بدري نوئيل يوسف
من حكايات جدتي ... الرابعة والخمسين
قصة الفلاح الذي اصبح طبيباً
تعلمت جدتي أن تحضر بعض الوصفات الطبية الشعبية، وتشتري المواد العشبية من سوق العطارين في الموصل، وهو أحد أقدم الأسواق الشعبية الواقعة داخل البلدة القديمة للمدينة، ويربط منطقة باب الطوب وشارع نينوى، وقد اشتق السوق أسمه من بائعي المحلات التجارية العديدة، التي تبيع البهارات والأعشاب الطبية (العطارون).
تقدم جدتي هذه الوصفات لأبناء المحلة المحتاجين مجانا فمثلا، اذا بكى الطفل فكثيرا ما يصاب الرضيع بالمغص والغازات، تقول جدتي لامه (تره ابنكِ قلبه ديجعه لازم تشغيبه سفوف) والسفوف مجموعة مواد عطارية تتكون من
( انسون ،حبة سودة،كزبره، سْعد ،هيل ،قشور برتقال،حبة حلوه، خشخاش،كمون،محلب،ورد احمر )، تقوم جدتي بخلط هذه الكميات بنسب معنية أي نسبة كل مادة منها في الخلط ثم تطحنها (أي تدقها بالهاون لحين تتحول الى مسحوق يشبه البودرة بالنعومة)، وتأخذ الام التي ابنها يبكي من هذه الخلطة ملء ملعقة شاي، وتغلي الكمية داخل ابريق الشاي (قوري صغير)، ثم تبرده وتسقي الطفل من ذلك السائل، بعد اضافة قليل من السكر .
كما تصف جدتي لطفل إذا أصيب بالإسهال، فيسقى محلول(حبة حلوه) بعد غليه بالماء، وإذا اصيب الطفل بالإمساك فيسقى قليلا من دهن الخروع على(الريق)أي قبل ان يأكل شيئا، او تعمل له فتيلة، وهي عود شخاط ملفوف على طرفها قليل من القطن ثم يلوث بصابون الرقي (صابون حلب) وتوضع بشرج الطفل.
كما تصف الزرقيون لعلاج الاحمرار والتهاب الحفاظ لدى الاطفال، عندما يكون ملتهب أو محمر فيمسح القسم الملتهب بالزرقيون وهي مادة عطاريه قرمزية اللون .
أما اذا بكى الطفل كثيرا وشخصت جدتي سبب بكائه، أي عرفت أنه مصاب بتشنج في ظهره عندئذ تقوم جدتي بدلك جسم الطفل، إما بحليب امه أو بالزبد أو دهن الطعام، ثم تخالف يديه وتخالف رجليه ثم تلفه بالقماط لفا قويا وتدحرجه على ساقيها الممدودتين الى الامام عدة مرات فانه يرتاح وينام.
وتصف جدتي للطفل الذي يصاب بـِ احمرار تحت الابط أو في طيات الذراع أو الفخذ مسحوق الطين خاوة الناعم وهي ترسبات نهرية يقوم مقامها اليوم البودرة الطبية.
وإذا كان فم الطفل (بايخ) أى ملتهب او مصاب بـِ (بطباطات أي يبدو الجلد محمرا وتورم مكان الحرق والشعور بوجع شديد، أو فراكيس أي قرحة الفم التي يعانى منها الكثير، ودائماً ما تكون قرحة الفم صغيرة إلا أنها مؤلمة ويسيل اللعاب من فمه)، تصف جدتي أن تشتري ام الطفل (الفروك) مادة عطاريه توضع فوق الالم، وهو مجموعة من مواد عشبية وطبيعية ، يعرف العطار كمياتها، تسخن وتطحن ثم تنخل جيدا وتحتوي على (شب ،عفص،قشور رمان، جاثه هندي ، طين ارملي).
اما حكايتنا لهذا اليوم تقول جدتي:كان يا مكان في قديم الزمان ،كان هناك فلاح يعيش مع زوجته، وكان الفلاح غريب الاطوار، حيث كان يضرب زوجته حتى لمجرد سببٍ بسيط، ثم يعتذر بعد ذلك ويقدم لها الزهور من اجل ارضاءها، وكانت زوجته المسكينة تبحث عن وسيلةٍ تخلصهُ من هذه العادة.
وفي يوم من الايام رأت زوجة الفلاح احد ضباط الملك في الطريق عندما كانت ذاهبةً الى السوق ، حيث كان الضابط في العربة وعلى عجلةٍ من امرهِ ، فقال لها الضابط: الملك بحاجةٍ الى طبيبٍ ماهر، هل يوجد بالقرب من هنا طبيب؟ هل تعرفين طبيباً جيداً؟ لقد ابتلعت ابنتهُ عظمَ سمك .
فكرت زوجة الفلاح وقالت لنفسها: هذه فرصةٌ لمعاقبة زوجي.
ثم قالت للضابط: زوجي طبيبٌ بارع، وإخراج عظم السمك امرٌ سهلٌ بالنسبة لهُ ولكن، سكتت الزوجة.
فقال الضابط: لكن ماذا؟
قالت الزوجة:انهُ كسول ولا شيء يغريه لتطبيب المرضى، وإذا اردته ان يعالج مريضاً عليك بضربهِ ضرباً شديداً بالعصا.فتعجب الضابط وقال: ضربهُ بالعصا .
قالت الزوجة: نعم، اذا فعلت ذلك عندئذٍ سيعالج الاميرة ويشفيها.
ضحك الضابط وقال: يالهُ من رجلٍ غريب، حسنأً، سنضربهُ بالعصا .
فرحت الزوجة وضحكت، وهكذا اخذ الضابط السعيد الفلاحَ الى القلعة، وكان الفلاح خائفاً جداً.
سأل الملك الفلاح: هل حقاً تستطيع ان تشفي ابنتي من مرضها؟
أجاب الفلاح وهو مرتبك: انا ،كلا، انا لستُ طبيباً، انا فلاح بسيط ولا اعرفُ شيئاً في الطب صدقني يا سيدي.
سأل الملك:ايها الضابط هذا الرجل يقول انهُ ليس طبيباً، هل هذا صحيح؟
أجاب الضابط: سمعتهُ يا سيدي، وسيعترف بعد قليل، ارجوك ان تنتظر. ثم امر الضابط الحراسَ ان يأخذوه.
سأل الفلاح: ما الذي تريد ان تفعلهُ بي؟
قال الضابط: اسمع جيداً اعلمُ انك طبيب، واعلمُ انك كسول، من الافضل لك ان تعالج الاميرة.
قال الفلاح: انا فلاح ولا استطيعُ شفاءها.
أمر الضابط الحراسَ بضربهِ، ضربوا الفلاح ضرباً مبرحاً، معتقدين انهُ طبيب كسول.
سأل الملك: والآن هل انتَ الطبيب الذي سيعالج ابنتي؟ هيا اخبرني .
أجاب الفلاح وهو متعبٌ من الضرب: انا فلاح.
ثم سال الملك الضابط: ايها الضابط هل هذا الرجل طبيب ام لا؟
فقال الضابط للحراس: اضربوه مرة ثانية، ولم ينفع الفلاح توسلهُ وبكاءهُ، لذلك وافق اخيراً وقال: حسناً انا طبيب ،طبيب، وسأخرجُ العظمَ ، نعم طبيب، وهكذا اقتيدَ الفلاح الى الاميرة، ومنذُ ان علقَ العظمُ في حلق الاميرة ، وهي لا تستطيع ان تتناول الطعام ، فهَزُل جسمها وضعفت.
قال الضابط: هذه هي الاميرة ، يجب ان تخرج العظم بأسرع وقت ،مفهوم؟ فكر الفلاح وقال لنفسه: لا سبيل امامي يجب ان اخرج العظم من حلق الاميرة وإلا ! ثم قال الفلاح للأميرة : والآن يا اميرتي ارجو ان تفتحي فمكي الكريم فتحت الاميرة فمها ، وكان العظم قد دخل بعمق ، بحيث لا يستطيع الفلاح ان يصل اليه بيديه.
قال الفلاح لنفسه: السبيل الوحيد لإخراج العظم ، هو هبوب ريح قويه من داخل رئة الاميرة، فكر الفلاح وأخيرا توصل الى الحل وهو لابد ان تعطس الاميرة. ثم احضرَ ريشة وبدأ يحركها بالقرب من انف الاميرة.
فقالت الاميرة : ماذا تفعل؟ انتَ غريبٌ فعلاً انتَ مُضحك، ما هذا؟ ضحكت الاميرة بقوة ،وخرج العظم، وبجهدٍ بسيط استطاع الفلاح ان يشفي الاميرة، قال الملك: لقد اخرجتَ العظم، يا لك من طبيبٍ ماهر ثم اعطاه الكثير من الذهب، وفي اليوم التالي قررَ الفلاح مغادرة القصر حاملاً كيساً مليئا بالقطع الذهبية، وأثناء مغادرته وجدَ الضابط امامهُ، قال الضابط : انتظر ، ثم اخذه الى احد غرف القصر وإذا بالغرفة مليئة بالناس، وقال له : ارجو ان تعالج هؤلاء الناس قبل عودتك، ارجوك انهم مرضى. حيث حالما سمعَ الناس بالطبيب البارع ، تجمهروا امام القصر طالبين منه ان يشفيهم،وإذا رفض الفلاح طلب الضابط، فسوف يضرب ضرباً مبرحاً بالعصا، لاسيما وعدد المرضى كبيرٌ هذه المرة.
فقال احد المرضى: دكتور عندي الامٌ في العظام،لا استطيع السير ، ارجوك عالجني يا دكتور ارجوك.
وقال أخر رأسي يؤلمني ايها الطبيب ، ولا استطيع الرؤية جيداً.
واخذ الناس يتوسلون الى الطبيب ، وكل واحدٍ منهم يرغبُ بأن يكون المريض الاول الذي يُعالجُ من قبل هذا الطبيب.واخذوا يتدافعون ويصرخون.
وفكر الفلاح بفكرة رائعة ليخلص نفسهُ وقال:
حسنأً ، سوف أعالج امراضكم جميعاً بوصفةٍ طبيةٍ واحدة،اريد منكم ان تحرقوا مريضاً لا املَ في شفاءهِ في ذلكَ الفرن، لان مدونٌ في كتب الطب بأن الرماد دواءٌ جيدٌ ومفيد لجميع الامراض البدنية، ويؤسفني امرُ المريض الذي سيُحرق ولكن لابد من التضحية في سبيل انقاذ كل هؤلاء المرضى المساكين،ما رأيكم؟
من منكم سيضحي في سبيل الاخرين؟ انتَ؟ (وكان الفلاح مشيراً الى المريض الذي لا يستطيع السير).
فقال المريض : أنا كلا لقد شفيت ، انظر لقد تحسنتُ كثيراً ،عظامي سليمة، استطيع المشي، نعم لقد شفيت الى اللقاء.
وخرج المريض يركض بسرعة، ثم قال الفلاح وهو يشير الى المريض الذي يشتكي من رأسهُ: اذن انتَ ايها العجوز.
فقال المريض: انا لقد تحسن رأسي وأستطيع الرؤية جيداً، انا بخير، نعم انا بخير، وداعاً.
ثم خرج هذا المريض ايضاً خوفاً من الحرق في الفرن، هربَ جميع المرضى مدعين سلامةَ ابدانهم.
قال الملك للضابط: لقد شفيَ كلُ هؤلاء الناس، انهُ طبيبٌ بارع، ضاعف لهُ المكافأة.
قال الضابط: امركَ سيدي.
وهكذا عاد الفلاح الى قريتهِ سعيداً وبحوزتهِ كميةٌ من النقود الذهبية.
اما زوجتهُ فقد قلقت عليه ولم تستطع النوم، وعندما رأتهُ عائداٌ، فرحت كثيراً.
وفرِحَ الاثنان فرحاً شديداً، ومن يومها لم يضرب الفلاح زوجتهُ الطيبة وعاشا بعد ذلك عيشةً سعيدة.
2186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع