ندوة أحاديث الثلاثاء في عامها العاشر

                                                      

                    بقلم: لهب عطا عبد الوهاب

ندوة أحاديث الثلاثاء في عامها العاشر
9/4/2019

نحتفي اليوم بالذكرى العاشرة لندوة أحاديث الثلاثاء التي التئمت لبناتها الأولى في دار الوالد المغفور له عطا عبد الوهاب وذلك في شهر نيسان أبريل عام 2009 شهدت خلالها العديد من المحاضرات المتنوعة تم جمعها في 6 مجلدات. واستمرت الندوة على جذوتها حتى شهر شباط فبراير عام 2017 لتنتقل بعدها لظروف قاهرة إلى دارة. د. شوقي ناجي جواد الساعاتي. وقد احتضن د. شوقي "الوديعة" هذه بكل جدارة وحرفية ما أبقى على زخم الندوة وديمومتها. وسيصدر عنها قريباً المجلد العاشر.

سأحدثكم اليوم عن الوالد الراحل لا كسياسي أو دبلوماسي أو مترجم ، بل سأحدثكم عنه "كشاعر" ، وهو أمر قد لا يدركه الكثير من الحضور.
كتبت هذه الأشعار في غياهب سجن أبو غريب السيء الصيت وتم جمعها لاحقاً في ديوان أسماه الوالد "أعوام الرمادة" محاكاة لعام الرمادة في صدر الإسلام حين احتبس المطر واحترق الكلأ. بيد أن الكلأ في ديارنا ظل محترقاً لسنوات (13 سنة) ومن هنا جاءت تسمية الديوان
بـ (أعوام الرمادة).

أولاً: توطئة
دخلت سجن (أبو غريب) الجديد ظهر العاشر من حزيران 1970 بعد ثمانية أشهر من التعذيب الجسدي والنفسي في (قصر النهاية)، وهو سابقاً (قصر الرحاب) مقر العائلة المالكة الهاشمية في بغداد حيث قتلوا جميعاً بالرصاص صباح 14 تموز 1958.

كان بصحبتي اللواء الركن عبد العزيز العقيلي، وزير الدفاع السابق وكنا مع مجموعة أخرى نقف صباح ذلك اليوم في قفص (محكمة الثورة) لسماع الأحكام. كان الحكم عليه وعلي بالإعدام شنقاً حتى الموت، وعلى آخرين بالسجن مدداً مختلفة.

كانت محاكمتنا قد استمرت جلسات عديدة، ثم أجلت لصدور الأحكام.
وعلى خلاف العادة طال التأجيل أمداً غير معتاد. وشعرنا أنهم حائرون في تقرير الأحكام، لأن المحاكمات كانت قد فشلت في إثبات إدانتنا بشيء. وعلمنا في ما بعد أن رسائل قد وجهت من الإذاعات الخارجية تتحدى السلطة، فاستفزتهم، فسارعوا إلى إصدار الأحكام.

تليت علينا الأحكام فأخرجونا من القاعة بغلظة. ساقونا، أنا وصاحبي، إلى سيارة مسلحة، وهناك أرادوا تكبيل أيادينا بما يسمى (الكلبجة) (ويطلق عليهم اسم الجامعة) فلم يجدوا ما يلبي رغبتهم. عندئذ شدوا أيدينا من الخلف بالحبال.

وهكذا دخلنا غرفة مأمور السجن في أبو غريب. قال هذا: آتوهما بملابس السجن. فجاؤونا بسراويل من قماش الجوت الذي يسمى (كونية) ، وكانت عريضة جداً، رفضوا إعطاءنا دبابيس أو ما أشبه لتثبيت السروال على الخصر. كان أحدنا يسير متعثراً وهو يمسك السروال بيديه من الجانبين لئلا يسقط إلى الأرض. في تلك اللحظة تذكرت ما كتبه وليم شيرر عن سقوط الرايخ الثالث حين سيق الجنرالات الألمان من المحكمة إلى ساحة الإعدام بسراويل عريضة جداً إمعاناً بالإمتهان، فكانوا يسحلونها سحلاً حذر سقوطها وتعريتهم.

بذلك الزي دخلنا قسم الإعدام، ويسمى (القاووش)، وهو كبير بطابقين، وذو زنزانات متعددة كثيرة، انفرادية، تعج بالمجرمين. وبحثوا عن زنزانات فارغة، فإذا بالزنزانة رقم (1) والزنزانة رقم (2) فارغتان. أدخلوا صاحبي في الأولى، وأدخلوني في الثانية، وأغلقوا من خلفنا الباب. ما أن دخلت، وخلعت السروال المهين، حتى سجدت على الأرض سجدة الشكر إلى الله الذي نجاني من جحيم قصر النهاية، انتظاراً لما قدره لي من مصير. فطال مكوثي في تلك الزنزانة خمس سنوات ونصف صدر بعدها مرسوم بتخفيض حكم الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة !
في تلك الليلة نمت (بالثوب واللباس) على الأرض، وهو أمر يهون في الصيف! لم يكن في الزنزانة نافذة، إنما فيها مرحاض مفتوح ، وهذا يسهل قضاء الحاجة. وفي صباح اليوم التالي فتحت أبواب الزنزانات كلها من دوننا. قالوا لنا : هذا هو التقليد المتبع مع النزلاء الجدد مدة بضعة أيام ، فاصبروا.

مضت بضعة أيام على وجودنا في ذلك المثوى الإنفرادي الجديد ، وأخذوا بعدها يفتحون لنا صباحاً أبواب زنزاناتنا كما يفعلون مه النزلاء الآخرين . هناك ساحة خارجية ترابية ملحقة بالقسم يجوز خلال ساعة الفسحة الصباحية المشي فيها للتريض . أخذت أحرص على تلك الرياضة يومياً ، فأسير وحدي ، وأفكر . وذات يوم ، وإذ أنا أسير وحيداً جال في خاطري ما يشبه بيت الشعر : كان لي في قرية المجد ... وهكذا ولدت قصيدتي الأولى هناك بعد ما يزيد على سنتين من السكن في ظل المشانق التي كانت عاملة باستمرار.

ثانياً : قرية المجد
كان لي في قرية المجد صحاب وخمائل
ونجوم تلد الضوء لأخرى . ومشاعل
وكروم يقف الدهر على صهبائها وفقة سائل
وهموم لا تعي في رحلة الفخر سواحل
وجياد لبست من قصب السبق جدائل

أين مني قريتي؟ أطلالها أضحت زوائل
الأماسي خوال ... والأناسي رواحل
قريتي! لم يعد يطرقها في خلوتي حلو الشمائل
بل رسل من زمن نغل محنى برذائل!

أين مني صاحبي؟ والوصل فينا متواصل
صاحبي! ذاك الفتى المدلج في ليل خرافي الحبائل
شاخص الرسم، ولكن صدى إيقاعه الغائب زائل
المعنى . المغنى في دروبي . المكنى بالجلائل
سرمدي السمت غربي المسافات وشرقي الفضائل

قرية المجد . سفت ريح سواقينا ففاتتك القوافل
بابك المشرع مقطوع الخطى . والبئر عاطل
طمك الصمت ، فلا تشدو سوى خرس البلابل
واصطفاك القلب النوء برعد لمعي الضوء ، والأرض زلازل
ها هنا ، يا قريتي ، الأحراش قتلى ،
ووحوش الليل تعوي ،
والعصافير ثواكل.

عجباً يا قرية المجد ! ألا يشغل بال الدهر شاغل ؟
عجباً يا قرية المجد ! ألا تقرع آذان الورى قولة قائل ؟
عجباً يا قرية المجد ! ألا تمتد في الساحة إلا يد قاتل ؟

أنتِ مثلي : قمري في أفق القطب ، وليلي متطاول
مقفر الروح . كسير الدوح . مشدوه المحيا . متسائل .
أوحد اللوعة . مكفوف الكرى – مبهم المهجة . مشكاة نوازل .
آهل القاع بأشجان كقاع البحر بالمرجان آهل
أجنبي المنتدى :
لا القيد مكسور ولا الحتف يعاجل.

زنزانة الإعدام
4 / 10 / 1972

ثالثاً : قالت لي الأشجار
سأخذكم إلى قصيدة الوالد الثانية التي كتبها بعد تخفيض حكم الإعدام إلى السجن المؤبد أواخر عام 1975. إذ أوحى له ضيق المكان فكرة المقارنة بين حاله المحاصر في بقعة محدودة هي مساحة السرير : من فوقه الجلوس والنوم ومن تحته حفظ الأغراض ، وبين حال الشجرة المغروزة في الأرض لا تبارح مكانها . وهكذا ولدت قصيدة (قالت لي الأشجار) بتاريخ 7 / 9 / 1980 :

على ضفاف بركة الأحلام في وسادتي
غابة أشجار
تعود في نومي إلى الظهور ،
يلعب في ظلالها الصغار ،
دهر من السنين لا أرى القداح في البساتين ،
ولا أرى الأطفال ،
لا أعرفهم
إلا على حافة كابوس بحجرة الظلام ،
ومرة قامت أمامي سنديانة تقول :
قف !
وقبل أن أفيق من دوامة الذهول
راحت تحاكيني كأن في لسانها تجربة الحكيم .
قالت : إذا كان يسوؤك اختصار ما تجول فيه من مكان ،
فانظر إلي ،
إني لا أشغل في الحيز إلا بقعة صغيرة على مدى الزمان ،
لكنني أغوص في الأرض بكل ما لدي من جذور ،
وأرتقي في الجو من فوقي بكل ما لدي من أغصان ،
أمتص في السكون ما يكمن في التراب من خلاصة الحياة ،
تحيطني الديدان ،
وأنشر الأوراق في الفضاء خضراء تحيطني الطيور ،
ألا ترى ! فلا يهمك الدبيب ،
فليس بين العفن الداكن في مجاهل الأوحال ،
وبين زرقة السماء ، والهواء ، والهديل في سرادق الحمام
سوى امتداد قامتي ،
ألا ترى ! ألا تسمع هذا المهرجان حول هامتي ؟
حتى كأن هذا الانحصار في المكان
كأن هذا الضيق في الحراك أو في الانتقال
يجعلني وارفة الظلال ، لكل من يريد أن يحط عن كاهله الكلال ،
يجعلني ثابتةً :
تبني علي الطير ما تشاء من أعشاشها ،
حتى إذا عادت إلى صغارها عشاء
فإنهم هناك ، فوقي هناك .
أما إذا داهمني الإعصار
فما علي إلا الإصطبار لا خيار لا خيار ،
تهزج أوراقي له فتنشج الغصون
ما زأرت ريح سوى بدمعي الهتون .
حتى إذا زعزعني الإعصار يوماً ما بلحظة انهيار
ثم رماني خشباً يجرفه التيار
فقد يعوم فوقي مغرق أنهكه الدوار
أو أنتهي إلى مواقد النار عليها يصطلي السمار في محافل الشتاء
عندئذ أبهتهم حيناً بمخزوني من الشرار
أو أرتمي حيناً على قلوبهم كموجة الدفء التي ليس لها قرار .
لا تبتئس ! قالت لي الأشجار :
فأنت كلما حاصرك المكان
تكون مثلي
تعيش للأغيار ،
سقفاً من الأغاني لملاعب الطيور ،
وربما تأوي إلى غصونك الصقور ،
ويحتمي في ظلك : المتعب من أسفاره
والضال في تجواله ،
وربما يغفو على بساطك العشاق في أمسية اختباء .
لا تبتئس !
فأنت كلما حاصرك المكان
تقترب النجوم منك في الليالي حينما يأخذك الهلوع
حتى كأن ضوءها مساحة شاسعة السطوع
لا ، لا تبتئس !
فكلما ضاق بك المكان
فاض بك الخير على الغير
وناداك الجوار للخلود لو تريد .

مرحى بندوة "أحاديث الثلاثاء" وهي تطفئ شمعتها العاشرة.

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

752 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع