حسن ميسر صالح الأمين
(أقوال من أجل الموصل في محنتها ومستقبلها - 12) .
رافد من روافد دجلة الخير والعطاء إنساب من موصلنا الحبيبة ليصب عند نهاية المسار في ثغر العراق الباسم ، محافظة البصرة الفيحاء ، ويمكث فيها ردحًا من الزمن فيزرع هناك ما حمله من بذرات النبوغ والإبداع والتفوق والتميز .
قامة عراقية اخرى من القامات الباسقات من الذين شقوا طريق التحدي وغاص في أعماق المسارات الهندسية والفنية وشفرات التقنيات العالية فأبدعوا وأسهمو أيما إبداع ، سليل بيت علم وأهل تقوى وصلاح ، نجل العلامة (الشيخ عبد الله الحسَّو ، رحمه الله) صاحب الصوت المعتدل والمدرسة الدينية المبنية على التسامح والمحبة والسلام والإعتدال والوسطية والذي تتلمذ على يده عشرات العلماء وحصلوا على الإجازة الدينية منه ، فنمى غصن يافع وافر الثمر من تلك الشجرة الوارفة الظلال والتي يتفيأ بها كل طالب علم وذي عوز أو محتاج ، إنه المهندس القدير (سالم عبد الله الحسَّو) ، ولد في الموصل عام (1941) ودرس مدارسها وأنهى الدراسة الأعداديه فيها عام (1959) ، وكان من المتفوقين دراسيًا فتم ترشيحه لبعثة دراسية إلى انكلتره لدراسة الهندسة الكهربائية عام (1959) وحصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة مانجستر عام (1965) .
عاد إلى العراق بعدها ليبدأ حياته الوظيفية في الموانئ العراقية في محافظة البصرة عام (1966) ، ليتنقل في أقسامها الفنية ودوائرها الهندسية في العمل على صيانة منظومات الأتصالات الألكترونية ومحطات البث اللاسلكي فأكتسب خبرة في أجهزة الاتصالات البحرية والجوية والبرية ، وأستطاع بعد عام واحد من خدمته الوظيفية من تصميم وبناء جهاز إرسال الإشارات عالية الحساسية لنظام الحزمة اللاسلكية أحادية الجانب الخاص بأعمال السيطرة الجوية والذي أستمر بالعمل بأقصى كفاءته منذ عام (1970) إلى أن تم تدميره عام (1991) بأحدى الغارات الجوية العدوانية .
وكانت له إسهامات كبيرة أخرى في اعمال صيانة وتشغيل أجهزة البث التلفزيوني في البصرة ، وصيانة وتشغيل الأجهزة الطبية في مستشفى الموانئ ومستشفى البصرة العام ، وأستمر في عمله بقسم الاتصالات اللاسلكية حتى عام (1970) ليتفرغ بعدها لتولي مهمة تهيئة وتدريب وتأهيل الفرق التقنية في مجالات البرمجة على الحاسوب والتعريف بلغات التشغيل وطرق البرمجة المستخدمة وقتئذ ، وأنهى المهمة بنجاح باهر وليحقق المهندس الحسَّو وفريق العمل المتميز في مركز حاسبة الموانئ اولى نجاحاتهم في التطبيق الأول لنظام حسابات عمال القطعة والذي أعقبته عدة أنظمة كنظام إعداد الحسابات الخاصة برواتب العاملين في الموانئ وعلى اختلاف أقسامهم ودوائرهم وكذلك نظام متابعة سجلات السفن القادمة والمغادرة وحمولاتها في برامج متطورة وبتقنيات عالية ، فتوسعت أعمال الحاسبة المركزية عمودياُ وأفقياً .
وهكذا نمت هذه الخبرة الفنية التراكمية وتكاثفت تلك الشجرة المعلوماتية لتكون إمتداداً علمياً وإدارياً وتطبيقياً لثورة الحواسيب في مراحلها اللاحقة ، ثم أشرف على توسيع قدرات مركز حاسبة الموانئ بالتعاقد مع شركة (هني ويل) الفرنسية وشركة (سي أم سي) البريطانية لتجهيز الموانئ بأجهزة حديثة قادرة على التعامل الفوري مع مدخلات البيانات ومخرجاتها وكذلك إستبدال أجهزة التخريم الورقية بوحدات شاشات ومفاتيح سريعة لإدخال المعلومات بغية مواجهة التوسع الحاصل في زخم العمل .
وفي أعقاب هذا العمل الدؤوب والنجاحات المتحققة والتميز في العمل في مركز حاسبة الموانيء العراقية ، تم منحه إجازة دراسية عام (1973) للحصول على الماجستير والتي نالها عام (1975) وعاد لتكملة مشواره الوظيفي في مركز حاسبة الموانئ العراقية في البصرة .
وفي العام (1979) وبعد مرور خمس سنوات على عمله في المركز نفسه ، تم منحه إجازة أخرى لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة لندن ، بيد أن الحرب العراقية الإيرانية حالت دون وصول المبالغ المالية اللازمة لتغطية نفقات الدراسة ، مما اضطره إلى ترك مقعده الدراسي والبحث عن عمل يوفر له الملاذ الآمن هناك في لندن بعد أن باءت كل محاولاته للإستمرار بالدراسة بالفشل ، فتبوأ منصب المدير الفني لشركة (الفاكريت) في لندن للفترة من عام (1981) ولغاية (1990) ، وسجل في حينها أروع الإنجازات الدولية , وأشرف على تصميم وإنتاج وحدة الإتصالات الطرفية والتي كانت صالحة للعمل مع الحواسيب المركزية لشركتي (ديجيتال) و(بيركن إيلمر) وكان من أوائل المساهمين في وضع أسس التعريب لأجهزة الإتصالات الطرفية العاملة مع هذه الحواسيب ، والتي لاقت رواجًا كبيرًا في مراكز الحواسيب في كل من ليبيا والمملكة العربية السعودية في حينها .
قام عام (1992) بتأسيس وإنشاء شركة (ألترا سوفت) للبرمجة والتدريب ونجح في تنفيذ مشروع لتصميم نظام آلي للسيطرة على أعمال المراقبة التلفزيونية في أروقة الحرم المكي الشريف والذي أستمر العمل به لأكثر من عشر سنوات ، وأنهى العمل في المجال الهندسي عام (1999) .
ولابد هنا من الاشارة الى جانب مهم في حياة المهندس الحسَّو وهو أنه كان يمتلك ثقافة فنية رافقته منذ مراحل شبابه الأولى في الموصل فقد شارك في بعض المسرحيات ومارس الرسم ، فقد درس الفن التشكيلي في مراحل الدراسة المتوسطة والإعدادية على يد الفنان التشكيلي الراحل (نجيب يونس رحمه الله) ، بل أنه حال وصوله إلى إنكلتره لغرض الدراسة قام بممارسة هواياته الفنية والثقافية وتعميقها فأنهى دورة دراسية للفنون التشكيلية في كلية (كامبرويل) في لندن عام (1960) ، وشارك في معرض للرسم لطلبة كلية (نور وود) في لندن وحصل على الجائزة الأولى عام (1960) وحصل على الجائزة الأولى أيضاً في المعرض التشكيلي الذي أقامته جامعة (مانجستر) عام (1963) ، ودرس في بيروت مبادئ فن النحت للفترة من (1999 -2001) على يد الفنانة (منى السعودي) ، وشارك في دورة دراسية للنحت في جامعة (كنكستون) في لندن عام (2008) وشارك في التمثيل والإخراج المسرحي لمجموعة من المسرحيات الجامعية في لندن ومانجستر للمدة من (1959 - 1963) وبقي حتى يومنا هذا يمارس هواياته في النحت والرسم والتصوير السينمائي والفوتوغرافي ويعشق الموسيقى والأعمال الأدبية ويقرأ الشعر .
كما أنه ملحن جيد ومخرج ممتاز ، أخرج عدة أفلام عن الفنان الراحل (طلال عبد الرحمن النعيمي رحمه الله) وفرقته الموسيقية العالمية (سومر) وقام بتسجيل العديد من أفلام اليوتيوب لأغاني الفرقة ، كما عرف بغزارة انتاجه وبتصاميمه فيما ينشره من تصاميمه الإبداعية في النحت وفي تصاميمه ومونتاجاته الفيدوية والمعززة بالموسيقى الهادئة التي ترافق دقائق الفيديوات المصورة عن مدينته الموصل والتي تحكي ماضي أمجادها وطيب ذكراها العطره ، وقد توج أعماله الفنية بتاريخ (27/2/2017) بتسجيل فلم موسيقى حزين بعنوان (ترانيم موصلية) عبر فيه وأجاد عن حزنه الشديد على الموصل وألمه على تدمير معالمها وتراثها وقام بنشره على اليوتيوب وعلى صفحته الفيسبوكية ومواقع نشر أخرى ، وقال في تقديمه (الفيديو القصير يعبر عن حزني و شوقي لمدينة الموصل الحبيبة وما قاسته هي وأهلها الصابرون خلال (3) أعوام مضت) وعلى الرابط التالي : (https://youtu.be/cYkqqwDSIpw) .
وكذلك قام بتصوير وإخراج فلم عن الأسطة (عبودي الطنبرجي - أسطة بناء ماهر) بأسم (حية البيت) يتناول حملة ترميم منارة الحدباء في الجامع الكبير بالموصل عام (1939) تأليف الأستاذ (أزهر العبيدي) و تقمص المهندس سالم الحسَّو شخصية (الطنبرجي) إضافة إلى التصوير والإخراج ، ضمن مسلسل (عمو مشتاق الدليمي) المسجل بصوت الحكواتي الموصلي المبدع (مشتاق الدليمي) وقد أنجز العمل بجزأين تم نشرهم في موقع البيت الموصلي ، الجزء الاول بتاريخ ( 24/12/2013) والجزء الثاني بتاريخ (3/3/2014) ، ويعد هذا العمل الرائع تجسيدًا حيّا ورمزًا للإخاء الإسلامي المسيحي حيث أن القصة تشير الى كيفية قيام عامل البناء المسيحي (عبود الطنبرجي) بترميم منارة الحدباء رافضًا تقاضي أجور العمل والمواد .
وهو أيضًا المدير الفني والمصمم لموقع بيت الموصل على شبكة الأنترنيت ولا يزال على رأس عمله لحد الان ، هذا الموقع الذي جمع خيرة أبناء الموصل ومثقفيها وكان ساحة للحوارات الغنية بالمعلومات التي تجسد تاريخ الموصل وثقافة أهلها وتمدنهم ومساهماتهم الحية في صنع حضارتها وعلى رابط الموقع التالي : (http://www.baytalmosul.com)
إضافة على مواقع عديدة يشرف عليها بنفسه ابرزها (موقع سالم الحسَّو) على الرابط : (www.alhasso.com)
وكذلك صفحته النيرة على الفيس بوك .
كما أنه استحدث مع مجموعة من الأصدقاء موقعًا باسم (بيت الكتاب) مهمته توفير الكتب العلمية والمنهجية لطلبة جامعة الموصل مجانًا بعد الأحداث الأخيرة التي طالت مكتبتها المركزية .
المهندس الفنان (سالم الحسَّو) شخصية مجبولة بحب الله وحب الوطن وحب الطبيعة وحب الانسان ، وهو رجل هاديء طبعه ، دقيق في عمله ، لا يحب الظهور ولا الاضواء ، يكره التصنع ، يعمل بصمت ويدع اعماله تتحدث عن القيمة التي تحملها لا عنه ، رجل كريم اليدين ، سخي العطاء ، يبحث بصمت عمن أصابه الضر في الموصل وفي غيرها فيتصرف كما لو أن الضر أصابه شخصيًا ودون أن تعرف شماله ما تنفق يمناه ، وإننا حين نقول قولنا هذا فيه تحرّينا أن نستقيه من غيره ودون معرفة منه لقناعتنا أنه سيرفض أي حديث عن أمور جعلها بينه وبين نفسه .
غادر الموصل جسدًا والروح ثابتةٌ فيها وحاضرةً معها في كل حلهِ وترحالهِ وحيثما وطأت قدماه في أرض المعمورة فكان لها ولأهلها نِعمَ البار والمخلص والصادق حبًا بها وبأهلها وأرتباطًا وثيقًا ولصيقًا بجذورها وذكرياتها .
وحين تسنى له زيارتها بعد أن سنحت له الظروف عام (2004) ، قام بتصوير عوجاتها ومحلاتها القديمة ومنها شهر سوق وباب العراق والجسر العتيق ، حيث بيته والمكان الذي ولد فيه ، وأعد لها فيديو جميل قام بنشره على الأنترنت على الرابط التالي:
(https://youtu.be/JiNAl0viDhk)
لقد تابع الحسو أحداث الموصل أولًا بأول ووقف على أحزانها وأتراحها وتألم لآلامها وأكتوى بما أصابها ،
وعبر بكلمات معدودات ذات معنى كبير عن تلك الأيام وأحداثها ووضع التشخيص السليم كواضع الأصبع على الجرح في تشخيص مكامن الخلل والأسباب حين قال في تعليق له أدلى به في نص منشور في صفحة فضاءات وأفكار على الموقع الأدبي للدكتور احمد الحسَّو بتاريخ (20/1/2017) النص التالي :
(ان الحاجة ماسة الى إخضاع مسيرة مجتمعاتنا للنقد وتحديد مكامن الخطأ والصواب فيها بشجاعة فكرية تعيد النظر بما تراكم عبر أجيال مضت من مفاهيم خاطئة أصبحت اليوم وقوداً جاهزاً أشعل بالأمس ، ويُشعل اليوم نيران الفتن في مجتمعاتنا لتتحكم بأقدارها سياسات اقليمية ودولية لاتريد لنا الخير وتسعى لفرض نفوذها وافكارها ، ان النقد الذاتي هذا سيكون نقطة الانطلاق نحو بناء ثقافة الاجيال الناشئة على اسس العدل والانسانية واحترام حرية التعبير والمعتقدات على اختلافها ونبذ اساليب الحرب والدمار... بيد ان نجاح ذلك يتطلب وجود قادة يؤمنون بهذه الثقافة ويستمدون قوتهم من ايمانهم باوطانهم وبحقوق اهلها في حياة كريمة يتساوى فيها الجميع مهما اختلفت افكارهم ومعتقداتهم ) .
لقد أخترت مقولته كما في الصورة أدناه وهي فقرة مجتزأة من تعليقه اعلاه والتي عبر فيها عن الكثير مما تعنية بإختصار شديد ، أضعها أمامكم سادتي الكرام متمنيًا أن تنال رضاكم وأن تأخذ صداها كمقولة وحكمة صادرة من رجل نبيل وعالم حصيف يُكِنُ كل الحب لمدينته وأهلها ، ويحذوني الأمل السعيد بمشاركتكم وتفاعلكم مع المقولة ومضمونها بإعتبارها عنوان عريض لموضوع نقاش لواحدة من الطروحات الموضوعية بغية الوصول إلى إيجاد الحلول الناجعة للمرحلة القادمة ، وأكرر التأكيد على ما سبق ان أشرت إليه في أكثر من مرة إلى أنني وفي بحر ما أنشر من مقولات لست فيها بصدد إظهار السِيّر البهية والتعريف بالشخصيات فالكل كرام ومعروفون ولهم بصماتهم المتميزة وحضورهم المشرف ، ولكن وددت التأكيد على مقولاتهم وتثبيتها كشهادة للتاريخ بحقهم وإظهارها وتوسعة نشرها والتي أطمح من الجميع من خلال ما أنشر منها تباعًا على التركيز على المقولة وأتخاذها عنوان عريض للنقاش وصب الإهتمام حول مضمونها وإبداء الرأي والإضافات حولها وهذه هي الغاية المرجوه من سلسلة الأقوال من أجل الموصل في محنتها ومستقبلها ، شاكرًا تفضلكم ومتمنيًا للجميع دوام التوفيق والسداد وتقبلوا وافر الإحترام والتقدير .
حسن ميسر صالح الأمين
28/8/2017
والمقولة هي :
إن الحاجة ماسة الى إخضاع مسيرة مجتمعاتنا للنقد وتحديد مكامن الخطأ والصواب فيها بشجاعة فكرية تعيد النظر بما تراكم عبر أجيال مضت من مفاهيم خاطئة أصبحت اليوم وقوداً جاهزاً أُشعل بالأمس ، ويُشعل اليوم نيران الفتن في مجتمعاتنا.
2239 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع