لطيف عبد سالم
مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي( الحلقة الثامنة عشرة )
لا أظنني أبـالـغ أو أخاصم الحقـيـقـة إذا مَا قلت أنَّ موهبةَ نظم القصيد الَّتِي بدأها السَماوي يحيى فِي سنيِه المبكرة، قد بانت بواكير محاولات إنضاجها بشكلٍ فاعل فِي أعوامِ مرحلة الدراسة الجامعية، وَالَّتِي تُعَدُّ أعوامها - بحسبِه - الأميز له بحياته الَّتِي طغى عَلَيها الإبداع وَالتجديد وَالاطلاع عَلَى مَا تباين مِنْ فروعِ المعرفة، الأمر الَّذِي ساعده عَلَى امتلاكِ ناصية القدرة المبكرة في فهمِ مشكلات مجتمعه وَمَا يجري حوله مِنْ أحداثٍ ووقائع، وَلا أظنني أبالغ أيضاً إنْ قلت أنَّ أيامَه تلك كانت حافلة بالعملِ الدؤوب والمثابرة عَلَى حضورِ مَا متاح مِن الأنْشِطَةِ الثقافيَّة وَالاجْتِماعِيَّة، بالإضافةِ إلَى كُلِّ مَا مِنْ شأنِه المُسَاهَمَة فِي تعزيزِ توجهه الفكري، وَالَّذِي أفضى إلى بلورةِ صورةٍ كاملة عَنْ وَعيٍّ سياسي قائم عَلَى إدراكِ عضوية العلاقة مَا بَيْنَ تحرر بلاده مِنْ هيمنةِ المستعمر وَخلاص شعبه مِنْ هيمنةِ الطبقات البرجوازية والأرستقراطية السائدة، فليالي العراق - مثلما جاء فِي مضمونِ الموروثِ الأدبي العربي - كانت مِن الزمانِ حُبالى .. مُثقلات يلدن كل عجيب، فلا عَجَبَ فِي مَا تخطه أنامل السَماوي مِنْ بوحٍ يتدفق مِنه نزف وجدان يفيض عوالمَ مِن الحبِ وَالألم والولاء المطلق للوطن الحبيب كما يفيض ماء البئر مِنْ دُون أنْ يجف معينه أو ينقص حجمه، ولعلّ مِن المناسبِ أنْ نتلمسَ مَا أثقل كاهله مِنْ همٍ بفعلِ مَا يتعرض له شعبه مِنْ حزنٍ وَخوف وَحاجة وَشتات باستعراضِ قصيدته الموسومة " أرحلوا عَن وطني " الَّتِي أطل بها بعد عقود مِنْ أيامِ مرحلة دراسته الجامعية وهو يعيش فِي أبعدِ منافٍ استوطنها أبناء جلدته، وَالَّتِي تُعَدُّ بشهادةِ النقاد واحدةً مِنْ أجملِ روائعِ الأدب المقاوم:
هذه الأرضُ التي نعشقُ
لا تُنْبِتُ وردَ الياسمينْ
للغزاةِ الطامعينْ
والفراتُ الفَحْلُ
لا ينجبُ زيتوناً وتينْ
في ظلالِ المارقينْ
فارحلوا عن وطني المذبوحِ شعباً
وبساتينَ. . .
وأنهاراً وطينْ
واتركونا بسلامٍ آمنينْ
نحن لا نَسْتَبدلُ الخنزيرَ بالذئبِ
ولا الطاعونَ بالسُلِّ
وموتاً بالجُذامْ
فارحلوا عن وطني. . .
هذه الخوذةُ
لا يمكن أنْ تصبحَ عشاً للحَمامْ
فارحلوا عن وطني. .
والدمُ المسفوحُ لن يصبحَ أزهارَ خَزامْ
فارحلوا عن وطني. . .
والبساتينُ التي غادرها النبعُ
وما مرَّ عليها منذ جيلين الغمامْ
تصرخ الآن : ارحلوا عن وطني
وارفعوا- قبل العقوباتِ- أياديكمْ
عن الشعبِ المضامْ
حَرّرونا منكم الآنَ. .
ومن زيف الشعاراتِ. . .
وتجارِ حروبِ - النفطِ والشفطِ -
وأصحابِ الحوانيتِ
أدِلاّءِ جيوشِ الإحتلالْ
فارحلوا عن وطني. .
واشربوا نخبَ انتصارِ القائدِ الَسَجَّانِ
في الحربِ على الشعبِ السَجينْ
نحن مهزومون حتى قبل أن تبتدئ الحربُ
حقولٌ تشحذُ القمحَ
وطينْ
سال منه الدمُ من بوابة القصرِ
إلى النهر الحزينْ
فارحلوا عن وطني
وامنحونا فرصةَ الدفنِ لموتانا
وأنْ نَخْرِجَ من تحت الركامْ
جُثَثاً ما بلغتْ عُمْرَ الفِطامْ
فارحلوا عن وطني
من قبل أنْ يَنْتَفِضَ النخلُ العراقيُّ
ويستلَّ سيوفَ الإنتقامْ
يمكن الجزم بأَنَّ " فسحة الحرية " غير القليلة الَّتِي منحتها له فرصة مواصلة دراسته الثانوية فِي مدينةِ الديوانية، لا يمكن أنْ ترقى بمعطياتِها وَمُناخاتها إلى سعةِ عوالمها الَّتِي عاشها السَماوي بداية متنقلا مَا بَيْنَ بيتي خالته وشقيقته فِي حي البياع عَلَى خلفيةِ قدومه إلى بَغْدَاد العاصمة مِنْ أجلِ إكمال دراسته الجامعية الَّتِي طالما حلم بتحقيقها؛ إذ أنَّه متيقن مِنْ قدرته عَلَى النَّجاحِ والوصول إلى غايته، مَا دام هناك قلبٌ ينبض فِي صدره، إلا أَنَّ " الحرية الواسعة " - بالاستنادِ إلى مَا نقله لي السماوي ذات صباح بغدادي - تحققت أولى مراحلها بعد انتقاله مِن منازلِ أرحامه فِي حي البياع ليقيم مَعَ بضعةٍ مْنْ زملائه وَرفاقه فِي شقةٍ ضيقة بمنطقةِ " الحيدرخانة " قبل أنْ يتنفس نسائم الحرية بمعناها الواسع فِي أعقابِ انتقاله وَصحبه إلى بيتٍ جميل لَهُ حديقة واسعة فِي حي " الوزيرية ".
إلى جانبِ ما تتطلب دراسته الجامعية مِنْ جهدٍ ووقت، كان السماوي بفضل مَا يمليه عَلَيه انتماؤه السياسي، حريصاً عَلَى المشاركةِ الفاعلة فِي المحافلِ والمناسبات الوطنية مِنْ أجلِ المساهمة فِي تعزيزِ مسار حركة اليسار المحلي، وَالَّذِي مِنْ شأنِه شحذ الهمم، فِي مواجهةِ سياط الجلادين وَأعواد المشانق وَكثير غيرها مِنْ صورِ المحنة الوطنية الَّتِي كان العراق يعيشها، بالإضافةِ إلى مَا تتطلب مِنْ موجباتٍ لتدعيمِ حضور حركة اليسار بشكلٍ يرتقي إلى مستوى المواجهة بعد أنْ أصبحت البلاد تسير صوب المزيد مِنْ استبدادِ السلطة، فلابد مِن العملِ الدؤوب وَتكثيف مختلف الفعاليات الثقافية والاجتماعية؛ لأجلِ رصِ الصفوف وتعزيز الوعي حول خطورةِ مَا كانت تشهده البلاد فِي تلك المرحلة مِنْ عبثٍ سياسي أفضى إلى تردي أوضاعها العامة وَتنامي أزماتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وَالَّتِي لا ينبغي أبداً أنْ يتمَ تجاوز مآسيها وَويلاتها بالركونِ إلى الصمتِ وَالخنوع؛ إذ " لا يولد أطفال مِنْ تزويجِ الدمى " مثلما يقول شاعر داغستان الكبير رسول حمزاتوف. وَأَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أَنَّ الشعوبَ لا تموت أبداً، حيث أَنَّ " القبرَ الحقيقي ليس فِي الأرض بل فِي القلوب " كما يرى الشاعر الشيلي بابلو نيرودا ( 1904 - 1973)، الحائز عَلَى جائزةِ نوبل فِي الأدبِ عام 1971م، وَالَّذِي كتب عَنه الناقد الأدبي هارولد بلووم : " لا يمكن مقارنة أي من شعراء الغرب بهذا الشاعر الذي سبق عصره ". وَضمن هَذَا الإطار يقول الناقد الأستاذ ثامر الحاج أمين : " إنَّ اسمَ السَماويَ برز فِي الوسط الثقافي عام 1969م، بعد أن نقل مِن السماوةِ إلى الديوانيةِ لنشاطه اليساري في اتحاد الطلبة العام، وانه كان مثار قلق للأجهزة الامنية آنذاك ". وبالاتجاه ذاته يروي القاص سلام ابراهيم بعض ذكرياته عَنْ أيام الدراسة الجامعية الَّتِي يصف فِيها السَماوي يحيى مِنْ خلالِ معايشته لَه فِي بغداد بقولِه : " إنَّ السَماويَ كان عاطفياً متحمساً ثورياً يشبه شعره المتطرف في غزله، لكن هنا ثوريً يكاد يتفجر حماسةً، ثم لا يلبث أنْ تسيلَ العواطف فيبكي لغزلٍ ولفكرة عن الثورة، أو لحديث عن أوضاع الفقراء ".
فمي قلمٌ
لا يُجيدُ الكتابةَ إلاّ
في دفترِ شفتيكِ
***
جسدكِ كتابٌ أتصفّحهُ بالشمِّ
وأتهجّاه بالقبلات ..
يا لبلاغته
حتى الفارزةُ فيه :
جملةٌ مفيدةٌ تامّةُ اللذة !
*****
عَلَى الرغمِ مِنْ القسوةِ الهائلة وَالتفنن فِي أساليبِ القمع الَّتِي كان يعتمدها النظام الدكتاتوري بالتعاملِ مَعَ الشعب فِي ظلِ تجاهل المجتمع الدولي للمروعِ مِنْ أساليبِ بطشه وَاضطهاده، ساهم السَماوي في مرحلةِ دراسته الجامعية مَعَ بعض زملائه فِي تأسيسِ اتحاد الطلبة بقسمِ اللغة العربية فِي كليةِ الآداب؛ نتيجة مَا كان يحمله مِنْ توقّدٍ وَمغامرة، وَتأكيداً لِمَا آمنَ بِه مِنْ مثلٍ سياسية وَقيم إنسانية، وَ يُضافُ إلى ذلك أنَّ السَماويَ يحيى بن عباس عمل أيام تلك المرحلة فِي صحيفةِ " طريق الشعب " مجاناً، مستعذباً ضجيج مكائن مطبعة الرواد وَعطر حبرها؛ لذَا ليس بالأمرِ المفاجئ أنْ يُضَمنَ الأستاذ معن غالب سباح حديثه عَنْ انجازاتِ السماوي الشعرية فِي وطنه وَمغتربه عند إدارته لجلسةِ احتفاء بالشاعرِ المترجم له، أقامها فِي مدينةِ الديوانية اتحاد الأدباء وَالكتاب فِي الديوانية، بالتعاوِن مَعَ قصرِ الثقافة والفنون فِي المحافظة، وَالَّتِي يقول فِيها مَا نصه : " بقي السماوي لصيقا بوطنه، واستطاع بأحاسيسه نقل المعاناة بنمط شعري دقيق ".
لست سكرانا ...
فلماذا نظرتم اليّ بازدراء ...
حين سقطت على الرصيف ؟
من منكم لا ينزلق متدحرجا ...
حين تتعثر قدماه بورقة ...
او بقطرة ماء ...
اذا كان يحمل الوطن على ظهره ..
و على رأسه تابوت أمه
***
فِي هذه المرحلة مِنْ دراستِه، أصبح للفتى المشاكس القادمِ مِن السماوة إلى بَغْدَاد صديقات مِنْ أقسامِ الكلية الَّتِي انتظم للدراسةِ فِيها - كليةِ الآداب - وَأخريات مِنْ كلياتٍ أخرى. كذلك أقام علاقات صداقة متينة مَعَ زملاء دراسةٍ عَلَى درجةٍ عالية مِن الروعة. يُضافُ إلى ذلك مكانته الأدبية العالية الَّتِي حظي بها مَا بَيْنَ زملاء الدراسة فِي كليتِه وَالكليات الأخرى بفضلِ مَا تركته " روائعه الشعرية " مِنْ صدى رائع، أهله لحصدِ جوائز المسابقات الشعرية. وأدهى مِنْ ذلك أنَّ شيخَ النقاد الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر كتب عنه مبشراً بولادةِ شاعرٍ واعد.
أنتِ لستِ خمراً
فلماذا حين أكتبُ عنكِ
تسكرُ الورقةُ
فتغدو السطورُ أنهاراً
والكلماتُ زوارق !
***
إذا كان بعض مجايلي السَماوي فِي أيامِ الدراسة الجامعية يشير إلى حراكِه يوم ذاك بوصفِه كالحجر الَّذِي يلقى فيحرك الماء الراكــــد، فإنَّ مَا يثير الدهشة هو أنَّ شاعراً ثرياً بالفضاءاتِ وَغنياً بالعوالمِ وَجمال الصور الشعرية وَعذوبة الكلمات - بحسبِ انطباعات الكثير مِن النقادِ عَنْ أسلوبِه فِي نظمِ القصيد - يلوذ عَلَى الدوامِ برداءِ التواضع المبهر؛ إذ أجاب السَماوي يحيى بعد سنوات مِنْ نضجِه حول سؤال عَنْ شاعريتِه بقولِه : " إنني أقول الحقيقة صادقاً وَليس تواضعا .. إنني لست أديباً كبيرا .. فأنا لست أكثر مِنْ كلمةٍ مبهمة أحاول جهدي أنْ أكونَ جملة ذات معنى فِي كتابِ المحبة الكونية أو جملة مفيدة فِي كتابِ الشعر العربي وَالإنساني ... بل مجرّد حرف يُحاول أن يكون كلمة ذات معنى .. فمَعَ أنني كتبت الشعر منذ أكثر مِنْ أربعين عاماً، إلآ أنني مَا زلت طفلاً يحبو فِي دربِه الطويل وَالصعب .. ".
" الـقُـبـلـةُ " بَـوصَـلـةُ شـفـتـيَّ
لـتـحـديـدِ اتّـجـاهِ " الـقِـبـلـة "
فـي صـلاة الـعـنـاق !
مَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ درساً بليغاً للمارين فِي دروبِ الثقافة، ضربه السَماوي يحيى ببالغِ أثر عباراتِه المذكورة آنفاً، وَالَّتِي بالإضافةِ إلى مَا تكتنفه حيثياتها مِنْ محاولةِ تحفيز الأجيال الجديدة عَلَى القراءة، وَالدور المطلوب مِن القياداتِ الإدارية وَالمؤسسات لإغناءِ الأدباء بِمَا تباين مِنْ ضروبِ المعرفة، فالقيمة الأهم فِي هَذِه الصفة النبيلة هو أنَّ فحواها تُعَدّ مثلاً فِي طهارةِ النفوس وَنقاوة القلوب، إلى جانبِ مَا تعكسه مِنْ ميزةٍ تتمثل فِي تحلي الكبار بمكارمِ الأخلاق، وَالَّتِي مِنْ بَيْنَها التمسك بصفةِ " التواضع " فِي زمانٍ يشهد الكثير مِن التجاوزاتِ عَلَى هيبةِ الثقافة وَالسعي لتشويه إبداع رموزها؛ نتيجة نشاط مجموعات الطارئين عَلَى المشهدِ الثقافي الَّذين يشار إليهم محلياً باسْمِ " الزواحف "، فالسَماوي يحيى بن عباس الَّذِي قال عَنه صديقه - منذ أيام دراسته فِي الديوانية - الأديب عبد الرحيم صالح : " عرفته حيويا نابضا بالشعر والثقافة, يلتهم المفردة وان كانت عسيرة على البعض "، يُعَدّ أول شاعر عراقي يصدرُ ديواناً كاملاً ضد الإحتلال الأمريكي هو ديوانه الحائز عَلَى جائزةِ البابطين لأفضلِ ديوان شعر الموسوم " نقوش على جذع نخلة "، وَالَّذِي تميز - أعني السَماوي - باستيقاظِه منذ بواكير طفولته عَلَى وجودِ الكتاب فِي منزلِه، فِمَا كان مِنه إلا حث الخطى قصد النهل مِن المعارفِ والعلوم، ثم مَا لبث أنْ توجه فِي مراحلٍ لاحقة صوب العميق وَالباطن وَالمكتنز مِنْ عوالمِها، وَمَعَ ذلك لَمْ يثنه نضجه الَّذِي مكنه مِن الانتساب للأدبِ وَاستعمال أدواته، وَلا تقادمه فِي العمرِ عَنْ المثابرةِ عَلَى اكتسابِ المستحدث مِن المعارفِ وَالعلوم، فِمَا زار مدينة إلا وعاد منها محملاً بأرغفةِ خبز المعرفة بوصفِها متاعه وَبضاعته الَّتِي لا غنى لَه عَنها. وَيَبْدُو لي أنَّ هناك انسجاماً فِي النهجِ مَا بَيْنَ أسلوب السَماوي فِي هضمِ موجبات نظم الشعر قصد بلوغ المنجز الإبداعي وَبَيْنَ مضمون مقولة الرسام العالمي " بابلو بيكاسو " مؤسس المدرسة التكعيبية وَأعظم الفنانين فِي القرن العشرين وَأكثرهم تأثيراَ الَّتِي يقول فِيها : " اتقن القواعد كمحترف, حتى تتمكن من كسرها كفنان ".
يُضافُ إلى ذلك مَا شهد به النقاد والمتخصصون والباحثون مِنْ أَنَّ السَماويَ دخل الأدب مِنْ أوسعِ أبوابه بعد أنْ نهل عَلَى مدى عقود مِنْ الزمانِ مِمَا تباين مِنْ مشاربِه، فكان أنْ تفاعلَ مَعَ وجدانِ المتلقي، وَأثار إعجاب كبار النقاد العراقيين وَالعرب، وَوصلت أصداء نزف قلمه إلى أبعدِ أصقاع الأرض بعد ترجمة منتخباتٍ من قصائده إلى لغاتٍ أجنبية عدة، فضلاً عَنْ محبةِ الكثير مِن الناس الَّتِي حظي بِهَا، وَلاسيَّما متذوقي الأدب العربي الأصيل؛ لذلك مَا أظنني مبالغاً إنْ قلتُ أَنَّ السَماوي وَهبَ الأجيالَ الشعرية درساً عملياً فِي حُسنِ التعامل الَّذِي تقوم فلسفته عَلَى أنَّ بريقَ الشُّهرة لا يرقى إلى مستوى كسْبِ محبة الناس، فثَمَّةَ كنــز أخلاقي وَإنساني يمتلكه السَماوي قد يَبْدُو بلوغه غاية فِي الصعوبةِ بالنسبةِ لكثيرٍ غيــره، وَبالإمكانِ التعرف عَلَى فحواه مِنْ خلالِ التمعن بقولِه : " أظنني سأغفو إغفاءتي الأخيرة وَأنا مجرد كلمة ... لستُ أفضل شاعرية من غيري ... الشعراء كلهم يُكمِل بعضهم الآخر .."، وتحضرني هُنَا إشارة للشاعرِ الراحل رحيم الغالبي " طيب الله ثراه " يصف فِيها يحيى السَماوي أديباً وَإنساناً بقوله : " شاعرٌ عراقيٌ مبدع، يكتب بالصدق كله، مبدئي ملتزم بقضايا الإنسانية بوجه حقيقي، وله تاريخ مشرق ومشرف ".
مِنْ هُنَا فإننَا لا نبعد عَنْ الحقيقةِ إذا مَا قلنا إنَّ رؤيةَ السماوي تتوافق تماماً مَعَ المثلِ العربي الَّذِي مضمونه : " كلما ارتفع الشريف تواضع، وَكلما ارتفع الوضيع تكبر "، فكم نَحنُ بحاجةٍ فِي عالمِ اليوم إلى حضورِ الأخلاق وَتفاعلها مَعَ عطاء مَا تباين مِنْ أجناسِ الأدب؛ لأجلِ تدعيم مقومات غذاء المحبة الإنسانية، فالشعر بالنسبةِ للسَماوي يحيى " منديل .. ودواء .. وعصا .." وليس محاولة للتباهي أو الاسترزاق كما ركن إليهما بعض الشعراء؛ إذ يشير أبو الشيماء إلى هَذَا المعنى بشكلٍ دقيق حين يقول: " بِهَذَا المنديل أمسح دموع قلبي ... وَبِهَذَا الدواء أقاوم الموت إكراماً للمحبةِ والحياة .. وَبِهَذِه العصا أنشّ عني ذئاب الوحشة فِي براري الغربة ".
أمنح صوتي
للذي يُعانقُ الرّبابةْ
وللذي يفتح لي كتابهْ
أكتب : يا أهل الهوى
قلبي لكم حديقةٌ
ومقلتي سحابةْ
***
أَمْرٌ مُسَلَّمٌ بِهِ أنَّ مَنْ حبَاه الله تبارك وَتعالى موهبة نظم القصيد، يحاول جاهداً طوال رحلته فِي ميدانِ الأدب استشراف مَا يتطلب مِنْ مرتكزاتِ إثبات وجوده عَلَى الساحةِ الشعرية الَّتِي لا حدود لمساحتِها، وَهو الأمر الَّذِي يلزمه الاستزادة مِن المعارفِ وَالعلوم وَالانتباه إلى مَا يسجله النقاد مِن إشاراتٍ حول أسلوبه قصد تنمية تجربته وضمان تحقيقه لمنجزِه الشعري، فاللغة الشعرية تفرض عَلَى الشاعرِ التطلع إلى أنْ يكون أديباً واعياً وَملتزماً بالقراءةِ الأدبية؛ لأَنَّ البناء الشعري يتمحور حول الكثير مِن المفرداتِ الإنسانية مثل الإحساس، المشاعر وَالجمال بوصفِه رهين الإلهام والإبداع. ولعلَّ مَا دونه الباحثون، وَمَا سجله النقاد، وَمَا تناوله الدارسون بدراساتٍ تحليلية معمقة وَمفصلة بخصوصِ آفاق التجربة الشعرية للشاعرِ يحيى السماوي وَمدلولاتها، تؤكد علو كعبه فِي الساحةِ الأدبية، وتثبت أَنَّه شاعرٌ وَأديبٌ وَكاتبٌ مِنْ نوعٍ خاص، بالإضافةِ إلى أَنَّ شعرَه يحتل مكانة مرموقة فِي المشهدِ الشعري العربي. ولعلّ مِن المناسبِ أنْ نشيرَ إلى أنَّ السماويَ يحيى يجسد التأمل الفكري فِي إنجاز نصوصه، وَلاسيَّما مَا ينحى مِنها صوب كشف المفارقات الخفية فِي رؤيةِ العالم مِنْ خلالِ طرح الأسئلة؛ إذ أنَّ الأسئلةَ بحسبِه هي الَّتِي تجعلنا نبحث عَنْ الحلول، وَكما يقول المؤلف المسرحي وَأحد أبرز مسرحيي مسرح اللامعقول " أوجين يونسكو " إنَّ " الأجوبة لا تكشف الظلام، وإنما الأسئلة ". كذلك تحضرني هُنَا مقولة لا أتذكر اسم قائلها، وَالَّتِي نصها : " التقدم كان اجوبة عَلَى الأسئلة، والاكتشافات كانت أسئلة عَلَى الأجوبة ". وَمِنْ المعلومِ أنَّ ثمارَ مَا اعتادت بلدان العالم عَلَى إنفاقه مِنْ ضخامةِ أموالٍ لإدامةِ فعاليات مراكز البحث العلمي، تتمثل فِي اكتشافاتٍ وَابتكارات وَحلول لبعضِ ما تعانيه المجتمعات مِنْ مشكلات، بَيْدَ أنَّ تلك المخرجات الإيجابية لا تعني أنَّ الإنسانَ يملك الإجابة عَلَى كُلِّ سؤال؛ إذ قد يظهر عاجزاً عَنْ الإجابةِ عَلَى أبسطِ الأسئلة فِي حياته، وَهنا تكمن قيمة البحث عَنْ الإجابةِ عَلَى السؤال.
يابنتَ سبعين التي عكّازها
صدري .. وأحداقي لها فانوسُ
نخرَ الأسى قلبي .. فما لعراقنا
في كلّ يومٍ " داحسٌ " و" بسوسُ " ؟
" تمّوزهُ " عارٌ على أعوامنا
ويفوح من " نيسانه " التدليسُ
آهٍ على زمنٍ تعثّرَ فجرُهُ
فاسْتعبدتْ أرضَ الأسودِ تيوسُ
فإذا ابنُ طاهرةِ الثيابِ مشرَّدٌ
وإذا ابنُ صـائدة الرجالِ رئيسُ
***
مِنْ المؤكّـدِ أنَّ حدودَ القراءة فِي حلقة واحدة، لا تسع الوقوف عَلَى أغلبِ مَا كتب عَنْ شاعريةِ يحيى السَماوي، إلا أني سأشير هُنَا - مِنْ بَيْنَ عشراتِ الشهادات - إلى آراءِ أثنين مِن الشعراءِ حول إحدى قصائده - مناصفة مَا بَيْنَ الجنسين قصد تحقيق العدالة أو رُبَّما لأجلِ الخروجِ مِنْ هيمنةِ المجتمع الذكوري - أولهما رائد المقامة الحديثة الشاعر العراقي زاحم جهاد مطر الَّذِي يقول : " يحيى السماوي شاعرنا السامق من يدخل روضه الشعري لا بد أن يصاب بالانبهار؛ انه عالم من الدهشة بجمال اختياراته غير المطروقة وبقابليته الفريدة على تطعيم الحروف والكلمات وانتاج صور واشكال جديدة اكثر بهاء وبهجة كما ينتج البستاني المحترف العارف انواعا غير مألوفة من الزهور والورود والفواكه ". وَالآخر للشاعرةِ وَالروائية الفلسطينية هيام مصطفى قبلان الَّتِي تصف أسلوبه فِي نظمِ القصيد بالقولِ : " يحيى السماوي الشاعر القدير المحلّق بين حلم وأرض، تحايا لهذه الزمهريرة الحبلى برائحة امرأة وبحجّ ناسك متبتّل، يهوى الجمال والنار مستعرة، وها هي القصيدة تولد من رحم المأساة، من - رحم الحلم - الخالي من الخطايا "
القادمون :
وراء المحيطات ...
الغابات البحرية الاشجار
مدن الثلج و النحاس
المباغي الايدلوجية
افرغوا حنجرتي من الصوت
و عيني من الدموع
و شفتي من الابتسامات
و مئذنتي من التراتيل
و صباحاتي من الالق
و مساءاتي من النجوم
و الشارع من البهجة
استبدلوا:
بكوفيتي خوذة
بحصاني دبابة
بالقران مجلة ستربتيز
و دما بمياه الينبوع
اطلقوا سراحي من قبضة الخرتيت
و اعتقلوا الوطن
ثم اعطوني قلما و دفترا لاكتب عن الحرية ...
فهل ثمة مَن يلومني
اذا صرخت ملء حنجرتي : اعيدوني الى زنزانتي
واطلقوا سراح وطني ؟
***
عَنْ علاقتِه بأساتذتِه فِي مرحلةِ الدراسة الجامعية، يؤكد السَماوي - المتوحدِ بطقوسِ الشعر سلاماً وَعشقاً وَهياماً بحسبِ الشاعرة خلود المطلبي - تميزها بطبيعةِ الأجواء الحميمة الَّتِي عاشها معهم، إلى جانبِ حسن تعاملهم معه، وَعدم اعتراض طريقه فِي المشاركةِ بِمَا كان يقام مَنْ محافلٍ أدبية وَندوات ثقافية، وَفِي مقدمتهم أستاذه - شيخ النقاد العرب - الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر " طيب الله ثراه "، وَالَّذِي كتب عنه مقالاً رائعاً فِي كتابِه الموسوم " وراء الأفق الأدبي " حين كان طالباً فِي الصفِ الأول بكليةِ الآداب، وَهو العام الَّذِي شهد صدور ديوان شعره الثاني الموسوم " قصائد فِي زمن السبي والبكاء " وَالَّذِي كتب مقدمته أيضاً الشاعر الراحل محمد علي الخفاجي" طيب الله ثراه "؛ إذ كان لتشجيعِهم بحسبِه الأثر الكبير فِي نماءِ فسيلته الشعرية، بخلافِ اعتقاد - مَنْ سأله ذات مرة حول طبيعة العلاقة معهم - أنَّ همَهم يتحدد فِي المحافظةِ عَلَى مكانتِهم، فعَلَى سبيل المثال لا الحصر يستذكر السماوي أحد أستاذته بالقول : " رحم الله شيخي وَأستاذي الدكتور عبد الجبار المطلبي .. ما قرأت تعليقا أو قصيدة للأخت الشاعرة خلود المطلبي إلآ ودعوت بالرحمةِ لذلك الأستاذ الجليل الَّذِي كانت الابتسامة ملمحاً مِن ملامح وَجهِه السمح ". وَمِنْ بَيْنَ طريف الحكايا الَّتِي رواها السَماوي ذات مرة وَهو يحاول الغوص فِي وقائعِ تلك الأيام الجميلة مِنْ أجلِ استرجاع بعض مَا علق مِنها فِي ذاكرةٍ خطّها قلم الزمان : أنَّ الدكتورَ عبد الجبار المطلبي " طيب الله ثراه " كان يدرسهم مادة الكتاب القديم، وحدث أنْ كانوا فِي امتحانٍ شهري، فإذا بأستاذِه المطلبي - لسوءِ حظه وَحظ طالبة تجلس بجواره - يقف قربه وَيلقي نظرة عَلِى أجوبتِه مَا بَيْنَ حين وآخر، فَمَا كَان مِن السَماوي إلا ممازحته بقولِه : " أستاذ: مَنْ راقبَ الناس مات همّاً .... فكان جوابه : إلآ فِي الإمتحان ..". وَيرى السماويَ أنَّ الأستاذَ الجامعي ملزم بدعمِ طلبته النابهين، لا اعتراض طريقهم؛ بحكمِ أخلاقيات مهنته وَضوابطها الإنسانية؛ إذ أنَّ إعاقةَ الأستاذ طريق طالبه النابه يعبر عَنْ كونِه غير سويّ أخلاقياً وَإنسانياً وَأكاديمياً. وَمِنْ المعلومِ أنَّ التحليَ بمبادئ أخلاقيات المهنة وَقيمها الَّتِي ينميها أو يكتسبها الإنسان ويمارسها أثناء أدائه لعمله، تقوم ضوابطها الناظمة عَلَى مجموعةِ القواعد وَالآداب السلوكية وَالأخلاقية الَّتِي يجب أنْ تصاحبَ الإنسان المحترف فِي مهنتِه تجاه عمله.
جاءني
في يوم ِعيدِ الوردِ "صوفائِيلُ"..
مبعوثاً
من القانتةِ الزهراءِ ..
حَيّاني ..
وألقى للعصافيرِ على النّخلةِ
قمحاً ..
جاءَ طيرٌ يُشبهُ الهُدهُدَ ..
حَيّاه ..
فقالا كلماتٍ ..
ومضى الطائرُ حتى غابَ
في حضنِ الفضاءْ ..
****
ثَمَّةَ لقاء قبل تسعة أعوام جمع السَماوي فِي مدينةِ كربلاء بعددٍ مِنْ أصدقائه، وَالَّذِي ألزمه النزول عند رغبتهم فِي جعلِ فضاء ذلك المكان رئة للشعر. وقد كان مِنْ بَيْنَ الحضور القاص وَالشاعر وَالصحفي صباح محسن جاسم، وَالَّذِي كتب عَنْ مجرياتِ ذلك الكرنفال الأخوي موضوعاً نقتطف مِنْ بَيْنَ سطوره بعض المقاطع الَّتِي مِنْ جملتها قوله : " يواصل يحيى السماوي ما اكتنزت به ذاكرته الثاقبة من نصوص فيتلمس خبيء جيبه متناولا أجمل ما قاله من قصيد تفاعل معه الأصدقاء والمكان "، ثم يضيف قائلاً : " بدأ السماوي يناجى وطنه العراق وحنينه بالعودة. ما أجمل ذلك التوصيف الذي يتميز به الشاعر الإنسان وهو يؤاخي ما بين شموخ النخيل وباسقات المآذن مواشجا ما بين بلال الذي تماهى بهديل الحمام والأذان الذي تماهى بتوسل الشاعر للدعوة بتحرر حقيقي صوب سعادة ثابتة. وهو يزاوج ما بين الأمل والطفل الذي يكبر فيما يعد النجوم فيقع صريع إغفاءة بذات الحلم ". وينتقل جاسم المولود فِي مدينةِ الديوانية إلى وصف شاعرية السَماوي بالقول : " شعر يحيى لما يزل معافى رغم كل نوبات الدهر .. فما عاود طبيبا .. الشعر الذي ينبض في روح يحيى قد أمده بكل هذا الصمود ! فزوادته التمر والخبز والماء ولباسه الخشن من الملابس.. الا يذكرنا هذا بحياة صحابة الرسول عليهم أفضل السلام ؟ ".
فمي طفل ...
دميتُهُ شفتاك !
****
لكثرةِ تحديقي بقميصكِ الأخضر :
نَبَتَ العشبُ في عينيَّ !
****
حين قبّلتُ عينيك
جاءتني الفراشات تستجدي مني
بقايا الكحل العالق بشفتي !
****
أنا وطنٌ
أنتِ عاصمته !
****
أيتها البعيدة بُعد الشيطان عن عيني ...
القريبةُ قُربَ الله من قلبي :
حياتي قصيدة من بيتٍ واحد
أنتِ مطلعها !
****
ما حاجتي للبساتين
وعندي بتلتك ؟
****
سأقشِّرُك مثل برتقالة
لأحصي مسامات جسدك بالقبلات !
****
لا تخافي من جوعي
فأنا سأقضمكِ بهدوء ...
جنوني لا أنيابَ له
****
1213 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع