د. محمد عياش الكبيسي
اتخذت اللجان الشعبية المنظمة للحراك العراقي قراراً حكيماً بالابتعاد عن كل المسائل الخلافية التي لم تحسم بعدُ، ومن بين هذه المسائل مسألة الفيدرالية وتحويل المحافظات إلى أقاليم، بيد أن الأمور لم تجر كما خططت اللجان حيث أصدر الشيخ الدكتور عبدالملك السعدي فتوى صريحة بتحريم العمل بنظام الأقاليم، مما أثار زوبعة من البيانات والتعقيبات والفتاوى المؤيدة والمخالفة.
اللجان تمسكت بموقفها ولم تنجر لهذا السجال، وهذا يؤكد وعيها وحرصها الشديد على وحدة الكلمة وإدامة زخم الحراك باتجاه تحقيق المطالب المشروعة وصولاً إلى إسقاط المالكي وإصلاح النظام بما يضمن الحد المقبول من العدالة وقواعد التعايش الآمن، وربما يكون من الحكمة أيضاً أن يترك الموضوع إلى الوقت الذي تنضج فيه القناعات من خلال التعامل الميداني مع الأحداث ومواقف الطرف الآخر.
إن استمرار المحافظات السنّية بما يشبه الإجماع على الانتفاض، واستمرار المحافظات الشيعية بما يشبه الإجماع أيضاً على السكوت واللامبالاة، حتى وصل الأمر إلى أن الأحياء السنية في بغداد كلها تنتفض بينما تعيش الأحياء الشيعية بجوارها حالة من الهدوء وكأنها في دولة أخرى أو كوكب آخر، كل هذا يجعلنا أمام مأزق تاريخي يصل إلى حد الكارثة التي لا تهدد العراق وحده بل المنطقة بأجمعها.
لقد كانت فضيحة اغتصاب النساء في سجون المالكي مناسبة لتحريك شيء من المشتركات الدينية أو القومية أو القبلية، لكن كل هذا لم يحصل، وهذا لوحده يؤكد أننا أمام كارثة حقيقية لا يمكن التنبؤ بمآلاتها وتداعياتها.
لقد أصبح سب الصحابة وأمهات المؤمنين في المناهج الدراسية وأسئلة الامتحانات ووسائل الإعلام شيئا معتادا، وكان آخرها سؤال من العميد المساعد لكلية القانون في ديالي يطرحه على الطلاب وفيه تعريض بأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها واتهام لها بالزنا وبكلمات في غاية الوقاحة مما أثار احتجاجات واسعة في جامعة ديالي، لكنها لم تحرك ساكنا عند شركائنا في الوطن.
في مظاهرات الفلوجة تقوم قوات المالكي بإطلاق النار على المتظاهرين العزّل فيستشهد ثمانية ويجرح ستون، وقد سمع المتظاهرون ضابط الوحدة العسكرية وهو يصدر أوامره لجنوده (اقتلوا أولاد عمر).
في سجن الكاظمية يعتقل أكبر عالم للسنّة في ديالي وهو الشيخ حسن ملا علي بعشرة تهم كيدية، لكن القضاء برأه منها تماماً، ومع هذا يقومون بتسليم جثته لأهله في الوقت الذي تطالب الجماهير بإطلاق سراح المعتقلين، ولم نسمع استنكارا لهذه الجريمة من أي مرجع أو سياسي شيعي.
في الجوار يقوم النظام السوري بارتكاب أبشع الجرائم قتلا واغتصابا وانتهاكا للحرمات وتدميرا للمساجد والمؤسسات، فيقف السنة مع الشعب المظلوم وثورته الواعدة بينما يقف الآخرون مع النظام بكل فعالياتهم ومؤسساتهم الدينية والثقافية والسياسية.
إذاً هناك انقسام حقيقي وحاد في كل مفصل من مفاصل الحياة، وهناك شعور بالخطر ليس على الدماء والأموال فحسب بل والدين والعرض، من هنا ترتفع الأصوات المطالبة بأي حل، حتى لو كان بالفيدرالية، وكان الواجب تقدير هذا الجرح الذي يعاني منه هؤلاء والقلق الذي يملأ نفوسهم على دينهم وعرضهم، والتعاون معهم للوصول إلى الحل الأنسب والأنجع، أما اتهامهم بالطائفية وشق الصف وتقسيم البلاد، فهذا قلب للحقائق، ووقوف مع الظالم ضد المظلوم.
يستدل المحرمون للحل الفيدرالي بنصوص بعيدة كل البعد عن محل النزاع، وهي لا تنطبق إلا على المالكي ومن يسانده ويدعمه فهم الذين شقوا صف الأمة وأثاروا الفتنة بين مكوناتها، أما توزيع السلطات بين المركز والولايات في الدولة فهو أمر آخر وقد كان معمولاً به في الدولة الإسلامية فكيف يحرم علينا في دولة المالكي!!
أما القول بأن هذا مشروع أميركي وقد صرح به نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، فعلى هذا أكثر من جواب منها:
أولا: من الناحية التأصيلية لا يصح الاستدلال بتصريحات العدو لا إباحة ولا تحريما، وقد كان المشركون يخططون لإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ» الأنفال/30، ومع هذا فالرسول خرج مهاجرا وأمر أصحابه بالهجرة فكانت الهجرة فتحا مع أنها كانت خيارا من خيارات العدو، ولذلك عقب القرآن في الآية نفسها «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ».
ثانياً: إن الذي يمثل المشروع الأميركي في العراق هو المالكي، وكان بإمكان بايدن أن يوعز للمالكي بالسماح فقط لمجلس محافظة ديالي أن ينفذوا قرارهم بتحويل المحافظة إلى إقليم، لكن المالكي فعل العكس وأجهض هذه الفكرة في مهدها، فأين بايدن من هذا؟ ولا ننسى أيضا التصريحات المبكرة لعبدالعزيز الحكيم عن مشروع الإقليم الشيعي والذي أجهض في ظل الاحتلال الأميركي، كل هذا يؤكد أن مشروع بايدن هو مشروع آخر ربما يكون أخطر بكثير مما يتوقعه المراقبون، وربما تكون الحكومة المركزية الظالمة هي نفسها أهم أدواته.
ثم لو افترضنا أن مجتهدا ما جمع ما استطاع من أدلة فاستنبط منها حكماً بتحريم الفيدرالية، وهذا ممكن، فإننا نرى المحرمات القطعية في الإسلام تباح في حالة الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات، والمخالفون اليوم يتحدثون عن ضرورات أخطر بكثير من تلك التي تبيح أكل الميتة وشرب الخمر، وقد جربوا شعارات الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية لما يزيد على تسع سنوات، والأمور من سيئ إلى أسوأ، والناس تسأل عن سقف زمني أو عددي لمجمل الضحايا السنة قتلاً واغتصاباً حتى نصل إلى قناعة بفشل هذه الشعارات لعله يسمح لنا بالتفكير بحل آخر!
نعم لقد كان «الوطنيون» من أهل السنة يحلمون بانتفاضة وطنية تشترك فيها كل المكونات العراقية، لكنهم انتظروا طويلاً دون أن يستمع لهم أحد، ثم اصطدموا اليوم بواقع آخر لم يكن في حسبانهم، حيث ينتفض أهل السنة في العراق وحدهم وبطريقة لا تدع مجالاً للبس أو التدليس، فلم يعد أمام دعاة الحل الوطني اليوم إلا الاعتراف بهذا الواقع الجديد والخضوع له أو الانعزال عن هذه الحركة المفصلية في تاريخ العراق والمنطقة. من الغريب أيضاً أن نسمع أن الفيدرالية ليست حلاً؛ لأن الدستور يعطي الصلاحيات الكاملة لحكومة المركز أن تتدخل عسكرياً لضبط الأمن في الأقاليم، بمعنى أن الفيدرالية ستكون شكلية وغير ذات جدوى، والسؤال إذا كان هذا صحيحا فلماذا هذا التحشيد من المالكي لإجهاض هذه الفكرة، ثم لماذا هذا التحشيد من قبل العلماء الوطنيين أيضاً للتحذير منها وتحريمها بذريعة التقسيم! كيف وهي منزوعة القوة ومنزوعة الصلاحيات؟
ومن الملاحظ أيضاً الحديث عن الفيدرالية بلغة الأسود والأبيض، وكأنها صورة واحدة تستدعي حكماً واحداً، والصحيح أن هناك أشكالاً كثيرة من الفيدراليات، ويمكن الاتفاق على الصورة التي توسّع من الصلاحيات وتخفف من المظالم وتبعد أيضاً شبهة التقسيم، لكن من الواضح أن هناك صورة واحدة في الذهن يدور حولها النقاش، وهي أن يتحول العراق إلى ثلاثة أقاليم (سني وشيعي وكردي)، مع أن هذه الصيغة لا تخلو من مخالفة صريحة للدستور نفسه، ولذلك فإن ديالي لم تعلن نفسها إقليماً سنياً ولا صلاح الدين، إنهم يطالبون بتوسيع الصلاحيات فقط، ومع هذا يتعرضون للهجوم من قبل المالكي ومليشياته من جهة ومن الفتاوى الوطنية من جهة أخرى! وإذا كان الحكم على الشيء فرعا عن تصوره فإن من الواجب الشرعي قبل إصدار الفتاوى أن نسمع على الأقل من أهلنا في ديالي بالذات ما الذي جرى بالضبط، وما دور الأميركيين والإيرانيين فيه؟ ثم ماذا عن تجربة كردستان والتجارب الإسلامية الأخرى المعمول بها اليوم كالإمارات العربية وماليزيا وباكستان ونيجيريا؟ ثم ماذا لو طالب أهل السنة في إيران بالفيدرالية؟
إن الورع العلمي المستند إلى قدر من التقوى والخوف من الله ليدفع المفتي أن يراجع فتواه استدلالاً وتفصيلاً وتنزيلاً خاصة في الفتاوى المتعلقة بمصير الأمة ووجودها.
1387 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع