الدكتورة ماهي كجه جي ... شخصية عالقة في ذاكرة مدينة الديوانية

                                              

                       نبيل عبد الأمير الربيعي

      

الدكتورة ماهي كجه جي... شخصية عالقة في ذاكرة مدينة الديوانية

حينما رحلت الدكتورة ماهي كجه جي إلى بغداد قرب أهلها نهاية سبعينيات القرن الماضي، وفتحت هناك عيادتها، يقف السائق في گراج الديوانية ويصيح "دختورة ماهي بعد ثلث ركاب ونقبّط... دختورة ماهي..".

كانت جموع نساء "نساء الديوانية" على موعد مع الباص، يحجزنّ أماكنهنّ في الحافلة الصغيرة المستأجرة، مرتين في الأُسبوع، ويأتينّ إلى بغداد، يصلنّ إليها، ثم تحدث جلبة خارج عياتها وتعرف أنّ الباص الآتي من الديوانية قد وصل وأفرغ حمولته. يقود الوفاء مريضاتها القديمات إلى السفر لأكثر من ثلاث ساعات لكي يصلنّ إلى عيادتها. وتذهب الجموع إلى بغداد لمعايدة بركة الدكتورة ماهي والعودة مع نفس السائق أدراجهنّ مساءً مكللات بالشفاء المؤزر بعد علاج يذهبنّ إلى أنه يبدأ من إيمان العامة بقدرات الطبيبة واعتقادهنً بملكاتها ويقينهنّ المسبق بالشفاء.

الطبيبة النسائية ماهي اسكندر كجه جي كانت أول تعيينها بعد تخرجها من كلية طب بغداد عام 1955م في مدينة الديوانية، لم تسافر خلال حياتها إلى أي مدينة إلاّ سفرة واحدة عندما قُبل أخوها الأكبر عبد الأحد في كلية الحقوق في بغداد، وكان أول ولد يحصل على شهادة جامعية في عشيرتهم كلها، ويحمل نجمة على كتفه ويصبح ضابطاً عدلياً. فاضطر رب العائلة بالرحيل من مدينة الموصل مسقط رأسه بعد بيع البيت العتيق في شارع نينوى ويهاجر مع زوجته وخمسة من الأبناء الذين عاشوا لها(1)، والسكن في حي الكرادة في العاصمة بغداد، شارع الهندي. فهي من مواليد الموصل عام 1930، أكملت دراستها الابتدائية هناك والثانوية في بغداد، ثم المرحلة الجامعية في كلية الطب – جامعة بغداد. كان وزنها خمسين كيلوغراماً عندما دخلت إلى الكلية، ولما تخرجت زاد ثلاثة أخرى.

في مساء الرابع عشر من تموز سنة خمس وخمسين نزلت د. ماهي كجه جي من القطار في محطة الديوانية وبيدها أمر إداري يفيد بتعيينها طبيبة في مستشفى الديوانية الملكي. وها هي مع اختها الكبرى غزالة في الديوانية، المدينة التي سحبتها بالقرعة فتم تعيينها فيها. لم يبدِ أخوها الكبير تحفظاً شديداً من عملها في مدينة الديوانية، بل كان مرتاحاً لأن عمل ماهي سيكون في الديوانية، مقر الفرقة الأولى في الجيش، إنه يعرف قائدها وعدداً من ضبّاطها.

عند وصولها إلى الديوانية لم يخطر على بالها أن تجد في استقبالها على الرصيف، وفداً من الأطباء والصيادلة والموظفين المحليين وعدداً من وجهاء المدينة ينتظرونها في المحطة. ست ساعات بعربة القطار وهي تهتز مع اهتزازات العربة وقرقعات خشب المقاعد والحقائب والأواني ومتاع المسافرين. كانت خلال عملها في مستشفى الديوانية الملكي تدمع وتخاف أن يصل همسها الداخلي إلى مسمع أخيها سليمان فيسخر من تهيؤاتها، وسيحسم الأمر على جري عادته بالقول: "تقدّرون وتضحك الأقدار". ذهبت لكي تمضي سنة واحدة، إثني عشر شهراً يلتزم الخريجون الجدد خلالها بالخدمة في الأرياف، لكنها بقيت أضعاف تلك المدة وغادرتها (إلى بغداد) وهي في سن الكهولة.

في الديوانية ستتعرف على الرجل الذي سيصبح زوج المستقبل حنا شماس، الطبيب الشاب الذي كان يعمل معها في المستشفى نفسه، وفي الديوانية ستنجب أربعة أبناء: سرمد وهالة (اصبحت فيما بعد دكتورة وتعمل حالياً في مدينة تورنتو)، ووميض وهمسة. وستفقد الولد البكر سرمد وهو ابن ثلاثة أشهر، ويترك فقدانه جمرة في كيانها.

في أول يوم عمل لها في مستشفى الديوانية الملكي، وجدته أنه لم يكن سوى إسطبل، الردهات مثل سوق شعبي، في كل منها عشرة أسرة يقيم فيها عشرون مريضاً، نصفهم يرقد على الأرض، أما مجاري المياه فمسدودة تعوم فوقها النفايات. ولكي تستحم، كان على الطبيبة الوافدة من بغداد أن تصعد فوق كرسي حديدي تضعه تحت الصنبور العالي. إن أرض الحمام غرقى بمياه المجاري. كعادتها تركت العنان لدموعها، سلاح ضعفها الذي يسبق اندفاعات مقاومتها. ثم حسمت أمرها ذات صباح، وذهب لمقابلة رئيس صحة اللواء (الدكتور اللبناني شاكر فرنجية). قالت له كيف أعمل في مكان مثل هذا... هل تقبل أن ينزل الأطفال وسط المكروبات؟ كان جواب مدير الصحة قائلاً: "يواش يواش دكتورة. هذي هي الإمكانيات". كان مدير صحة الديوانية مديراً أنيقاً ونظيفاً ومبتسماً، وقد زاد من سعادته أنه سيعود قريباً إلى العاصمة.

قبل مجيء الدكتورة ماهي إلى الديوانية، كانت نساء المدينة، ومن قبلهنّ أُمهاتهنّ وجداتهنّ، يلدنّ أطفالهن في البيوت، على أيدي الجدات، أي القابلات. ولم تكن في الديوانية قبل وصولها سوى طبيبة وحيدة تعمل في عيادتها الخاصة، لا في المستشفى. وعزمت الدكتورة ماهي أن تذهب لرؤية متصرف اللواء. إنها زيارة تعارف ومجاملة. وهي ستنتهز الفرصة فتطلب مساعدته في بناء قسم للولادة.

في ساعة غضب وحيرة، عادت د. ماهي لرؤية متصرف اللواء. قال لها: إصبري وانتظري. نحن بصدد بناء مستشفى جديد وقد حفرنا الأساسات ولا مجال لتوسيع المستشفى القديم (المقصود مستشفى الديوانية الجمهوري الذي أزيل واصبح الآن دائرة التسجيل العقاري). قالت له: أريد خيمة لا أكثر... ولن أنتظر أي بناء. حدد المتصرف لها مكاناً في مستشفى الديوانية الملكي ليصبح صالة للولادة.

جاء صديق العائلة أبو يعقوب (صالح ساسون معلم)، صاحب معمل الطابوق (الفني) وساعدها في وضع التصميم. في هذه الزاوية ستُبنى المغاسل ودورات المياه، وهناك لا بدّ من تشييد مخزن صغير لحفظ حاجيات المريضات، مع بضعة أرفف للمواد المطهرة واللوازم الطبية. نقل لها أبو يعقوب بشاحنته الصغيرة ما تحتاج من كاشي وطلاء ومواد بناء. هذا هو الفضاء الخاص الذي ستتحرك فيه وتستقبل الحوامل وتملّص المواليد... نزلت إلى بغداد لتشتري ما تحتاج من آثاث: سرير توليد والحاجز الخشبي الذي يستر الوالدة ومهود الأطفال أي "الكواريك"... حضر المتصرف حفل الافتتاح، وقصّ الشريط. وجاء قائد فرقة المنطقة وضباطه وشيوخ عشائر الديوانية وما جاورها.

كانت السينما الصيفي في المدينة تعلن عن الفلم المقبل. طلبت د. ماهي من سائق الأجرة أن يلحق بسيارة البيك آب التي تحمل صورة كبيرة لفلم من أفلام جون وين... لحقت به وأوقفته بإشارة من يدها فعرفها ونزل يستطلع الأمر. قال لها: خير دكتورة؟ قالت: "شوف عيني، هاك ربع دينار وأريدك تدور بسيارتك وتصيح بالميكرفون تعلن عن افتتاح صالة جديدة للولادة في المستشفى (الملكي)... نظافة وأمان وبإشراف دكتورة جاءت من بغداد".

بعد فترة من عملها وفي عام 1959م اشترت سيارة أوبل موديل 59، وهي بعد بالكاغد. "رقمها 14 ديوانية... لو طلبوا إليها أن تختار رقماً يعجبها لما عثرت على أجمل من هذا الرقم لسيارتها. إنها تتفاءل بالأرقام الزوجية وتميل إليها لأنه تاريخ وصولها إلى الديوانية. كانت قد سمعت من الإذاعة قصيدة للميعة عباس عمارة وحفظت مطلعها وظلّت تُردده بينها وبين نفسها. "أُحبّ كلّ أربع وعشر... لأنها تختم رقم الشّر". سلمها ضابط التسجيل رقعة السيارة ومنّها بأنه أنعم عليها برقم ثورة تموز. وكانت الدكتورة أنيسة قد سيقتها كأول امرأة تقود سيارة في شوارع الديوانية، وهي الثانية.

كان في المستشفى دكتور يدعى حنا شماس (1928-1997)، لفت نظرها منذ أن رأته في بيت رئيس الصحة. ومثله كان يلفت النظر. كأنه نبيل جرماني بشعره الفاتح وبشرته المشربة بالحمرة. أحبته وتزوجته وكانت حين تسير بجواره تشعر بالزهو حين ترى الأعين تتساءل: كيف اصطادته؟. كان أمر خطبتها من الدكتور حنا غريباً. فهو قد طلب من رئيس الصحة أن يجس نبضها قبل أن يطلبها للزواج. قالت: الأمر أمر أهلي. بعد أسبوع، سار وفد من الديوانية برئاسة أم حنا وعضوية الدكتور فرنجية وزوجته السيدة ريموند ومعهم (خالدة) أم يعقوب زوجة صديقهم صاحب معمل الطابوق، وأم جلال زوجة قريبهم مركب الأسنان (نجيب ساعور)، وقصد منزل أهلها في بغداد. ولم يذهب العريس معهم... بدأت والدته مهمتها بإلقاء المحفوظات المعتادة: "ولدنا خلوق ومجتهد ويخاف الله وما عندة مكسّرات". ولم يكن العقيد عبد الأحد، (أخو ماهي) محتاجاً لتوصيف... قائلاً لها: "أما محاسن ولدك الدكتور، يا أختي الكريمة، فأنا أعرفها بالتفصيل. إنه أشهر قمارجي بين الأطباء وأحسن شرّاب عرگ وأكبر مدخن جكاير... وأنا موافق عليه".

بعد زواجها من د. حنا شماس استأجرا عيادتين متقابلتين في حوش منزل قديم (في صوب الشامية قرب صيدلية العاملي). وكان باب عيادته مشرعاً دائماً للأصدقاء والزوار وباب عيادتها مغلقاً على ما خلفه من أسرار النساء. أما دار سكنهما فكان امام مستشفى الصدرية في المدينة.

شاركت الدكتورة ماهي عوائل مدينة الديوانية في أفراحهم وأحزانهم. وكانت وهي المسيحية المؤمنة بيسوع وبشفاعة مريم، تحضر القرايات على الحسين في عاشوراء. كان الأمر طبيعياً في الديوانية لصداقتها مع العلويات. فعائلات المدينة محافظة ومتدينة مُشرعة البصائر. وحتى حين انتقلت إلى بغداد، كانت تأخذ ابنتها همسة وتذهبان لتجدا مكانهما محجوزاً في الصدر (صدر المجلس)، أمام المنشدات. في القرايات تنساب دموع د. ماهي بدون أزجال أو محفزات. تتذكر موتاها وتبكي مع اللاطمات على الحسين. أما ابنها وميض فعندما كان صغيراً أخذه حسان الفلسطيني (مستخدم في دار د. ماهي اصطحبه أحد الضباط المشاركين بحرب عام 1948 معه من فلسطين كونه قد قتلت عائلته) إلى المصور أنور، أخذ له صورة جميلة بالملابس السوداء وهو يحمل سلسالاً، وبعد أخذ الصورة سار في موكب عاشوراء في الديوانية وهو يحمل سلساله. من معارفها في المدينة عوائل: متصرف اللواء وقائد الفرقة الأولى والعلوية منية والمرضع بستانة (كانت مرضعة لابنتها هالة ومن ثم عملت فراشة في روضة الديوانية) وحسان الفلسطيني والدكتور شاكر فرنجية والست ريموند والجدة نانا وأم يعقوب، وكلهم وقفوا معها وكانوا ظهراً وسنداً.

هذا السرد الجميل لحياة الدكتورة ماهي كجه جي شمّاس مستل من رواية (طشاري) لابنة اخيها إنعام كجه جي. وعندما رغبت بكتابة مقالة عن عمتها الدكتورة وسيرتها الذاتية قالت لي أقرأ (طشاري). كان جوابي لقد قرأتها وكان حدسي انها تدور حول السيرة الذاتية للدكتورة ماهي، رغم أن المؤلفة أطلقت عليها في الرواية اسم (وردية). وفي يوم الأثنين الماضي الموافق 15/6/2020 طلبتُ منها صورة شخصية للدكتور الطيبة التي أحبها ابناء الديوانية لاخلاصها في مهنتها، فوعدتني خيراً عند زيارتها لعمتها.

اليوم الدكتورة ماهي شمّاس لاجئة في فرنسا، بعد عمليات التهجير التي طالت كل مكونات الشعب العراقي عام 2006 و2007. وكونها من الديانة المسيحية فقد طالها التهديد. إن من يراها وقد بلغت التسعين، تدفعها ابنتها بكرسيها المتحرك في ضاحية "فينيو سور سين" جنوب باريس، لا يصدق ان هاتين الكفين الصغيرتين اللتين ترتسم عليهما خارطة من الأوردة الزرق هما اليدان السحريتان ذاتهما، بأناملهما المطواع المدربة التي جابت المغارات السرية للنساء فتفتك وتربط وتكشط وتنظف وتكوي وتداوي وتهجس بالبشارة.


المصدر:
(1) إنعام كجه جي. رواية طشاري. دار الكاتب. بيروت. ط 2. 2009

https://ankawa.com/forum/index.php/topic,980711.msg7708882.html#msg7708882

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1063 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع