علي السوداني
كان ذلك قد وقع فوق عتبة منتصف التسعينيات الفائتة بقليل . كنت - وما زلت – مقيماً في عمّان ، صحبة شلة كبيرة من الأدباء والكتاب والفنانين والمثقفين ، الشاردين من بغداد العباسية ، المريضة والمحاصرة والمكتومة والكاتمة . كان جلّ الذين هجروا بغدادهم ، ويمموا وجوههم شطر باب عمّان ، بوصفها الملاذ الآمن المتاح في تلك الأيام السود ، إنما فعلوا هذا لمسوغات إقتصادية ، وقليل منهم كانت أسبابه سياسية غير معلنة ، ومنهم الكذاب الدجال الفهلوي ، أبو الثلاث ورقات ، الذي أوهم عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر – دغدغ جذورهم اليسارية – بأنه شيوعيّ قحّ ، أباً عن جدّ . بمستطاعي القول بثقة راسخة ، أنّ مجلس عبد الوهاب البياتي ، كان الأكثر شهرة وجذباً ، للساكنين النابتين في المدينة ، وللمشرّقين والمغرّبين ، وعابري السبيل ، وعابراته ، من نسوان الأدب والفن ، اللواتي ، إنْ دعبلتها المصادفة المسخّمة ، وشمرتها على سور تلك المائدة السكرانة ، قال كلُّ من قعدَ على ليلتها ، ورفع صحبتها ، كأس العوافي ، إنَّ هذه الكائنة الجميلة ، قد وكّرتْ هنا ، من أجل عيناي . كانت للبياتي ، مائدتان ، واحدة مزروعة عند أول عتبات المساء ، بين العصر والمغرب ، قائمة ثابتة أرجلها ، في غاليري الفينيق ، من أعمال وأطيان وعلامات شارع الجاردنز . قبل ذبول المساء بقليل ، سينشطر جلّاس المائدة إلى شطرين ، قسم يحمل ما جاء به أول الجلسة ، من كتب وجرائد ونصوص وذكريات وكلاوات - مفردها كلاو ، وقد جئنا على شرحه وتفسيره قبل عشر سنوات - ويرحل إلى مأواه ومثواه ، وقسم سيقودهم أبو علي المشعّ نوراً وحيويةً ، صوب المائدة الثانية ، أو الجزء المتأخر من الليل ، حيث حانة " الياسمين . قد تُدبّر هذه القسمة التي ربما كانت ضيزى لبعضهم ، بالتوافق والتواطؤ ، وإستعمال لغة الإشارات ، وتلغيزات الحواجب ، وترميشات الرموش ، وهذا يحدث في حال انوجاد ضيوف ثقال ، وجودهم قد لا يسرّ البياتي ، فيسير الركب ، متخففاً من أحمال إفتراضية ، بكثير من البهجة والحبور ، وقليل من الحسرة ، على ضيف كان صحبتنا قبل قليل ، لكنّ الإشارات المحكمة ، أفتت بتركه خلف الأظهر المغادرة صوب ليل الحان البديع . لا يشبه طقس مائدة حانة الياسمين السكرانة ، طقسَ أُخيّتها الراكزة في مفتتح الفينيق ، فالخمرة المخمرة ، تطلق الألسن ، وتنعش المخيال ، أما القهوة الشقراء المحروقة ، فقد تربط اللسان إلى جذره ، وتكتّف مخارج الحرف ، ودروب الفكرة ، لكن في المنتهى ، سيكون بالمقدور ، اعتبار المائدة الفينيقية الأولى ، بمثابة تكملة موضوعية ، للمائدة الياسمينية الثانية ، إذ تنفصم الكائنات الأدبية ، وترتفع أنواتها ، وتتورّم ذواتها ، وتنخلع أقنعتها عند باب الحانة ، بعد أن كانت راكزة مستقرة محترمة حقيقية ، بباب الفينيق المجيد ، وقد يحدث التضاد في التوصيف الفائت ، فتقوم الخمرة ، بدورها ولعبتها الأزلية ، في رسم الوجوه ، وربما إستعادة آدمية مفقودة . هجر البياتي عمّان ، على أوشال السنة 1998 وحطّ على دمشق ، لكنه لم يعمّر فيها طويلاً . أما غاليري الفينيق
الجميل ، فلقد أغلق أبوابه ، وفعلت مثله ، حانة الياسمين السعيدة ، وكأنّ المائدتين الضاجتين ، كانتا ارتبطتا بسرّة الشاعر المتصوف الذي هجره النقد ، ونسيه النقّاد والصحب ، بعد أن رشّوا قبره الدمشقي ، بأخير النظرات ، وتلك مفارقة موجعة حقاً وطبعاً وجدّاً وحتماً . ألليلة موحشة ، وأنا حزين ، وفوق رأسي لوحة تتلولح ،رُسمَ فوقها ، واحد من مطالع البياتي المذهلة :
أظلمت حاناتُ بغدادَ فلا جدوى ، فعبّاسُ من الحبّ يموتْ .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
953 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع