القس لوسيان جميل
مقال استهلالي الانسان ذلك المجهول ام ذلك المعلوم
تابع ...
قراءة علمية للأديان: والجدير بالذكر ان قراءة علمية وأنثروبولوجية للأديان، او لبعض الفلسفات، او حتى لبعض المعتقدات والأساطير، يمكنها ان تنير لنا جانبا من حياة الانسان، وليس كل الجوانب والأبعاد الخاصة بهذه المنظومة الكبرى التي نسميها الانسان، في جميع ابعاده الكبرى والصغرى، المادية منها والروحية.
الانسان لم يعد ذلك المجهول: اما في الجانب العلمي، وفي حقيقة الأمر، فقد كانت هناك اسباب كثيرة، تدعو هؤلاء الكتاب ليتكلموا عن الانسان بعبارة الانسان ذلك المجهول، ومنها الأسباب التي اتينا الى ذكرها أعلاه. غير اننا، وبسبب كثير من المستجدات التي طرأت على الفكر الانساني المعاصر، نعتقد ان الانسان لم يعد ممكنا نعته بذلك المجهول الذي تكلم عنه الكسيس كارل في زمانه، منتقدا الفكر السائد عن الانسان.
ابناء القرن الحادي والعشرين: ولذلك يمكننـا نحن، ابناء القرن الحادي والعشرين، وخاصة هنا في هذا الكتاب، ان نسمي الانسان، مع آخرين، بالإنسان ذلك المعلوم، مع بعض التحفظ طبعا، ولاسيما في المسائل الفلسفية والدينية، وحتى العلمية منها، وذلك لأن الانسان لم يعد مجهولا لدينا، بقدر ما كان مجهولا لدى الأجيال التي سبقتنا، حتى وان كنا لا نستطيع دائما اعطاء تفسير لكثير من ظواهر ابعاد الحياة البشرية، مع قناعتنا التامة، بأن الانسان المجهول سوف يتحول الى الانسان المعلوم في المستقبل القريب او البعيد، بسبب تقدم العلوم الانسانية السريع والمستمر، وسيبقى الانسان" ظاهرة " دائمة تحتاج الى كثير من المجهود والاختصاصات لمعرفة شيء منها.
تفاؤلنا مختلف عن تبجح التقليديين: ومهما يكن، فان تفاؤلنا يختلف كثيرا عن تبجح التقليديين الذين يدعون امتلاك الحقيقة على اساس العقيدة، لأن تفاؤلنا هذا مبني على مبادئ علوم الانسان، هذه العلوم التي ترفع النقاب يوميا عن كثير من الأسرار التي تقع في المجال العلمي الأفقي، وتزيل مسحة الاسطورة عنها démythification، كما حدث للقمر بعد ان صعد اليه الانسان، وكما حدث للإنسان، عندما تمكن العلماء من ان يجعلوا النعجة دولي تلد نعجة أخرى، بدون تدخل الذكر، بما سمي استنساخ الحياة او الاستنسال cloner خارج طريقة التناسل المألوفة، هذا مع العلم ان الشيء ذاته، كان يمكن ان يحصل للإنسان، لو ان الكنائس وبعض الدول، كانت تسمح باستنساخ الانسان.
ما نطمح اليه: فما نطمح اليه نحن، هو ان نجعل من الانسان انسانا معلوما، على قدر المستطاع، ليس بالادعاء، ولكن بالحق والحقيقة، مستندين الى براهين واقعية والى قوانين لا يرقى اليها الشك، هذه القوانين التي سنحاول ان نتكلم عنها في هذا الكتاب، منتهجين منهجية هي نفسها منهجية علمية انثروبولوجية لا توصل متبعها الى اسرار والى طرق مسدودة، ولا تجعل متبعها مضطرا الى استخدام سلطة العقيدة والإيمان من اجل اجبار الآخرين على الموافقة على ما يقول هو به من لاهوت ومعتقدات عن الانسان.
شيء من الفلسفة يبقى ضروريا: ولكن، على الرغم من كل ما أكدنا عليه في متن هذا المقال، حول تقدم العلوم ودورها الحاسم في معرفة الانسان افقيا وعموديا، أي علميا وفلسفيا، سوف يبقى امامنا شيء من حقيقة الانسان كمنظومة واحدة تتطلب قرارا معرفيا مقنعا، يمكن ان نسميه بالقرار الفلسفي. غير اننا نؤكد هنا بأن السر الفلسفي يتراجع شيئا فشيئا امام زحف العلوم وتقدمها، حتى ينحصر هذا السر في مساحة ضيقة جدا نعالجها في هذا الكتاب بطريقـة رائدة وجديدة، ان شاء الله، مع بقاء الفلسفة نافعة في كل حين بصفتها خادمة للعلم وممهدة له وداعية اليه، فضلا عن تخصصها الأساسي الذي يبدأ حيث يعجز العلم بشكل كلي وجوهري.
علاقة الفلسفة بالعلم: وبما اننا نتكلم هنا عن الفلسفة ننبه القارئ الكريم الى وجود قاعدة تستند الى الأفكار التي جاءت في الأسطر القليلة اعلاه والتي تقول بأن هناك علاقة عكسية بين الفلسفة والعلم، اذ حيث يزيد العلم تنقص الفلسفة، لأن العلم يأكل من جرفها، وهو ما نسعى الى عمله في هذا الكتاب. علمـا بأن هذه القاعدة تصح على المعتقدات الغيبية والعلم ايضـا، اذ حيث تزداد مساحة العلم تنقص مساحة المعتقدات الغيبية، وذلك بحسب رؤية الأب تيار ده شاردان الذي يقول بازدياد المادة حيث ينقص الروح، وازدياد الروح حيث تنقص المـادة، ممـا يجعل من هذا الكتاب المبسط علـى قدر حـال الكاتب وغالبية القراء، مساهمة جدية في التقليل من السر الذي يكتنف الانسان.
المعرفة الجيدة تقود الى العمل الجيد: ويقينا اننا نجد علاقة حقيقية بين تطور الانسان وبين تعامله اليومي مع الأشياء. ذلك ان معرفة بيئة الانسان لم تكن في اي وقت ترفا فكريا، وإنما كانت ضرورة انثروبولوجية تساعد الانسان، ليس فقط على معرفة ذاته من خلال معرفة الأشياء التي يتعامل معها، ومعرفة طبيعتها وطبيعة قوانينها، ولكن تساعده ايضا على ان يسيطر على هذه الأشياء ويستخدمها لصالح تحقيق ذاته وتطورها. فقد قال الفيلسوف اليوناني القديم سقراط، ان اي عمل صالح يأتي نتيجة المعرفة الجيدة.اذن كيف سنتكلم عن الانسان اليوم؟ هذا ما سيقوله لنا هذا الكتاب ان شاء الله، بعد الانتهاء منه، حيث سنركز فيه على ظاهرة الانسان بكل ابعادها وبناها الصغرى Micro structures وبناها العظمى Macro structures طالما يجمع الانسان في ذاته عالمه الصغير وعالمه الكبير، علـى حد سواء، في وحدة واحدة لا تنفصم الا انفصاما ذهنيا، من اجل دراسة حقيقة الانسان.
الفلسفة الرومانسية تعرفنا بالإنسان: من بين الفلسفات التي طلعت علينا في العصور الحديثة، والتي تتكلم عن الانسان، كانت الفلسفة الرومانسية. فهذه الفلسفة الرومانسية، في الحقيقة، كادت ان تكون علما استقرائيا حديثا، جعلني شخصيا ان اختارها كفلسفة انثروبولوجية تتكلم عن الانسان في حاضره وفي ماضيه وفي مستقبله. ففي الحقيقة لا تحاول هذه الفلسفة ان تعرف الانسان تعريفا فلسفيا مقتضبا كما كان يفعل ذلك ارسطو مثلا، ولكنها تتكلم عن الانسان بكونه قصة لا تنتهي، الأمر الذي يعني انها تتكلم عما هو متحرك وعما هو جديد في الانسان، وعما هو قديم وتاريخي، وليس عما هو ثابت.
تسمية الرومانسية: اما تسمية الرومانسية فقد اتتها من كلمة رومان Roman وتعني قصة شبيهة بالتاريخ، اي قصة من نسج خيال القاص، حيث يجعل القاص شخوصه تتكلم وكأنها تروي لنا حكاية او قصة تاريخية، فيها بداية وفيها نهاية تكون معلومة منذ ان يبدأ القاص بكتابة قصته. غير ان هذه القصة لا تتبع منهجية حسابية وحاسوبية ( كمبيوترية )، لكنها تقترب كثيرا من قانون الاحتمالات العددي الذي يمكن ان نحسبه بين الرياضيات هو الأخر.
فكرة فرادة الشخص البشري: هذا ومن جانب آخر، تبنى جميع القصص الرومانسية، فضلا عن قانون الاحتمالات العددي، على فكرة فرادة كل شخص بشري، لا بل على فكرة فرادة كل عمل من الأعمال التي يختارها الانسان. اما هذا الكلام فمعناه ان المشاهد لا يستطيع ان يتنبأ بدقة بما سيعمله الانسان الفرد، في اية حالة من الحالات التي يتعرض اليها، الأمر الذي يجعلنا نقول: اليس كل انسان قصة فريدة لا تنتهي؟ علمـا ان هذه القصة التي يقدمها القاص للقراء ليست قصة ثوابت، دينية كانت ام انسانية محض، ولا تكون قصة منطقية فيها كثير من الأمور الثابتة القياسية، لكنها قصة مبنية على المشاعر البشرية، هذه المشاعر التي تختلف في قوتها وعمقها وأهميتها من شخص لأخر، ومن حالة لأخرى في حياة الشخص الواحد. هذا ومن جهة أخرى، لا يمكن ان تسود في القصة اية خيارات عقلانية ثابتة،( حتى اذا كان العقل مطلوبا في امور كثيرة )، وإنما ما يسود في القصص الرومانسية هو العواطف الجياشة، هذه العواطف الانسانية التي يختار القاص منها، " لقطة " واحدة " بين ملايين اللقطات الممكنة في حياة الانسان الواسعة جدا. اما هذه اللقطة القصيرة فلا تعبر عن حقيقة الانسان التامة الكاملة، وإنما تعبر فقط عن حياة انسان مُعَين هنا الآن Hic et nunc .
تاريخ العواطف لا ينتهي: اما هذا الكلام فيعني ان تاريخ عواطف ومشاعر الانسان لا ينتهي ابدا، ولا يتحدد بسهولة. وهنا نقول ان هذا التاريخ لا يتحدد بسهولة وليس بالمطلق، لأن هذا التاريخ ليس " ارشيف " مادي لحركة التاريخ، بل هو تاريخ مشاعر وعواطف وتاريخ خيارات الانسان، بما فيها العواطف والمشاعر الانثروبولوجية المتماثلة، والعواطف والمشاعر العابرة المتحركة. ولذلك يختلف هذا التاريخ الانثروبولوجي الخاص بعواطف الانسان ومشاعره عن التاريخ الحضاري الذي هو تاريخ البناء المادي الحضاري الموضوعي.
لا تناقض بين تاريخ وتاريخ: هذا ومن المهم جدا، ان نذكر هنا ان تاريخ العواطف والمشاعر هذا لا يتناقض مع اي تاريخ آخر للإنسان، بل يكمله ويعطيه بعده الذاتي Subjectif، حيث ان هذه الفلسفة تؤكد على ذات الانسان وعلى شخصه الخاص، اكثر مما تؤكد على انتاجه المادي، مما يساهم مساهمة فعالة في جعل الانسان معلوما حالة بعد أخرى. علما بأن هناك تاريخ مجتمعات ايضا، تسيره المشاعر الجياشة اكثر من القوانين الجامدة. علما ان ما قلناه منضم جدا، ولا مكان فيه للعشوائية وال لا ادرية، وذلك لأن قانون الاحتمالات العددي قانون حقيقي يختلف عن قوانين الفيزياء والكيمياء، لكنه يليق بحياة الانسان الواسعة الآفاق والعمق، والذي في نهاية المطاف يعطينا نتائج محسوبة، وان لم تكن محددة مكانا وزمنا وعددا. وهنا استعين بكلام لهارون الرشيد الذي خاطب يوما الغيمة قائلا لها: امطري حيث شئت فاني خراجك يعود الي. ونحن ايضا نقول للإنسان: تصرف كما شئت وكما يحلو لك، وكما تستطيع، لأن النتيجة الأخيرة هي تقدم البشرية نحو الأفضل. هذا ما يقوله لنا قانون الاحتمالات، الذي يشمل الأفراد من البشر ويشمل الحيوان والنبات، ولكنه يشمل الانسان بشكل خاص، بسبب مواهبه الخاصة: العقل والمشاعر والحرية والضمير وسائر الثوابت الانسانية.
السيرورة المستمرة: وهنا يهمنا ان نؤكد ان الانسان في حالة سيرورة دائمة، وان كانت هذه السيرورة بطيئة لا يلاحظها الانسان العادي. فلولا السيرورة المستمرة لما كان هناك تاريـخ اصلا، هذا التاريخ الذي نسميه التاريخ البيولوجي، او تاريخ الحياة، على سطح الأرض. كما هو تاريخ تكيف الأحياء المستمر، والتاريخ الذي يدلنا هو الآخر على ان الأحياء في حركة وسيرورة مستمرتين، هذه السيرورة التي لا تتبع بشكل تام قوانين الفيزياء والكيمياء، بل تتبع قانون الاحتمالات العددي الذي يهمنا كثيرا ان نعرف لفكي نعرف كيف نتصرف.
تاريخ ناتج عن الصيرورة: ويقينا ان اية سيرورة ترتدي احيانا صفة صيرورة ايضا Devenir. فنعم ان الصيرورة هي سيرورة، ولكن، مع ذلك، تتبع الصيرورة قوانينها الجدلية الخاصة، التي لا نستطيع دائما ان نجدها في السيرورة. فالجدل La dialectique يظهر لنا، عندمـا نلاحظ وجود حالة انسانية واجتماعية جديدة تزيح وتقضي على الحالة القديمة وتأخذ مكانها، جامعة بين ايجابيات الحالة القديمة وايجابيات الحالة الجديدة، ومكونة منهما حالة جديدة، كما تقول بذلك بعض الفلسفات. علما بأن هذا الديالكتيك هو الذي يحصل لجميع الأحياء، ومنها الانسان، عندما يزيح نسل جديد ويحتل محل النسل القديم. علما بأن هذه الازاحة تحقق امكانيات Virtualités كانت كامنة في العلة الثانية ثم تحولت الى الوجود الفعلي، كما يعلمنا الفيلسوف ارسطو. غير ان هذا الجدل لا يشمل الانسان الفرد فقط، وإنما يشمل اجيالا بشرية بأكملها ويشمل مجتمعات كبيرة وصغيرة تخضع لقانون الجدل ولقانون الاحتمالات العددي الذي نجد فيه شيئا من النظام وشيئا من العفوية والفردية ايضا.
لغة العلمـاء: والجدير بالذكر هنا، هو ان العلماء يفضلون ان يتكلموا عن هذه الظاهرة بلغة علمية، هذه اللغة التي تجعلهم يتكلمون عن التطور، بمختلف نظرياته العلمية، الخاضعة للمشاهدة العلمية الصرف، كما انهم يتكلمون عن الجينات الوراثية التي تحقق الأعاجيب الوراثية وتمكن السيرورة والصيرورة من الحصول الفعلي Effectif، دون ان ننسى دور الفلسفة البنيوية في مجال السيرورة والصيرورة الحياتية، ودون ان ننسى ان الواقع الكوني والعالمي والإنساني مبني على الذريرات وعلى حركتها، وكذلك على ما يسمى المادة الأولى التي يقول عنها العالم لافوازيه: ان المادة لا تفنى ولا تستحدث، وإنما تتحول من صورة الى اخرى، بتحولات فيزيائية وكيميائية وحياتية وبيولوجية ( حياتية ). اما بكلمة اخرى فان لغة العلماء هي لغة استقرائية Inductive ولغة مشاهدة عينية، تعتمد على استقراء المعطيات الواقعية، من اجل ان يكون كلامهم عن هذه المعطيات كلاما علميا.
سيرورة الكون والحياة: ومهما يكن فإننا نرى ايضا ان سيرورة الكون نحو تحقيق ما فيه من امكانيات كامنة، تعتمد بشكل كامل على القوانين التي تتحكم فيه، هذه القوانين التي ربما هي جميعها قوانين مطعمةgreffés على المادة، وموجهة بقانون عام هو قانون الاحتمالات العددي، والذي يؤثر على جميع القوانين الأخرى تأثيرا ايجابيا، تنتج عنه افعـال يقودها الى الأمام قانون الصيرورة ايضا Loi du devenir، هذه الصيرورة التي ترتدي هنا حلة فلسفية، لكننا في الواقع، نجدها ترتدي حلة بيولوجية ( حياتية ). غير اننا في الحقيقة يمكننا ان نجد السيرورة والصيرورة، في الحياة الوجدانية والحياة الروحية الدينية والإنسانية، المبنية على المشاعر: مشاعر الحب والكراهية التي تقود حياة الانسان. فالحياة الروحية الانسانية، والحياة الروحية الدينية مثل الحياة البيولوجية تبدآن من الألف الى الياء ( من الألفا الى الاوميجا ).لكننا هنا نكتفي بهذا القدر من التوضيح.علما بأن السيرورة والصيرورة كلمتان متماثلتان ومتلازمتان، ومتقاربتان في معناهما القاموسي، وحتى الفلسفي.
التطور سمة الحياة: عندما نعرف علميا، نظريا وعمليا، ان الكون كله في حركة دءوب، وان هذه الحركة ليست حركة عشوائية، وإنما هي حركة تصل في نهاية الأمر، الى انتاج حالات وجودية، عبرت او تعبر من الوجود بالإمكانية En puissance الى وجود بالفعل En acte، فهذا يعني ان الكون والعالم كيانان حيان وليسا جامدين. علما بأن حياة الكون هي قوانينه، وليست حياة يقودها الوعي والعقل الانساني، ولا حتى العقل الالهي، طالما نعرف ان للباري حدودا لا يتجاوزها، وانه بالتالي يكتفي بالقوانين العظيمة، الصغيرة منها والكبيرة، والتي وضعها في المادة الكونية، حيث اننا لحد الان لم نشاهد اية حالة يكون التدخل الالهي فيها حقيقة علمية. اما حالات ما تسمى بالمعجزات، فهي شيء آخر تماما، لا يخرج عن بعض القوانين والظواهر الأرضية والإنسانية، او الاثنين معا.
اسباب عدم التدخل: اما عدم تدخل الله هذا، فنابع من القوانين التي صاحبت خلقة الكون نفسها، ذلك ان هذه القوانين ليست مضافة ولا دخيلة، وإنما هي من صلب كينونة المادة ذاتها، هذه المادة التي قال عنها لافوازيه انها لا تفنى ولا تستحدث، وإنما تتغير من صورة الى اخرى. علما ان هذا التغيير نفسه، تقوم به عشرات القوانين التي عُرف قسم منها، عن طريق علوم الانسان، وبقي القسم الآخر غير معروف الى حد هذا اليوم، الأمر الذي يجعلنا نؤكد بأن الانسان سيعرف بالتدريج ما عُد الى هذا اليوم عصيا على المعرفة، سواء كان ذلك عن طريق العلوم ام عن طريق الفلسفات المختلفة، القديمة منها والحديثة والمعاصرة.
الباري وشؤون الكون: فالله، وكما يبدو، لم يعد يتدخل في شؤون الكون، بعد ان براه وزوده بما يلزم من قوانين، لا يمكن للعلماء انفسهم الى حد الآن ان يحددوا دقتها غير المتناهية، وكأن الله يقول لنا نحن البشر، ولبيئتنا: تحملوا انتم مسؤوليتكم واهتموا انتم بأنفسكم وبكونكم وبعالمكم:انه وديعة بين ايديكم، وانه في الوقت عينه، رسالة تؤذونها لأجيالكم القادمة، كما اداها، وبقدر ما استطاع، من سبقكم في الحياة الأرضية. علما بأننا نستعمل كلمة الباري مفضلين اياها على كلمة الخالق، لأن الباري تعني صدور فعل عن الذات الالهية نفسها، في حين ان كلمة الخالق تعني ان الله يحرك ( لق ) مادة موجودة سابقة عن الخلق.
الانسان سيد التاريخ: وهنا نعتقد ان الانسان يصير سيد التاريخ المباشر، دون ان ننكر عمل الباري غير المباشر، والذي قد اودع فـي العلة الثانية، كل القوانين التي كانت بحاجة اليها، والتي جعلتها على ما هي. علما بأننا بهذا الكلام انما نختلف مع ما قلناه في كتابنا: كيف نتكلم عن الله اليوم، عندما كنا قد نفينا امكانية ان تعطينا الفلسفات شيئا يذكر. اما الحقيقة فقد بقينا على فكرنا السابق، لأننا لم نعطي للباري غير حقيقة خلق العلة الثانية، ثم ابقينا معرفة هذا الباري من خلال عمل العلة الثانية الانساني، ولاسيما في مجال الايمان الوجداني القائم على المشاعر الذاتية.
سبب آخر لامتناع الباري عن التدخل: من جانـب آخر، نرى ان امتناع الباري عن التدخل في شؤون العلة الثانية ( الكون )، يعود الى حكمة تقول ان النعمة لا تدمر الطبيعة، ولا تخربها، اي انها لا تتلاعب بقوانين الطبيعة والمادة، ولا تغير في منظومتها شيئا، قليلا كان ام كثيرا. La grâce ne détruit pas la nature، كما يقول اللاهوتي القديم شيبنChiben. اما امتناع الباري عن التدخل في شؤون الكون وشؤون الانسان، فيعود الى كون العلة الثانية (الكون - الانسان) وصلت بالقوانين الموجودة فيها، ومنها قوانين الحرية، حدا لا يطلب المزيد، او بالأحرى لا يتحمل المزيد. ومن هنا لا نستغرب ان يحترم الباري قوانينه ولا يغيرها لأي سبب كان.
مسيرة فيها النجاح وفيها الفشل: ويقينا ان عمل العلة الثانية ليس عملا ميكانيكيا ينجح دائما ولا يخفق ابدا، كما كان البعض يتمنون. ذلك ان العلة الثانية تتركنا نحن ابناءها، عرضة لقانون الاحتمالات وتوكل الينا مهمة انجاح المسيرة في نهاية المطاف وتقدمها المستمر الى امام. غير ان الفشل هنا ليست له اهمية مطلقة، ولاسيما بوجود امل الوصول عند الانسان، وبوجود قانون الاحتمالات الموجد نحو الاحتمالات الايجابية، اما الافتراض الذي يقضي بإمكانية تدخل الله في عالمنا فلم يكن يأتي عن علم، ولا حتى عن فلسفة، ولكنه كان يأتي عن جهل بطبيعة الله وعمله، كما كان يأتي عن فلسفة موجهة توجيها منهجيا أيديولوجيا كـان يهدف الى جعل الكنيسة تمسك بخيوط العمل الالهي، وتستلب هذا الاله من اجل التسلط، لا غير، وهي البلطجـة ( بحسب تعبير مصري ) والتي رأيناهـا ابان الفترة التي تسمى فترة الخصومات الكريستولوجية، اي فترة الصراع اللاهوتي الفلسفي حول طبيعة يسوع الفلسفية. Les querelles christologiques.
نداؤنا: وبما ان الحقيقة، هي كمـا جاء اعلاه، فإننا نوجه نداء الى اللاهوتيين في العالم، طالبين منهم، باسم الفكر المعاصر الأنثروبولوجي العلمي، بأن لا يحمل البشرُ واللاهوتيون باريهم اكثر مما يتحمل، وان لا يطلبوا منه اكثر مما يستطيع ان يعطي لهم. كما ندعوهم ايضا الى احترام حرية وطبيعة الباري هذه، كما تظهر لنا علميا، وليس كما عرفناها من خلال فلسفات اكل الدهر عليها وشرب، ومن خلال حضارة بائدة، هي حضارة العهد القديم والحضارة الوثنية السابقة لها. ومن هنا يتوجب علينا، نحن القسس ان نوجه علاقة الانسان بباريه توجيها ينسجم مع حضارة الانسان الراهنة، عوضا عن توجههم صوب الصلوات المطلبية المادية التي نهتنا الأناجيل عنها، كونها صلاة الوثنيين.
الله لا يخرب الطبيعة: Dieu ne détruit pas la nature وهنا نعيد الى اذهاننا فكرة اللاهوتي شيبن الذي يقول بأن الله لا يخرب الطبيعة، وان اي طلب موجه لله عليه ان يكون مطلبا يؤول الى تغيير فـي ذات الانسان الداخلية، وليس الى الكسب الموضوعي المصلحي الذاتي، حيث عبر توماس ميرتن عما يفكر به قائلا وبمعنى إن علاقتنا مع الله يجب إن نعملها من اجل إن نكون وليس من اجل إن نأخذ (to have To be). Tomas Merton) (من كتاب الانسان ليس جزيرة ). فمن كل ما جاء اعلاه نستنتج اذن ان اي طلب في الصلاة، لا ينسجم مع الفكر اللاهوتي الذي عرضناه، يكون باطلا، اذا كان طلبا موجها نحو الحاجات الموضوعية Objective المادية بكل اشكالها، حتى وان كانت مثل هذه الحاجات المطلوبة حاجات جيدة وصالحة: مثل ايقاف الحرب وهطول المطر، وغير ذلك. ففي العالم الآخر لا يوجد من يسمع مثل هذا الطلب، وبالتالي لا يوجد من يريد او يستطيع ان يلبي مثل هذا الطلب للأشياء المادية الموضوعية: اطلبوا اولا ملكوت الله وبره والباقي يعطى لكم ويزاد ( من انجيل متى ).
الطلب المقبول: اما الطلب المقبول فهو الطلب الذي يكون من شأنه ان يخدم ذات الانسان الداخلية .Subjectiveفصحيح ان مثل هذا الطلب يبقى محصورا بين الجدران الداخلية للإنسان الفرد، ولكن هذا لا يعني انه لا يحمل صفة الطلب. فما يحصل في هذه الحالة بالحقيقة هو شيء شبيه بما يسمى الايحاء الذاتي، حيث يكون المتكلم والمستمع شخصا واحدا: وحيث ما هو مهم هو ان يحصل الانسان على احتياجاته، وليس الطريق الذي فيه جاءت هذه الاحتياجات، علما بأن الاحتياجات الأساسية معطاة للأحياء كلها، كل حي بقدر حاجته، وذلك من خلال الجينات الوراثية التي تعطي لكل فرد من الأحياء. وبما ان الانسان احد هذه الأحياء، فهو ايضا يحصل من خلال الجينات الأنثروبولوجية الانسانية، كل ما يحتاج اليه جوهريا Substantiellement لكي يكون كل ما تبقى من عمل البيئة الطبيعية والاجتماعية، وأيضا من الاجتهاد الشخصي لكل انسان، وكذلك من اجتهاد المجتمعات، سواء كانت مجتمعات ديمقراطية ام لم تكن. غير انه لا يضيرنا شيء، اذا طلبنا من الله او من الباري حاجاتنا، وشكرنا الباري على عطاياه الثمينة، حتى لو عرفنا ان عمل الباري عمل غير مباشر. اما في هذه الحالة فالكلام يصدر عن المشاعر لينتهي الى قبول المشاعر، والتحرك بتوجيه المشاعر، من اجل اصلاح حياة الانسان الداخلية، التي هي اساس لكل عمل صالح، يفيد الطالب نفسه، ويفيد الآخرين، في حين تبقى اللغة هنا اداة تعبيرعن المشاعر الذاتية فقط.
الكون كيان حي: Un être animéنعم الكون، ومنه عالمنا الأرضي، كيان حي، تحول الى كيان ناطق بعد ان اتى الانسان الى عالمنا الأرضي، لكي يصير الممثل عن كوننا الصامت، ويقلبه من كون صامت الى كون ناطق، على اكثر من صعيد. اما هذا التأكيد فيقول لنا، بأن لا نفتش عن الفاعل الخارجي، لأن الفاعل المنظور هو العلة الثانية نفسها، هذه العلة التي تكتفي بالقوانين الموجودة في داخلها، والتي هي في حركة دءوب، لكي تؤدي عملها وفق القوانين التي هي مزودة بها، حتى نكاد نقتنع من ان اية حركة في العالم، تكاد تكون حركة مستقلة عن اي فاعل مباشر، كما نستطيع ان نسميها حركة ذاتية تأتيها من ذات الفرد الداخلية Subjectif. اما هذا الفرد فتأتيه الحركة ايضا من القوانين الموجودة فيه، والتي استمدها من العلة الثانية، بعد ان اضاف اليها ما يأتي كل فرد من المجتمع الذي ينتمي اليه، مما يثبت ان الفاعل موجود، وان كان غير مباشر وغير منظور، وان الفرد يعمل بحسب اجتهاده الخاص. اما الباري فيعود اليه كل شيء، ولكن بشكل غير مباشر. لأن الباري سبق إن وضع كل القوانين في العلة الثانية.
انتهى المقال ...
1316 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع