الجزء السادس - أحداث ساخنة في الصراع بين السلطة في العراق والحركة الكردية ١٩٦٨ – ١٩٧٥

                                         

           المحامي المستشار محي الدين محمد يونس

   

أحداث ساخنة في الصراع بين السلطة في العراق والحركة الكردية 1968 – 1975- الجزء السادس

الفصل الثاني /

قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان وموقف الحركة الكردية منه

شرعت الحكومة العراقية قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان رقم 33 لسنه 1974 واعتبرته نافذا من تاريخ اعلانه في 11-3-1974 وكان (مصطفى البارزاني) قائد الحركة الكردية قد قرر رفض هذا القانون كما رفض الانضمام الى التحالف الجبهوي القائم بين حزب

                

   مصطفى البارزاني بعدسة الصحفي الأمريكي كريس كوجيرا

البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي العراقي ووصلت الامور الى طريق مسدود وبعد رفض نائب الرئيس العراقي (صدام حسين) لمقترح (إدريس البارزاني) والوفد المرافق له عندما زاره في بغداد في العشر الاوائل من شهر اذار 1974 بتأجيل اصدار القانون لمدة سنة اخرى واصرار الاول على اصداره في موعده المقرر في بيان الحادي عشر من اذار لعام 1970 بدعوى انهم قد وعدوا الشعب العراقي قبل اربعة اعوام وانهم لا يمكن ان يخلفوا وعدهم هذا! وفي حقيقة الامر هو كلام حق يراد به باطل حيث كانت الحكومة العراقية قد انهت استعداداتها السياسية والعسكرية والاقتصادية لدخول الحرب مرة اخرى بهدف تصفية الحركة الكردية بكل الوسائل والسبل واصدق دليل على ذلك هو التهديد المبطن الذي ذكره (صدام حسين) لمضيفه (إدريس البارزاني) من ان السلطة في العراق لا مانع لديها في حالة اخفاقها في القضاء على الحركة من الاتفاق مع شاه إيران (محمد رضا بهلوي) الداعم الرئيسي لها والتنازل له عن نصف شط العرب وهذا ما حصل لاحقاً.

                                

على كل حال في نفس يوم عودة (ادريس البارزاني) الى محافظة أربيل في العاشر من آذار جمع (صدام حسين) مجموعة من الكرد القاطنين في بغداد وغيرها من مدن العراق وأكثرهم من الموالين لتوجهات حزب البعث واعلن امامهم بان القانون سيعلن في هذه الليلة من قبل الحكومة والجبهة الوطنية بدون مشاركة الحزب الديمقراطي الكردستاني والذي منح فترة (15) خمسة عشر يوماً لإبداء قراره في قبول القانون او رفضه(1) اصر النظام واصدر قانون الحكم الذاتي من طرف واحد دون الرجوع الى رأي الحركة الكردية و دون ان يلبي الحد الادنى من الحقوق القومية للشعب الكردي(2) وكانت مواد القانون تسمح للحكومة العراقية الاحتفاظ بسلطات واسعة تستطيع من خلالها تجريد منطقة الحكم الذاتي من أي مضمون حقيقي(3).

سوف احاول في هذا الفصل ان اتحدث من بداية القطيعة مع بداية عام 1974 بين السلطة والحركة الكردية وتطور الاحداث واشتعال جبهات القتال وما رافق ذلك من خسائر بشرية ومادية ومآسي تدمي القلوب وتداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية لاحقا على الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكردي بشكل خاص وسوف اعتمد في سرد احداث هذا الفصل على معلوماتي من خلال معايشتي الشخصية لأحداثها وما اطلعت عليه وما سمعته من ذوي الشأن في هذا المجال.

المبحث الأول / الخطوات التمهيدية والتحضير للحرب

على أثر عودة (ادريس البارزاني) والوفد المرافق له من بغداد ظهر يوم 10/3/1974 الى اربيل راجت شائعات وأخبار مفادها عدم توصل الحكومة العراقية والوفد الكردي المفاوض لاتفاق حول صيغة الحكم الذاتي المقررة بموجب بيان الحادي عشر من آذار عام 1970 وفي مساء ذلك اليوم وكعادتي في الأيام السابقة قررت أن أعرج على دائرتي بالملابس المدنية وكانت الساعة تشير الى السادسة مساءً حيث دخلت بناية مديرية شرطة محافظة أربيل

         

وكانت بناية واحدة مشغولة من قبل المحافظة ومديرية الشرطة(4) في سيارتي الخاصة من نوع (سكودا) وكانت تنعت (بساعة السودا) لكثرة عطلاتها وكانت مفاجأة لي عند دخولي ساحة السراي ومشاهدتي لجموع الضباط ومنتسبي الشرطة وهم بكامل قيافتهم العسكرية ومسلحين بمختلف انواع الاسلحة الخفيفة والمتوسطة وفور تركي لسيارتي توجهت الى غرفة ضابط الخفر وكان في ذلك اليوم النقيب (صالح احمد) وكانت الغرفة تعج بعدد من الضباط وقبل ان احشر نفسي بين الزميلين الملازمين الاولين (علي محمود سيده) والمرحوم (ناظم خورشيد) وكانا من ضمن دورتي في كلية الشرطة استفسرت منهما ما الأمر وما الغاية من هذا التجمع فأجابوني ألا تدري بوصول المفاوضات الى طريق مسدود مع الحكومة العراقية واستعداد الطرفين لمعاودة القتال و صدور الأوامر من قيادة الحركة الكردية تقضي بالتوجه الى المناطق الخاضعة لنفوذها وكان الجميع ينظر لي مستغرباً من هيئتي وما أرتديه من ملابس! ويستفسرون مني الا تأتي معنا؟ أجبتهم أنا لم أبلغ بهذا الأمر وليس لي علم بهذه التطورات ثم نهضت مودعاً إياهم على أمل اللحاق بهم وتوجهت الى داري في محلة طيراوة وفي الطريق لاحظت أوضاع المدينة وكانت غير طبيعية من خلال حركة المواطنين وتصرفاتهم التي كانت توحي بالمستجد من الأحداث، نهضت من النوم في صباح اليوم التالي 11 آذار ارتديت ملابسي المدنية وخرجت في حوالي الساعة العاشرة صباحا لأستطلع مستجدات الوضع متوجهاً الى الدائرة وكانت الاسواق والدكاكين مقفلة والشوارع تكاد تكون خالية من المارة والسيارات، وعند وصولي الى مبنى المحافظة شاهدت مجموعة من المواطنين يقدر عددهم بحوالي الخمسين شخصاً وهم يقفون قبالة البناية، تركت سيارتي عن بعد وتوجهت صوبهم وحشرت نفسي بينهم مستفسراً منهم عن سبب وقوفهم بهذا الشكل وعلى ماذا ينظرون، اجابوني هم أيضا ألا تدري؟! لقد ترك جميع مسؤولي وموظفي الحكومة دوائرهم والتحقوا بالحركة الكردية (المحافظ ونائبه ومعظم موظفي المحافظة وكذلك مدير الشرطة ونائبه ومعظم ضباط ومراتب المديرية كذلك الحال بالنسبة للدوائر الأخرى) مع استمراري في الوقوف ومسايرة الناس في التمعن في هذا المشهد لدائرة حكومية رئيسية في المحافظة كانت تعج بالحركة والعمل قبل يوم وأصبحت خالية من موظفيها ومراجعيها وأنا بهذه الحال من التفكير الذي قطعه مشاهدتي لاحد منتسبي دائرتنا المفوض (آزاد محمد رؤوف) واقفاً في شباك إحدى الغرف في الطابق العلوي من

         

  
البناية، شجعني ذلك على التنحي جانبا والمناداة عليه بصوت عالي وعندما لمحني أجابني هو ايضاً: "لماذا انت واقف مع الناس تعال سيدي صير مدير شرطة المحافظة" مشاهدتي له وكلامه معي بدد عندي هواجس الخوف والتردد فدخلت الدائرة مع سيارتي وعند ركني لها استقبلني المفوض (آزاد) وهو يخبرني بأن جميع منتسبي دائرتنا (مديرية شرطة محافظة اربيل) قد التحقوا بالحركة الكردية وعلى رأسهم مديرها المقدم (كمال غريب) ونائبه المقدم (محمد الشيخ رشيد)، قمت بجولة استطلاع على البناية وأول مكان لفت نظري قاعات الموقف والتسفيرات التي فرغت من نزلائها بعد كسر أبوابها من قبل الموقوفين والذين كان يربو عددهم عن مائة موقوف من المتهمين بمختلف القضايا بمساعدة ذويهم بعد انسحاب المسؤولين عن حراستها من الشرطة، ومن الجدير بالذكر بأن الموقوف الوحيد الذي لم يهرب ولكنه ترك بناية الموقف في تلك الليلة هو المرحوم المهندس (فتاح) مدير إعمار الشمال في محافظة اربيل وكان متهماً بالاختلاس و بالرغم من انه كان شخصاً بديناً حيث كان وزنه يقارب المائة والأربعون كيلوغراماً إلا أنه توجه سيراً على الاقدام الى نادي السكك (ريست هاوس) و قضى ليلته فيها بعد تناوله وجبة طعام وشراب فاخرة حيث كان الزبون الوحيد في تلك الليلة العاصفة بالأحداث وراجعنا في ظهر اليوم التالي طالباً إعادته الى الموقف حيث كان واثقاً من براءته من التهم المسندة اليه وفعلاً تم الافراج عنه بعد مدة قصيرة وانتقل الى مدينته السليمانية الا انه ومع شديد الأسف تعرض لحادث اغتيال هناك، استمرت مشاهداتي لأقسام وغرف المحافظة ومديرية الشرطة وكانت خالية من موظفيها تماماً والاثاث فيها على حاله ومنها مكتب المحافظ (عبد الوهاب الاتروشي) الذي ترك مهام وظيفته والتحق بالحركة الكردية وعينت الحكومة العراقية (سيروان الجاف) بدلاً عنه محافظاً لأربيل ، جلب انتباهي صورة رئيس الجمهورية (أحمد حسن البكر) وكانت لا تزال معلقةً على جدار المكتب.

    

كانت الساعة تقارب الحادية عشر قبل ظهر ذلك اليوم عندما حضر الى الدائرة المقدمين المرحومين (مصطفى الحاج حسن) و(نوري مصطفى) وكانت معلوماتي تشير الى ان الاول كان عازماً على الالتحاق بالحركة الكردية إلا أنه تراجع في اللحظات الأخيرة، على كل حال أستطيع ان أجزم وحسب ما تسمح به ذاكرتي بأن الذين حضروا الدوام في ذلك اليوم بالإضافة الى ما ذكرت كان كل من:
1. الملازم أول هوشــيار بايــــــز
2. الملازم أول يوســـــف عبد الله
3. الملازم أول علي احمد حمادي
4. المفوض أول هاشـــــم احــمــد
5. المفوض أول خســرو حســـين
6. المفوض شيرزاد نوري طــالب
7. المفوض وديـــــع نعــــــــــمان
8. المفوض عرفـــــان جـــــــلال
9. الموظف المدني توفــيق وهبي
10. المفوض يوســــــــف لوقــــــــا
11. المفوض فؤاد عبد الرحمن جرجيس
بالإضافة الى عدد من مراتب الشرطة يقدر عددهم بخمسة وعشرون فرداً.
اتضح في ذلك اليوم والأيام اللاحقة بأن معظم منتسبي دوائر قوى الامن الداخلي من الضباط والشرطة في المحافظات الثلاث (أربيل، السليمانية، دهوك) قد التحقوا بالحركة الكردية بالإضافة الى اخرين من المحافظات الأخرى وخاصة من (كركوك، الموصل، ديالى).
كان هناك أعداد من الذين لم يلتحقوا بالحركة الكردية وبدوائرهم واختاروا البقاء في مساكنهم أو اماكن أخرى والتصرف على ضوء مستجدات الأحداث لاحقاً، والملاحظة الجديرة بالذكر هو قيام الدوائر الحكومية في المحافظات الثلاثة بإعطاء موقف يومي بالموجود الفعلي للموظفين الى دوائرهم المركزية في العاصمة بغداد وعدم التطرق للغائبين لكثرة أعدادهم…
في مساء ذلك اليوم كلفني المقدم (مصطفى الحاج حسن) باعتباره أقدم ضابط في المديرية بعد الوضع الجديد بالبقاء في الدائرة وعدم المغادرة لغاية صباح اليوم التالي وكان ذلك أمراً في غاية الصعوبة ولكن ما في اليد حيلة كما يقول المثل، اتخذت من غرفة مدير شرطة المحافظة مكان للمبيت في تلك الليلة ولم يكن معي في هذه البناية الكبيرة سوى مأمور بدالة الشرطة العريف (عثمان جاسم)

         

وكان من اهالي الشرقاط والذي اتصل بي في الساعة التاسعة ليلاً ليخبرني بأن عامل بدالة وزارة الداخلية في بغداد على الخط يطلبني وعندما اوصلني به استفسر مني فيما إذا كنت الوحيد الموجود في الدائرة وعندما أجبته بالإيجاب ردَّ عليَّ قائلاً "تفضل سيدي وياك السيد وزير الداخلية" والذي خاطبني قائلاً:
"مساء الخير... منو"
أجبته: "تفضل سيدي الملازم الأول محي الدين محمد يونس من شرطة أربيل"
وسألني: "ملازم أول محي الدين شلونه الوضع عدكم؟"
أجبته: "سيدي..
معظم المسؤولين والموظفين في المحافظة وعلى رأسهم المحافظ ومدير الشرطة تركوا دوائرهم والتحقوا بالحركة الكردية.
هدوء حذر يسود المدينة والحركة معدومة تقريبا ولحد هذي الساعة لا حوادث او مشاكل.
المدينة خالية من تواجد اي عنصر عسكري أو أمني"
فقال لي: "زين ملازم أول محي الدين انتو الشرطة شلونه وضعكم؟"
فأجبته: "سيدي..
مدير الشرطة ونائبه ومعظم الضباط ومراتب الشرطة تركوا دوائرهم ايضاً مع اسلحتهم واحنا الباقين لا يتعدى عددنا الاربعين ضابط وشرطي وغير مسلحين".
وقال لي: "خلال هاليومين راح ادزلكم قوة كافية وننقللكم ضباط ومراتب من المديريات الأخرى".
وسألني: "ملازم أول محي الدين انت كردي لو عربي".
فأجبته: "سيدي آني كردي".
فقال لي: "بارك الله بيك بس انت كافي وراح ادزلك هدية".
فرددت عليه: "شكراً سيدي".

                  

                 وزير الداخلية الفريق سعدون غيدان


ملاحظات حول المكالمة الهاتفية لوزير الداخلية

تتسم كتاباتي بالصراحة والصدق.
الوزير الذي خاطبني كان (سعدون غيدان) وتشاء الصدف ان يتصل بي للمرة الثانية وكانت المرة الأولى في شباط من عام 1971 عندما كنت ملازماً في آمرية قوة الشرطة السيارة في بغداد بأمر يتعلق بحادث محاولة اغتيال (ادريس البارزاني)(5).
بعد أربعة أيام من هذه المكالمة فوجئنا بوصول سرية احتياط المثنى المكونة من حوالي (170) مائة وسبعون ضابطاً وشرطياً.
عالجت الحكومة العراقية النقص الحاصل في ملاكات دوائر قوى الأمن الداخلي في المحافظات الثلاث (أربيل، السليمانية، دهوك) من خلال جملة أوامر تنقلات واسعة من المحافظات العراقية الاخرى وشملت هذه التنقلات جميع الضباط ومراتب الشرطة الأكراد العاملين في تلك المحافظات وكان من اوائل المنقولين عقيد الشرطة (جمال عبد الحميد الاتروشي) حيث تم نقله من منصب مدير شرطة محافظة كربلاء الى منصب مدير شرطة محافظة أربيل ومن الجدير بالذكر من ان موجود مديرية شرطة محافظة أربيل من الضباط ومراتب الشرطة كان يربو على (1500) فرد.

        

أما بخصوص الهدية التي وعدني بها وزير الداخلية (سعدون غيدان) عندما تحدث معي هاتفياً ليلة 10/11 لم تصلني لغاية يومنا هذا وكنت حينها أُمنى النفس بالمثل العراقي القائل (اللي تتواعد بي خير من التاكله).
وقفت في ساعة متأخرة من تلك الليلة وانا أنظر من شباك الغرفة المطلة على الشارع العام واحدث نفسي وأقول يا مغير الاحوال كان هذا الشارع في الليالي السابقة يعج بالحركة والنشاط وأصبح في هذه الليلة شارع في مدينة الاشباح وكانت توحي بالهدوء الذي يسبق العاصفة و عواقب الأمور، على كل حال قضيت ليلة مقلقة وغير مريحة وانا بانتظار صباح اليوم التالي والذي شهد حضور من كان حاضراً يوم أمس بالإضافة إلى حضور عدد قليل آخر من المنتسبين وكان الحال على هذا المنوال في كل يوم جديد ويرافق ذلك التحاق من صدرت أوامر نقلهم من الضباط والمنتسبين في المحافظات العراقية الاخرى ولم يمضِ شهر إلا وقد سدت الشواغر في الملاكات المقررة واملاء المواقع الوظيفية الشاغرة نتيجة تركها من قبل الملتحقين بالحركة الكردية. ومن الجدير بالذكر استلامي ثلاثة عشر منصباً بالوكالة في تلك الفترة.
وقبل الانتقال الى مبحث آخر رأيت من الضروري تناول الحديث عن النزوح الجماعي من المدن والآثار السلبية على الحركة والمواطنين النازحين.

النزوح الجماعي من المدن.. المبررات والنتائج

من الأخطاء التي انجرت اليها الحركة الكردية قبل اندلاع القتال بينها وبين الجيش العراقي في بداية شهر نيسان من عام 1974 هي حركة النزوح الواسعة للمواطنين الكرد من كل الفئات من المدن الكبيرة (اربيل، السليمانية، دهوك، كركوك، الموصل، ديالى)

           

الى المناطق الخاضعة لسلطة الحركة الكردية، وهنا لا بد أن نشير الى دور عاملي الاستقرار والسلام الذي شهدته المنطقة في ظل اتفاقية اذار عام 1970 ولغاية بدايات القتال في عام 1974 و نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني المتنامي خلال فترة السلام التي امتدت لأربعة سنوات وإقبال الكثيرين بالانخراط في صفوف هذا الحزب و اصبحت له جماهيرية واسعة وفي خطوة غير مدروسة العواقب و بدلا من أن تحث قيادة الحركة الكردية المواطنين على البقاء في مدنهم وعدم مغادرتها باستثناء الذين تحتاجهم في مختلف مفاصل شؤونها حسب موقعهم ودورهم او الذين يخشى على سلامتهم وأمنهم الشخصي من إجراءات السلطات الحكومية في حال بقائهم في محلات عملهم وإقامتهم المعتادة في المدن التي ستصبح تحت سيطرة أجهزة النظام المختلفة بالإضافة الى الملتحقين طوعاً وقبل البدء بالحديث عن مساوئ هذه الخطوة لا بد لنا من الاشارة الى التعميم الذي أصدره المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني بتاريخ 27/ 2/ 1974 والذي يتطرق إلى عدم رغبة النظام العراقي في الاتفاق مع الحركة الكردية وبوادر الاستعداد للحرب ويتضمن التعميم ما يلي(6) من التعليمات بهذا الخصوص:
1. اعضاء الفروع واللجان المحلية وكافة المسؤولين وكل شخص معرض للخطر من الرفاق أن يكونوا في غاية الحذر وابعاد عوائلهم الى خارج المدن.
2. مديري الشرطة والرفاق الشرطة أن يكونوا جاهزين وتكون اسلحتهم وتجهيزاتهم الحكومية جاهزة للحركة عند وصول الأوامر للخروج إلى مناطق الثورة وفي غاية الحذر.
3. كل شخص يشعر بالخطر من سكان المدن ويريد الخروج يجب عدم منعه وتشكيل لجنة لاستيعاب الملتحقين.
لقد تم ترجمة هذه التعليمات والمغالاة عملياً في تطبيقها من قبل المسؤولين في الحركة وخاصة العسكريين منهم من خلال المشاركة والدور في إخراج عشرات الالوف من سكان المدن وضمان مجيئهم الى مناطق الثورة بشتى الوسائل، لقد تسبب هذا النزوح المكثف بأضرار وعواقب وخيمة على الحركة نفسها اولاً وعلى الملتحقين بها ثانياً ويمكن ان نجمل هذه الاضرار بما يلي:
1. خمدت الروح الفدائية لدى المقاتلين الكرد (البيشمركة).
2. قضاء الإجازات الطويلة في إيران من قبل المقاتلين عند عوائلهم او الانشغال في التردد على مواقع اللهو من ملاهي ومحلات القمار والتي كانت منتشرة في جميع أنحاء إيران في زمن الشاه ودون قيود وكانت هذه الحالة جديدة ومشوقة بالنسبة للكثير من المقاتلين الذين لم يكن قد تعودوا على مثل هذه الأجواء وعدم رغبة البعض والمماطلة في العودة الى واجبه في كردستان(7).
3. افواه تحتاج الى من يطعمها.
4. كثرة الخسائر البشرية في صفوف المقاتلين.
5. زيادة الأعباء المالية والادارية على قيادة الحركة.
6. زيادة اعداد المقاتلين من عشرة الاف الى سبعين ألف مقاتل وما يسببه ذلك من مشاكل إدارية وتنظيمية وصعوبة السيطرة.
7. لجوء أغلب العوائل الى ايران وتم اسكانهم في مخيمات خاصة اعدت لهم من قبل الهلال الأحمر الإيراني والمنظمات الدولية المعنية بهذا الشأن وقد أصبحت هذه المخيمات أيضا عبئاً مالياً وادارياً على الحكومة الإيرانية.
8. أصدرت الحكومة العراقية قراراً يقضي بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لكافة الأشخاص من الذين يثبت التحاقهم بالحركة الكردية ومن اجل تنفيذ هذا القرار شكلت لجان رئيسية وفرعية من الدوائر المعنية وتحت سيطرة واشراف دوائر الامن في المحافظات الثلاثة (أربيل، سليمانية، دهوك) وكذلك الحال بالنسبة للمواطنين الاكراد من ساكني المحافظات الأخرى.
باشرت هذه اللجان عمليات الجرد وتسجيل هذه الأموال لصالح خزينة الدولة وفي النصف الثاني من عام 1974 باشرت في عرض وبيع بعض العقارات عن طريق المزايدة العلنية للراغبين في شراءها وهم قلّة اما خوفاً من العواقب المستقبلية او مخافة الله لكونها تدخل في باب الغصب وبأسعار تقل عن قيمتها الحقيقية ولم يتسنى لهذه اللجان بيع الكثير من هذه العقارات بسبب انتهاء الحركة الكردية على اثر اتفاقية الجزائر في شهر اذار 1975 وعودة النازحين الى مدنهم واسترجاعهم لدورهم والتي تم إسكان منتسبي الدوائر الأمنية وعوائلهم فيها واغلبها كانت بحالة مزرية اما فيما يخص التي بيعت وتم تسجيل ملكيتها باسم من رست المزايدة عليه في دوائر التسجيل العقاري ومالكها الأصلي يلف ويدور دون نتيجة لامتناع حائز الدار من اعادتها متمسكاً بحجة ملكيته للدار وبقرار رسمي واستمرت هذه المشاكل لغاية نهاية عام 1991 حيث اضطرت الحكومة العراقية لسحب جميع دوائرها ومؤسساتها من كردستان، بعد سحب الحكومة العراقية جميع دوائر الدولة من المحافظات الثلاث وتشكيل حكومة وبرلمان إقليم كردستان، حيث شكلت لجان لمعالجة هذه المشاكل.
ما دمنا نتحدث عن النزوح الواسع لسكان المدن إلى المناطق التي كانت تخضع لسيطرة الحركة الكردية فلابد أن نتطرق إلى موقف النظام العراقي في حينها من هذا الأمر حيث توافق ذلك مع هدفها في إخراج أكبر عدد من السكان الكرد من اماكن سكناهم وفق مخطط معد لهذا الغرض بقصد مبيت حيث لم تعترض السلطة سبيل الاف النازحين الى المناطق الخاضعة للحركة الكردية من المدن والقصبات بل فتحت لهم الأبواب(8) على مصراعيها، والغاية منه زيادة أعباء الحركة الكردية ويبدو وجود توافق بين طرفي النزاع في مسألة إخراج وزيادة النزوح السكاني مع اختلاف الأهداف والغايات من ذلك بينهما فقد تزامن مع بدء العمليات العسكرية في شهر نيسان 1974 عملية منظمة لإجبار عوائل الملتحقين بالحركة الكردية تقوم بها دوائر الأمن وفق معلومات وقوائم معدة لغرض ترحيلهم إلى مناطق نفوذ الحركة والحاقهم برئيس العائلة الملتحق(9).
تعود بي ذاكرتي الى تلك الايام عندما كلف احد زملائي من ضباط الشرطة بنقل وإلحاق وجبة من العوائل المتكونة من الشيوخ والنساء والأطفال الى قضاء شقلاوة وتركهم مع بداية طريق ناحية هيران واجبارهم على التوجه الى المناطق الخاضعة للحركة الكردية سيراً على الأقدام، عاد الينا الضابط وبدأ يروي لنا بمرارة مأساة وقصة هذه العوائل ومعاناتها وخص بالذكر عائلة المرحوم الوجيه المحامي (اسماعيل اليعقوبي) حيث كان ملتحقاً بالحركة وكانت زوجته التي ينحدر أصلها من محافظة البصرة تردد عند آخر نقطة لسيطرة النظام "ليش ترحلوني انا عربية مو كردية" ، بطبيعة الحال لقد شمل التهجير القسري لعوائل الملتحقين بالحركة من الذين كانت لديهم مكانة سياسية وعسكرية ومن المعروفين لتعذر شمول جميع عوائل الملتحقين لكثرتهم و صعوبة ذلك وقصر فترة القتال وانتهاءه بتوقيع اتفاقية الجزائر في 6 اذار 1975.
وفي نهاية هذا المبحث لا بد لي أن اشير الى حدثين مؤلمين وقعا:

الحدث الأول: في نهاية شهر شباط 1974 عندما قام اثنان من المأجورين لدوائر الامن بوضع عبوة ناسفة داخل كازينو الشمال والذي تعود ملكيته للحاج (بلال) ويقع على الشارع العام في الطابق العلوي مقابل باب القلعة وقد أدى انفجار العبوة الى إصابة بعض المواطنين بجروح.
الحدث الثاني: فقد قام به نفس الجناة وهم من القومية العربية بوضع عبوة ناسفة بعد عدة أيام من الجريمة الأولى وفي مكان قريب منه في مطعم كباب (سيد معتصم) وقد أدى الانفجار الى مقتل صاحب المطعم واحد ابناءه واصابة اخر بخلل في عقله من جراء الحادث واصابة اخرين بجروح، القت قوات الشرطة القبض على الجناة والذين اعترفا بجريمتيهما واستصحبتهم معها قوات الشرطة عند التحاقهم يوم 10/3/1974 بالحركة الكردية.

هوامش الفصل الثاني المبحث الأول:

1- عبد الكريم فندي / فصول من ثورة أيلول في كردستان العراق / ص111
2- محسن دزئي / احداث عاصرتها / ص217
3- ديفد مكدول / تاريخ الاكراد الحديث / ص505
4- بناية متصرفية لواء أربيل أنشأت في عام 1937 واتخذت مقراً لكافة الدوائر في أربيل بما فيها المحافظة والتي كانت تسمى متصرفية والمحافظ كان يسمى متصرف الا انه وعلى أثر توسع اعمال الدوائر الحكومية واستحداث دوائر جديدة استقلت جميع الدوائر الحكومية في المحافظة بإشغال بنايات خاصة بها.
5- محي الدين محمد يونس / الحياة حكايات / ص23
6- علي سنجاري / حقيقة مسيرة ثورة 11 أيلول 1961 / ص304
7- جرجيس فتح الله / زيارة الى الماضي القريب / ص91
8- يونان هرمز / ايامي في ثورة أيلول / ص166
9- فؤاد عارف / مذكرات / ص275

للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:

https://algardenia.com/maqalat/45600-2020-08-12-17-28-00.html

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

946 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع