آرا دمبكجيان
في سنة 1999، أي بعد أكثرمن ست سنوات على موت الرئيس التركي توركوت أوزال تحت ظروف غامضة، بدأ أبنه أحمد أوزال بالبحث في أسرار مقتل أبيه. فأستناداً الى الأبن إن والده كان يستعد للإعلان عن تصريحات مهمة جدا ًقبيل وفاته. و فتحت تساؤلات أحمد أوزال الباب لإلقاء الضوءِ على أعمال توركوت أوزال في الأشهر الأخيرة من حياته.
من الواضح أن مؤسس حزب "الوطن الأم" بدأ بالأرتقاء السريع السلَّمَ السياسي التركي بعد الأنقلاب العسكري الذي حصل في تركيا عام 1980، و بمباركة المؤسسة العسكرية نفسها. فوصل الى مرتبة رئيس وزراء مرتين في 1983 و 1987 ثم واصل الأرتقاء الى منصب رئيس الجمهورية في 1989.
في بداية عمله السياسي بعد ذلك الأرتقاءِ السريع، خرج خليل توركوت أوزال – الخادم المطيع للمنظمة العسكرية - عن الخط المرسوم له لأسباب كثيرة. فقد كان من المنادين لأنتماء تركيا الى الأتحاد الأوروبي ... و لكن أبواب الأتحاد صُفِقَتْ في وجهه عدة مرات لأن تركيا لم تصل حتى الى أدنى المقاييس المطلوبة من الأتحاد الأوروبي من ناحية الوضع الأقتصادي و مسألة حقوق الأنسان ... و لسدِّ هذه الثغرة حاول أوزال في الدرجة الأولى إحياء برنامج GAP لتحسين و أزدهار الولايات الجنوبية – الشرقية من تركيا. لكن خطوته هذه لم تلقَ النجاح المؤمّل لأنه لم يستدع حل المسألتين الأقتصادية و الكردية. لكن حل المسألة الكردية أصبحت من أولويات سياسته مع تقدُّم مجريات أزَمَة الخليج في 1991.
فبعد دخول القوات العراقية الكويت في 2 آب 1990 تألّفَ ضد بغداد حلفٌ دولي كان أوزال يأمل أن يلعب دوراً رئيساً و مهمّاً فيه.
فقد كانت الحرب المرتقبة فرصة ممتازة لتحقيق أحلامِ تركيا في نفط العراق. حتى رئيس الدولة، أوزال، لم يُخْفِ النيات تلك عن أحد، بل بَسَطَ أوزال الخرائط أمام الرئيس الأمريكي آنئذٍ، جورج بوش، و جميع الزوّار الأجانب لتركيا، محاولاً إقناع التحالف الدولي ضد العراق إنَّ الحربَ ستنتهي بسرعة و بهزيمة العراق الأكيدة إذا وافقَ الجميع على دخول القوات التركية أراضي العراق. و بعبارة أخرى، كانت تركيا (الأوزالية) تخطط بكل وضوح إحتلال أراضي عراقية غنية بالنفط.
و حسب تصريحات رئيس أركان الجيش وقتئذٍ الجنرال دوغان كوريش أن أوزال كان يذكر في المناسبات الرسمية و غير الرسمية كافة عن مسألة دخول القوات التركية الى منطقة الموصل العراقية و التي لا زالت تركيا تطالب بها معتبرة إياها أراضي تركية (عثمانية) لأن القوات البريطانية (الحلفاء) لم تدخل ولاية الموصل في أثناء الحرب العالمية الأولى، بل دخلتها بعد أنتهاء الحرب في 11 تشرين الثاني 1918.
كان موقف تركيا (الأوزالية) خبيثاً تجاه العراق مع أن هناك المعاهدة الثلاثية (العراقية-التركية-البريطانية) التي وُقِّعَتْ في عهد الوزارة السعدونية الثانية، و وافق عليها مجلس عصبة الأمم و المجلس الملِّي التركي و مجلسا الأمة و الأعيان العراقيان.
و في الوقت نفسه، صَدَرَ صدى تصريح أوزال عن رئيس المجلس النيابي حسام الدين جيندوروك الذي كان يسترسل كثيراً في أحلامهِ المريضة و تفكيرهِ النتن، فيتكلم عن وصول القوات التركية الى منطقة الخليج العربي محتلَّة العراق بأجمعِهِ. بعد فشل تلك الخطط، غَيَّرَ أوزال من سياستهِ العسكرية، و لكن ضمن الإطار نفسه صار أوزال يصرّ أن يكون لتركيا حضور مؤثر في العراق ما بعد الحرب .... معتمداً على أحتمالين:
1- في حالة تقسيم العراق، كانت تركيا ستقدِّم الى المجتمع الدولي (وثائق تاريخية) مطالبة بمنطقتي الموصل و كركوك الغنيتين بالنفط.
2- في حالة المحافظة على كامل الكيان العراقي، يجب أن يكون صوت تركيا مسموعاً في الحكومة العراقية ذات القرار.
بدأ أوزال العمل بمقتضى هذين التصوّرين. فقد كانت تركيا تعتقد أنها تمسك في يديها ورقة الأقلية التركمانية في منطقة كركوك و تريد أن تلعب بها ضاغطة على العراق.
هنا بدأ ظهور أهمية دور المسألة الكردية ... و كانت سياسة أوزال واضحة:
إذا غَيَّرَتْ تركيا سياستها التقليدية و قبلت واقع وجود الشعب الكردي، لتمكَّن أوزال مستقبلاً أن يَدخلَ في الحسابات العراقية عن طريقهم. فقد كان يُصَرِّح في تلك الأيام: "تعيش أغلبية الشعب الكردي في تركيا، و بما أن الأكراد الذين يعيشون في الدول المجاورة هم جزء من الشعب الكردي، فإن الأهتمام بأمورهم هو من واجبنا المباشر!!"
و بصورة متوازية مع هذا التصريح، قام أوزل من ناحية بإقامة العلاقات مع قادة أكراد العراق، البارزاني و الطالباني، و من ناحية أخرى وضع المسألة أمام مجلس الأمن القومي التركي. و جاء قرار المجلس سريعا ًعن طريق الجناح العسكري فيه ناصحاً أوزال بمد الجسور مع قائدي الأكراد المذكورَين، و لكن على مستويات دنيا، و بكل هدوء و من دون إحداث أي ضجّة. أَثمَرَ العمل عن زيارة جلال الطالباني للعاصمة أنقرة في آذار 1991 فقابل عدداً من موظفي الدولة الصغار فقط، فأبدى أمتعاضه من هكذا مقابلات. و في زيارته الثانية طالبَ ضرورة مقابلة رئيس الجمهورية أوزال، فتمَّت المقابلة بين الأثنين لمدة ساعة واحدة، طالبَ أوزال فيها (بحماية) حل المسألة الكردية بالطرق السلمية.
و كمرحلة أولى تم البحث في مسألة تداول اللغة الكردية، ثم صَرَّحَ أوزال: "إذا أعتبر أحد الأشخاص نفسه كردياً، فمن غير الممكن أن يُطلق عليه أسم (تركي جبلي)..." و يعتبر هذا التصريح قمة الرياء و الخبث التركيين.... و تَبِعَ هذا تصريح آخر من سليمان ديميريل: "نعترف بالواقع الكردي، و لكن الى هذا الحَدِّ فقط."
من ناحية أخرى كانت الجهود تُبذَل للإنتماء الى الأتحاد الأوروبي و كانت الأبواب نفسها تُسَدُّ بوجوه الأتراك. ففي 21 آذار 1992 تحوّلت أحتفالات نوروز الى مصادمات دموية، و بلغ عدد الضحايا 57 في خلال يومين. و بطبيعة الحال فّسَّرَت السلطات التركية تلك المصادمات أنها لم تكن وليدة سياسة الدولة بل نتيجة لأزدياد فعاليات حزب العمال الكردي في المنطقة و (معارضة الجموع الكردية). فبدأ أوزال باتخاذ الأجراءات اللازمة لمقاومة تأثير حزب العمال الكردي. كان يضرب المنظمة من جهة و من جهة أخرى يبحث عن سبلٍ لأجراء محادثات مع قائدها عبدالله أوجالان. و كان المرشحون للوساطة من ممثلي الحزب الديمقراطي الكردي في البرلمان و أصبحوا هدفاً لأنتقاد الأوساط السياسية الحاد، فألقي القبض عليهم و بقوا مدة في السجن.
و لغرض تحريك المسألة الكردية في البرلمان التركي قام أوزال في صيف 1992 بتوكيل عدنان قهوةجي ممثل حزب الوطن الأم في البرلمان، و حَضَّرَ هذا الأخير تقريراً بعنوان (كيف لا يُمكن حل القضية الكردية؟ مقترح للحل السياسي) مبيِّناً فيه إن هذه القضية هي أهم مسألة تواجه تركيا، و مضيفاً أنه في حالة عدم إتخاذ التدابير السريعة للوصول الى حلول جذرية فإن الحرب الأهلية هي محصِّلة نهائية لا بد منها. كان قهوةجي، و بدفعٍ من أوزال، يقترح (الأعتراف بالواقع الكردي و تأمين حقوق الأكراد السياسية عن طريق قبول الوجود الكردي و اللغة الكردية).
تبنّى أوزال هذا التقرير و أقترح على مجلس الأمن القومي في أحد أجتماعاته بث برامج كردية في محطات التلفزة و إحياء دروس اللغة الكردية في المدارس. (لا أعتقد أن هناك دولة تدّعي بالديمقراطية يبحث مجلس الأمن القومي فيها هكذا أمور. آ. د.) و في الوقت عينه خطى خطوة بعيدة الى الأمام مقترحاً أنه "من الممكن الحديث عن دولة أتحادية" ... فقامت قيامة الوضع السياسي الداخلي و لم تقعد. و لكن في الواقع كان التصريح الأخير مجرد لعبة .
وَضُحَت أبعاد اللعبة هذه بسرعة. إذ كان المقصود منها ذر الرماد في عيون الأكراد من جهة، و تضليل الرأي العام العالمي من جهة أخرى. و السياسة التركية خبيرة في هذا المجال...
و في أيلول 1992 ألتقى في أنقرة مسعود البرزاني و جلال الطالباني و مندوبون عن تركمان العراق ممثلين عن الحكومة التركية. و عَقَبَ هذا اللقاء في شتاء 1992 أجتياح القوات التركية لشمال العراق بحجة ضرب قواعد حزب العمال الكردي في تلك المنطقة متلقين المساعدة من القادة الأكراد في أعلاه...
و لأجل أستمرار المحادثاتِ مع أوجالان، حصل أوزال منه على وعدٍ في آذار 1993 لإحلال الهدنة من 20 آذار لغاية 15 نيسان.
أصبح الأمر واضحاً لتوركوت أوزال إنه اذا لم يتمكن من تفعيل النيات الحقيقية لدى السلطات التركية لحل القضية الكردية، ستتبَدَّد أحلامه في أن تصبح لتركيا موضع قدمٍ سيادي في الشرق الأوسط. و في بداية نيسان قام أوزال بزيارة جمهوريات آسيا الوسطى ذات الأصول التركية مؤمناً في الوقت نفسه تمديد الهدنة مع أوجالان. فعاد الى أنقرة في 16 نيسان.
و قد أكَّدت المصادر القريبة جداً من أوزال آنئذٍ أنه لغرض إنجاز مشاريعه بصورة أكيدة كان سيقترح حل القضية الكردية حلاً سياسياً بوضع ثقله بجانبها كرئيس للجمهورية و على حساب مستقبله متحدِّياً سلطةَ الجيش.
يجري الحديث في هذه المرحلة عن أحتمالية موته بالتسمم، و هي واردة جداً اذا أخذنا بعين الأعتبار عداء الجيش و قوات الأمن الداخلي و العناصر التركية و القومية المتعصِّبة العاملة صمن حلقات السلطة الحاكمة التي لا يمكنهم بأي شكل من الأشكال حتى قبول فكرة تحويل تركيا الى دولة أتحادية، ناهيك عن القوى العظمى في المنطقة.
و تأخذ قضية تسميمه أبعاداً مختلفة في داخل الأوساط الشعبية و الرسمية. فهناك نسبة لا بأس بها من الأتراك تعتبره (آتاتوركاً) ثانياً و الذي كان يتوقع منه تحقيق إصلاحاتٍ معينة، سياسية و أقتصادية. و أكثر من ذلك، كان سيجعل من تركية قوة أقليمية مميزة واضعاً يده على نفط الموصل و كركوك. و لكن بالغباء التركي نفسه لم يفكِّر ولو للحظة واحدة أن أحلامه في نفط العراق ستجعل منه منبوذاً من قِبَلِ سادة العالم ... فقُتِلَ بأيادي (خفية) حسب تصريح أبنه أحمد أوزال.
و تم تشريح جثته مؤخراً و ظهرت في بقاياها آثار من مادة دي.دي.تي. و مادة دي. دي. إي. و عناصر كيمياوية مثل الكادميوم و الأميريسيوم و البولونيوم.
آرا دمبكجيان
737 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع