د.محمد عياش الكبيسي
تتردد في أوساط العمل السياسي الإسلامي عبارات فيها قدر من الاعتذار السياسي المشوب بقدر من التبرير الديني مثل قولهم: (اجتهدنا فأخطأنا) وربما ترد مثل هذه العبارة على لسان العالم أو المفتي الذي يتسرع في إصدار الفتاوى خاصة تلك التي تتعلق بالشأن العام، والعبارة مع ما فيها من اعتذار إلا أنها تشير إلى نوع من الحصانة، حيث إن المجتهد في الإسلام يستحق الأجر إذا أخطأ ويستحق الأجرين إذا أصاب، لكن الذي يسميه الناس اجتهاداً قد لا يكون كذلك.
بعض الجماعات أو الأحزاب الإسلامية تخلط بين المسائل التشريعية والمسائل التنفيذية، فتسوقها كلها سَوقا واحدا وتحيلها في العادة إلى مجالس الشورى وربما إلى المكاتب السياسية، لتخضع في النهاية إلى آلية التصويت! والتصويت بحد ذاته لا يصح أن يكون وسيلة لاستنباط الأحكام الشرعية، خاصة أن هؤلاء المصوتين في غالبيتهم غير مؤهلين للاجتهاد، ومن لم يكن مؤهلاً للاجتهاد فاجتهد فهو آثم أصاب أو أخطأ، ولا يعفيه من هذا الإثم حسن نيته ولا كونه منتخباً من الجمهور، فإن الفوز بالأصوات لا يقلب الجاهل إلى عالم، والاجتهاد جهد علمي مجرد لا علاقة له بشعبية الشخص ومقبوليته عند الناس.
هناك خلط آخر قد لا يقل خطأ أو خطراً عن الحالة الأولى، وهو أن يمنح حق الاجتهاد لكل علماء الدين على اختلاف تخصصاتهم واستعداداتهم، وعامة الناس قد لا يفرقون بين هذا العالم أو ذاك وربما تؤثر فيهم المظاهر والألقاب، وقد كان السلف يحتاطون لأنفسهم ولدينهم حتى قال سليمان بن مهران الأعمش لأبي يوسف: (نحن المحدثون الصيادلة وأنتم الفقهاء الأطباء) يريد أن يبعد المحدثين ويبعد نفسه أيضاً عن دائرة الاجتهاد والفتوى، وقال أحمد بن حنبل لما انحاز إلى مجلس الشافعي تاركاً مجلس سفيان بن عيّينة مع ما لسفيان من الفضل: (ما فاتني من صاعد سفيان أجده في نازله، وما فاتني من عقل هذا الفتى لا أجده عند غيره).
إن العالِم أدرى بنفسه وبتحصيله العلمي، وعليه أن يكون مؤتمنا على هذا العلم، ولكن مما يؤسف له اليوم أن العالم الذي لم يدرس السياسة وعلومها المتشعبة والمعقدة، ولم يهتم بها ولو على سبيل الرغبة والاطلاع يمنح لنفسه الحق بأن يكون وصياً على السياسة والسياسيين، وأذكر قبل أشهر كنا في زيارة لأحد علمائنا الأجلاء فقال لي بالحرف الواحد: (والله يا شيخ محمد أنا لا أفهم بالسياسة شيئاً)، وكان هذا في معرض قراره بالانسحاب من الإشراف على رسالة علمية في السياسة الشرعية، وقد أكبرت في الشيخ هذا الخلق وهذا التواضع، لكن لا أدري ما الذي يدفعه اليوم إلى أن يتصدر الإفتاء السياسي في أشد القضايا خطورة وتعقيداً، والذي قد يكلف أهل السنة في العراق ثمناً ثقيلاً، كما دفعتهم فتاوى سابقة للانعزال عن مؤسسات الدولة حتى اختل ميزان القوى لصالح طرف واحد، وأصبح أهل السنة الطرف الأضعف رغم تضحياتهم الجهادية الكبيرة في مقارعة المحتل الأجنبي.
هناك خطأ منهجي آخر وهو أن العالم الذي يحق له الاجتهاد قد يبدي رأيه في مسألة ما بحكم انطباعي أولي أو تقليداً لغيره أو تأثراً بالجو العام، بمعنى أنه لم يبذل جهده المطلوب في استنباط الحكم الشرعي من مصادره المعروفة، أو لم يبذل جهده المطلوب في إدراك محور البحث أو نقطة النزاع، ولقد رأيت على قناة الجزيرة عالماً من أشهر علمائنا اليوم، وهو يشيد بالدستور العراقي الحالي، وهذا الخطأ الكارثي إنما نتج عن حكم على شيء قبل تصوره تمام التصور، فالشيخ لم يمنح لنفسه فرصة لدراسة هذا الدستور ومدلولات عباراته المرتبكة والفضفاضة، وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة استعانة المفتي بأهل الاختصاص في المسألة محل البحث، ليس فقط للاستئناس برأيهم بل لتحصيل صورة المسألة وأبعادها وتداعياتها.
إننا هنا لا نناقش صوابية هذه الفتوى أو تلك أو عدمها، وإنما نناقش منهجية الإفتاء، والتي ربما يكون الخطأ فيها أخطر بكثير من الخطأ في الفتاوى نفسها، وإذا كنا اليوم غير قادرين على تصنيف العلماء بحسب مستوياتهم وتخصصاتهم، أو من منهم الذي اجتهد بالفعل ومن منهم الذي تسرع بالفتوى من دون اجتهاد، فإن الواجب على العالم في ظل هذه الفوضى أن يقدم للناس الفتوى مقرونة باجتهاده، فيذكر أولاً تصوره للمسألة، وهذا ما يسمى عند العلماء بتحرير محل النزاع، ثم يذكر الدليل الذي استند إليه، وجوابه عن الأسئلة أو الشبهات المطروحة، وبهذا يكون العلماء وطلاب العلم والمثقفون على دراية بآلية استنباط الفتوى، فإذا ما اختلف المفتون كانت هناك فرصة للمحاورة والمقارنة والأخذ والرد وربما التراجع بتعديل الفتوى أو تغييرها. في الحالة العراقية اليوم هناك لغط حول دور الفتوى السياسية، وهناك شكوى من اختلاف العلماء خاصة في القضايا المصيرية، وبهذا الصدد يمكن أن يرتقي العلماء بالفعل إلى مستوى المسؤولية، وأن يغطوا شيئاً من مساحة الفراغ التي خلفها غياب السنة عن مؤسسات الدولة ومراكز القوى فيها، وذلك من خلال:
أولاً: العمل بأسلوب الاجتهاد الجماعي، والحرص على سماع الرأي المخالف، وإشراك الخبراء المختصين، وإنهاء حالة الاصطفاف التي لا تليق بأهل العلم، حيث إن كل مجموعة متشابهة في طريقة التفكير تلتقي بعيدا عن الآخرين تحت اسم أو عنوان ما، بحيث يستطيع كل متابع أن يتنبأ بالفتوى التي ستصدر قبل أن يجتمعوا، وهذا ليس اجتهاداً جماعياً وإن اتخذ صورته؛ لأنه محكوم سلفاً بهيمنة الشيخ على تلاميذه، أو بسطوة التنظيم على أعضائه.
ثانياً: تقوية اللجان المنظمة للحراك والتعامل معها كجهة تنفيذية تمتلك قدراً من الشرعية في القرارات الإدارية والتنظيمية، ولا بد من إشراكهم في اجتهاداتنا الجماعية، فإن اتفقنا كان هذا أدعى إلى اتفاقهم، وإن اختلفنا كان لهم سعة في أن يختاروا وفق آلياتهم المألوفة في الاختيار أو اتخاذ القرار.
إن الاجتهاد الجماعي ليس معناه اعتماد أسلوب التصويت والترجيح بحسب الأغلبية، بل هو تداول للمعلومات وفحصها وتحليلها ومناقشتها، وهذه مرحلة ضرورية في كل المسائل المصيرية، وبعد هذا نترك لكل مجتهد أن يقول رأيه بكل أمانة وتجرد. أما المؤسسات الحكومية أو المجتمعية والمطلوب منها اتخاذ القرار أو الموقف العملي الموحّد فيمكنها اعتماد آلية التصويت لاختيار واحدة من الفتاوى المعتبرة، وبهذا نكون قد جمعنا بالفعل بين الأمانة العلمية وما تقتضيه من حرية التفكير والتعبير وبين وحدة الموقف العملي والذي يمثل قيمة عملية لا تقل أهمية في الكثير من القضايا عن سابقتها. ربما يشير القرآن الكريم إلى هذا التفريق بين دور أهل الذكر ودور أهل الأمر حيث قال عن أهل الذكر: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" الأنبياء7، بينما قال عن أهل الأمر: "يَا أَيُّهَا الذَّيِنَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ" النساء 59، فالسؤال لأهل الذكر والطاعة لأهل الأمر.
وربما يشكل على البعض أن القول بعدم إلزامية الفتوى قد يؤدي إلى التحلل من الالتزامات الدينية، وهذا وهم؛ لأن المقصود بعدم إلزامية الفتوى ليس الخروج عن جميع الفتاوى المعتبرة، فهذا سيكون خروجاً عن الوحي وليس عن الفتوى، فالنص الذي لا يحتمل إلا معنيين مثلاً لا يجوز الخروج عنهما إلى معنى ثالث، فنحن مخيرون بين الفتوى المستندة إلى المعنى الأول أو الفتوى المستندة إلى المعنى الثاني، أما تركهما معاً فهو إبطال للنص وليس إبطالاً للفتوى.
1135 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع