ا.د. ابراهيم خليل العلاف
استاذ التاريخ الحديث المتمرس – جامعة الموصل
نساء جليليات
في تاريخ الموصل الحديث ، محطات مهمة لابد ان نقف عندها . ولعل من أبرز هذه المحطات ما أحرزته المرأة الموصلية من تقدم وازدهار ، تمثل في الدور الكبير الذي قامت به في الدفاع عن الموصل خلال غزو ومحاصرة جيوش نادرشاه للموصل سنة 1743 م .
هذا فضلا عن أنها كانت تشارك الرجل وخاصة في الريف في تحمل أعباء الحياة ، وتربية الاطفال ، وتوفير مستلزمات البيت وتهبيش القمح واستخلاص الزبد من الحليب ، وجمع العلف للحيوانات ، وتوفير المياه من ضفة النهر نهر دجلة ، والعمل في طواحين الحبوب وفي الحقول الزراعية والغزل والنسج وما الى ذلك .
ومما يدل على عظم دور المرأة الموصلية ، ان المؤرخ الموصلي الكبير ياسين العمري المتوفى سنة 1816 ميلادية ألف كتابا كاملا عن النساء بعنوان : ( الروضة الفيحاء في تواريخ النساء ) .
لكن هذا لايعني ان النساء في الموصل كن يجلن سافرات بين الرجال في الاسواق ، بل بالعكس كانت المرأة الموصلية محترمة ، ومصونة وذلك بحكم ان المجتمع الموصلي مجتمع محافظ ، متدين وكان الاباء لايسمحن لبناتهن المتزوجات بترك بيوتهن مهما كانت الاسباب ، وكانوا يوصين بناتهن بالمحافظة على سمعة الزوج ، والحفاظ على بيته .
هذا هو وضع المرأة الموصلية بصورة عامة .. وفيما يتعلق بمن نسميهم النساء الارستقراطيات اي اللواتي ينتمين الى الاسر المتنفذة سياسيا ، والاسر الحاكمة ومنها الاسرة الجليلية التي حكمت ولاية الموصل بين سنتي 1726 و1834 ميلادية ؛ فيمكننا القول انه كانت لهن حياة خاصة وقد تمثلت هذه الحياة الخاصة في ان لكل واحدة من تلك النسوة مجلس أو صالون اجتماعي كان يسمى في الموصل ( القبول ) وهو ان تستقبل المرأة الجليلية مثلا ، وفي وقت محدد من الاسبو عددا من النسوة غالبا ما يكن من أقرانها او من جيلها من بنات الاسر الموصلية المعروفة والموصل كلها أُسر وعوائل .
وقد برزت النسوة الجليليات ، بعمل الخير وانشاء المساجد والجوامع ووقف الدكاكين والمحلات عليها وعادة ما يكون ذلك من حر مالهن . وهنا وانا اتحدث عن النسوة الجليليات فإن ذلك لايعني انهن فقط من قام بالاعمال الخيرية فمثلا لدينا الكثيرات من النسوة الموصليات من فعلن الخير وسنتحدث عنهن لاحقا فعلى سبيل المثال نجد ان فاطمة بنت ملا احمد تطوعت ببناء مسجد الملا احمد بن الحاج حسن الوساس ويسمى ايضا مسجد جون اذ دفن فيه شخص يدعى محمد جون فغلب اسمه على المسجد في محلة الجولاغ –الاوس –الساعة سنة 1193 هجرية اي 1779 ميلادية وكان مكتوبا على باب المصلى ابيات من الشعر ذكرها نيقولا سيوفي جاء فيها :
بشراك يافاطمة بالرضا
عند اللقاء والعفو عند الحساب
وقالوا بشرها وأرخ لها
بمسجد نالت جزيل الثوابِ
وقد كتب الاخ والصديق الاستاذ الدكتور عماد عبد السلام روؤف عن ذلك في كتابه الموسوم (الموصل في العهد العثماني - فترة الحكم المحلي 1139-1249 هجرية -1726-1834 ميلادية ) وقال ان عددا من النسوة الجليليات شغلن انفسهن بالاعمال الخيرية .
وعلى سبيل المثال انشأت (رابعة خاتون بنت اسماعيل باشا) ، جامعا ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم والجامع إسمه ( جامع الرابعية) والمدرسة اسمها ( مدرسة الرابعية ) .
اما حليمة خاتون أُم سليمان باشا الجليلي وحمراء خاتون أو حمرة خاتون زوجة الحاج حسين باشا الجليلي ، فقد اشتركتا في بناء جامع الزيواني وهو جامع باب البيض ولايزال قائما حتى يومنا هذا وقد تم الانتهاء من بناء هذا الجامع مع مدرسته سنة 1193 هجرية - 1779 ميلادية .
وبنت زوجة الغازي امين باشا ( مسجد العقبة ) .
وقامت فتحية خاتون واختها عائشة خاتون الجليليتان ببناء مسجد ومدرسة في الموصل سنة 1194 هجرية - 1780 ميلادية .
وشيدت عائشة خاتون ام محمود باشا بن محمد باشا الجليلي جامعا واوقفت عليه الاوقاف وكلفت ولدها محمود بان يكون متوليا عليه سنة 1212 هجرية - 1797 ميلادية .
كما اشتركت فردوس خاتون بنت يحيى اغا مع زوجها حسن باشا الجليلي في بناء مدرسة لاهل العلم سنة 1219 هجرية -1804 ميلادية .
وبنت فتحية خاتون وعادلة خاتون بنتا عبد الفتاح باشا الجليلي (مدرسة ) اخرى .
وساهمت مريم خاتون بنت محمد باشا الجليلي (توفيت سنة 1846 ) وامها هيبة الله خاتون بنت عبد الله في تشييد جامع كبير عرف ب
( جامع الخاتون ) سنة 1241 هجرية -1825 ميلادية ويقع هذا الجامع في محلة (حوش الخان ) وقد اوقفت عليه اربعة دكاكين في داخل سوق الصياغ .
وقد جاء في مخطوطة ( الدر المنتثر في تراجم فضلاء القرن الثالث عشر ) اشارة الى ان محمد امين باشا بن محمد باشا الجليلي انشأ مدرسة في جامع الخاتون واوقف عليها خزانة كتب واسمها ( المدرسة العثمانية ) التي درس فيها الشيخ عثمان الحيائي الجليلي وكان منقوشا على باب المدرسة بعض الابيات الشعرية التي ارخت للمدرسة جاء فيها :
وقد رمم الجامع اكثر من مرة منها ومن ذلك عندما رممته وزارة الاوقاف سنة 1978 ميلادية ( 1398 هجرية ) .
وكان الى جانب جامع الخاتون في محلة حوش الخان (جامع هيبة الله خاتون بنت عبدالله ) إلا أن افتتاح الشارع سبب هدمه فتم نقله إلى الجانب الأيسر من المدينة في مدخل منطقة المجموعة الثقافية ) وتجدون صورة جامع هيبة الله خاتون في المجموعة الثقافية الى جانب هذا الكلام .
ومما يجب علينا الاشارة اليه ايضا ونحن نتحدث عن مشاركة النساء الجليليات في بناء المساجد والجوامع والمدارس ، ان كثيرا من النساء في العهد الجليلي اهتممن يوقف الاوقاف الخيرية على ذريتهن ونذكر بأن عادلة خاتون بنت عبد الرحمن اغا الجليلي ( 1817 ميلادية -1233 هجرية ) اوقفت الكثير من الاماكن ، كما فعلت نسوة اخريات منهن خديجة بنت الحاج صادق اغا 1816 وناجية خاتون بنت عبد الرحمن اغا 1822 وفتحية خاتون بنت عبيد اغا 1789 ويمكننا متابعة ذلك من خلال الالواح التذكارية التي ثبتت على المنشأت والمباني التي تسجل اسماء اولئك النسوة المحسنات .
وأية مراجعة للوقفيات المتوفرة تثبت لنا انه لم تكن هناك اية غضاضة في ان يترك بعض الواقفين تدبير شؤون الوقف الى الاناث من اولاده في حالة عدم وجود ذكور ، وفي وقفية جامع النعمانية المتوفرة ما يدل على ذلك دلالة صريحة .
وهناك مسألة لابد ان اؤكد عليها وهي ان النسوة الجليليات شاركن مثقفي الموصل ، وابناء الاسر الكريمة في تأسيس الكثير من (المدارس ) العلمية والدينية ومنها دور القرآن ودور الحديث باعتبارها من المؤسسات التي كانت تتولى تهيئة طبقة مثقفة ومتعلمة تقوم بما يجب عليها في مجال التعيين في المناصب الحكومية والدوائر الشرعية في الموصل .
ففي سنة 1766 انشأت رابعة خاتون بنت اسماعيل باشا الجليلي دارا لتدريس القرآن الكريم في جامعها الذي بنته واشرنا اليه وكان اول من درس فيها شيخ القراء في المدرسة ودروس شيخ القراء هذا لم تقتصر على العلوم الدينية فحسب بل كانت تتناول مختلف العلوم .
في سنة 1779 ميلادية اشترك سليمان باشا الجليلي واخوه محمد باشا واخته حمرة خاتون زوجة حسين باشا الجليلي وأُمهم حليمة خاتون في بناء جامع كبير عند مرقد أحد الاولياء والحقوا به مدرسة لتدريس العلوم المختلفة ودارا لتدريس القران الكريم واخرى لتدريس الحديث النبوي وقد تحدث عن المدرسة والدار نيقولا سيوفي القنصل الفرنسي في الموصل في كتابه ( مجموع الكتابات المحررة في ابنية الموصل ) .
وفي سنة 1797 قام محمود باشا بن محمد باشا الجليلي بمشاركة أُمه زوجة الوزير محمد باشا ببناء مدرسة في جامع المحموديين واوقف عليها الكتب .
وشيدت فردوس خاتون وزوجها حسن باشا بن الحاج حسين باشا الجليلي سنة 1816 مدرسة عرفت بإسم ( المدرسة الحسينية ) ، وكان الى جانب هذه المدرسة مكتبة تضم الكثير من المخطوطات المتنوعة التي تبحث في مختلف العلوم والاداب وجلب لها اول الكتب المطبوعة في الاستانة سنة 1139 هجرية - 1727 ميلادية وقد نقلت كتبها الى مكتبة اوقاف الموصل .
في سنة 1816 ميلادية 1232 هجرية انشأ محمود اغا واخته فتحية خاتون مدرسة لتدريس العلوم عرفت ب( المدرسة المحمودية )
وشهدت سنة 1826 ميلادية بناء عدة مؤسسات ثقافية كبيرة منها (مدرسة الحجيات ) التي قامت على بنائها الحاجة عادلة ، والحاجة فتحية بنتا عبد الفتاح باشا الجليلي ، وكانت تضم ما يزيد على الثلاثمائة مخطوط ذكرها الدكتور داؤد الجلبي في كتابه (مخطوطات الموصل ) والتي اودعت فيما بعد مكتبة اوقاف الموصل .
وكانت آخر تلك الاعمال الثقافية ( المدرسة العثمانية ) التي اسسها محمد امين باشا بن محمد باشا الجليلي في الجامع الذي شيدته اخته مريم خاتون وأُمه هيبة الله خاتون واوقف عليها مكتبة وكان الشيخ عثمان الحيائي الجليلي يدرس فيها وكان منقوشا على بابها :
نعم لقد اهتمت النساء الجليليات ، بإنشاء المدارس التي كانت تضم صفوفا للتلاميذ ، وغرفة للمعلمين ولمدير المدرسة وكان قسما من هذه المدارس مستقلا عن المساجد والجوامع وتدرس في المدارس العلوم الدينية وغير الدينية ومنها الحساب والتاريخ والجغرافية والعلوم ، وقد خصصت الاموال لدعم ميزانية هذه المدارس ، واوقفت عليها الاوقاف لتلبية احتياجاتها حتى ان هذه المدارس كانت تقدم الكسوة والطعام للتلاميذ كما كان التلاميذ يجهزون بما يحتاجونه من الورق والاقلام وحددت كمية الطعام ونوعيته بدقة كما جاء ذلك في الوقفيات .
وحددت الوقفيات على المتولي ان يزود حجرات الدراسة وغرف الطلاب بكمية مناسبة من الشمع لتوفير سبل الاضاءة ليلا .ونجد في وقفية المدرسة الحسينية التي اورد نصها صاحب كتاب (الموصل في العهد العثماني ) ان راتب المدرس كان يبلغ ستة اضعاف راتب المتولي نفسه ، كما نجد ان هناك رواتب يومية تصرف لكثير من الموظفين الموكل اليهم العناية بأمر الطلاب ورعاية شؤونهم مثل كليدار الكتب خانة ( امين المكتبة ) والكتابجي اي الذي يزيل الغبار عن الكتب وعدد اخر من الخدم والسقائين والبوابين والكناسين وغيرهم فضلا عن رواتب الطلاب انفسهم .
اما مناهج الدراسة في هذه المدارس ؛ فكانت تشمل علم القراءات والتفسير والحديث واصول الفقه والعقائد واللغة وعلم الكلام والنحو والبيان وهذه هي العلوم النقلية . أما العلوم العقلية فكانت تشمل علم المنطق والفلك والحساب والهندسة والطب والموسيقى .
ومن الطريف ان نقول ان حسن باشا الجليلي تدخل في ترتيب دروس المنهج الدراسي ، فنص في وقفيته على أن " يقرئ المدرس كل يوم اول دروسه في علم الاخلاق ثم بعده باقي العلوم وهذا دليل على ما كانت الاخلاق تحظ به في تلك الازمان من اهمية ، بإعتبارها اداة لبناء المجتمع بناءَ صحيحا .
واخيرا لابد لنا ان نؤشر حقيقة مهمة وهي ان النساء الجليللات دعمن نشاط الراهبات الدومنيكيات عندما تصدين لفتح مدرسة للبنات في الموصل من خلال تشجيع بناتهن وبنات اسر الموصل للدخول في هذه المدرسة التي فتحت ابوابها سنة 1873 والتي بلغ عدد تلميذاتها سنة 1881 نحو (200 ) تلميذة .
ويقول الاستاذ بهنام حبابة في كتابه ( الاباء الدومنيكان في الموصل ) ان ال الجليلي وال العمري وال الجلبي وغيرهم ارسلوا بناتهم الى هذه المدرسة .
هذا فضلا عن ان النساء الجليليات ، كن يستقبلن نساء القناصل والرحالة والمنقبين والمبشرين الذين كانوا يأتون الى الموصل استقبالا يليق بهن ، وبالموصل مما اعطى الانطباع الحسن عن الموصل ، وكونها مدينة متقدمة ومتحضرة .
2157 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع