة عملياتها. الا ان هذه التغييرات بقيت حبرا على ورق وواصلت ميليشيات «الحشد الشعبي» نشاطاتها خارج نطاق القانون والسيطرة للدولة. وإذا ما أعلنت الحكومة عن اجراء تحقيقات فانه لم يحدث وقدم اي عضو في الميليشيات لينال جزاءه القانوني.
ضمن هذه السيرورة تعهد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، يوم السبت الماضي، ردا على تقرير يونامي حول اختفاء الالف شخص بـ« العمل بجدية لمتابعة ملف المفقودين قسريا في البلاد، والكشف عن مصيرهم». وهو يعرف جيدا أن تعهده لا يزيد عن كونه محض هراء كما الوعود والتعهدات الكثيرة التي اطلقها هو أو من سبقه من رؤساء الوزراء. فما يُسَير الأمور، هو صراع الميليشيات فيما بينها، احيانا، كل حسب ولائها المحلي او الخارجي وضد غيرها من قوى مسلحة احيانا اخرى. وإذا كانت كل الاطراف مسلحة في « العراق الجديد» فان الميليشيات تتصدر القائمة بأسلحتها وسبل تمويلها وإرهابها المماثل لداعش. وابسط مثال على حجم تمويلها هو سيطرتها على 20 رصيفا في ميناء الفاو، المنفذ المائي الوحيد للعراق، من بين 21 رصيفا وينطبق الأمر ذاته على كل المنافذ الحدودية. فالميليشيات التي يزيد عددها على الستين، أكثر هيمنة على الشارع بحكم تدريبها وتمويلها واسلحتها. فهي تملك أنواعا من الأسلحة تراوح ما بين الخفيفة والثقيلة والذخائر المصنوعة في ما لا يقل عن 16 بلدا، بما فيها صواريخ وأنظمة مدفعية ومركبات مصفحة صينية وأوروبية وعراقية وإيرانية وروسية وأمريكية. ففي ديسمبر/كانون الأول 2014، قرر الكونغرس الأمريكي تخصيص 6.1 مليار دولار أمريكي لصندوق التدريب والتجهيز الخاص بالعراق لدعم الحملة العسكرية ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد أظهرت الأدلة المصورة لدى منظمة العفو الدولية أن طيفا من المعدات المصنوعة في الولايات المتحدة، بما في ذلك عربات «همفي» العسكرية وحاملات جنود مصفحة من طراز «M113 «وأسلحة صغيرة زود بها الجيش العراقي، باتت تحت تصرف قوات «الحشد الشعبي» بما في ذلك بين يدي بعض الميليشيات المتهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. كما تحصل الميليشيات على قسط من أسلحتها وذخائرها مباشرة من إيران، إما على شكل هدايا أو في صيغة مبيعات، بالإضافة الى قيام اجهزة حكومية عراقية بتزويدها بأسلحة تحصل عليها من دول اخرى بحجة محاربة داعش. ولا تجد الدول الكبرى حرجا في بيع الاسلحة لأي كان اما مباشرة او عبر الشركات الخاصة، بدون التدقيق او التغاضي عن مصيرها أو سبل استخدامها. كل التفاصيل موثقة في تقرير منظمة العفو الدولية» العراق: غض الطرف عن تسليح ميليشيات الحشد الشعبي». ففي حال بريطانيا، مثلا، تتضمن قائمة وزارة الخارجية والكومنولث البريطانية ثلاثين دولة مدرجة في قائمة الدول التي تعتبرها لندن مدعاة للقلق الشديد بشأن سجلها في حقوق الإنسان والديمقراطية. ومع ذلك، فقد صادقت الحكومة – خلال العامين الماضيين وحدهما ـ على بيع أسلحة إلى 22 دولة من تلك الدول.
ان وجود الميليشيات المتناسلة كالأرانب على ارض العراق جراء الفشل الحكومي، وغياب القانون، وهيمنة القوى الخارجية المتغلغلة ضمن الاحزاب والبرلمان، بشكل كبير، ولأسباب مالية مربحة او ولائية او عن طريق اشاعة التخويف من « الآخر» سيبقى سيفا مسلطا على رؤوس المواطنين للترهيب والقمع والانتقام و توفير «الحماية» ما لم تتوحد القوى الوطنية المبعثرة لوضع برنامج انقاذ وبناء موحد يخلص البلد من دستور « العملية السياسية» ونظام المحاصصة الذي رعاه المحتل تفتيتا للمجتمع واغتيالا لأبنائه وابقائه ضعيفا يستهلكه الاقتتال.
1009 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع