لغة ليس بها حروف ولا أرقام

                                     

                                                  جيهان أبوزيد

لم تفصح عن السؤال، ثم انتظرت الإجابة.
تلك كانت اللعبة التي شرحتها «ماري» السيدة الكندية التي تقترب من نهاية عقدها الثامن. كان على أحدهم أن يختار سؤالا ثم يطلب الإجابة من شريكه في التمرين من دون تقديم أي معلومات قد تقود إلى السؤال.

اللعبة كانت تقضي أن ينصت كل اللاعبين إلى أصواتهم الداخلية، أن يتعلموا الاستماع إلى ذواتهم المنسية الضائعة في ضجيج الحياة اليومية والأحداث الكبرى، أن يبحثوا عن الرموز الأخرى التي هي ليست حروفا ولا أرقاما، كان عليهم أن يبحثوا عن لغة لا يعرفون عنها شيئا وعن رموز لا يستخدمها العقل. دفعت بهم للبحث عن الرموز التي يستخدمها القلب، تركتهم يبحثون بمفردهم بعض الوقت ثم قالت: قد يرسل لكم القلب نبضة زائدة، أو لونا متوهجا يضيء حتى والعيون مغلقة، أو قد يكون رجفة مفاجئة تطال أحد الأطراف.
عندما أنهوا لعبهم سألت كلا منهم منفردا عما أعاق سمعه لصوته الداخلي وعما منعه من فك طلاسم القلب، لم يكن الحضور بالسذج أو بالتائهين، كانوا طلابا حاصلين على درجات علمية هامة يعملون في مجالات شتى، ولم يجمع بينهم سوى البحث عن سبيل للمقاومة.
إحداهن كانت تريد مقاومة ذكريات طفولتها الأليمة، وآخر كان يبحث عن وسيلة لمقاومة صوت رفاقه المستيقظ أبداً بداخله وهم يسخرون ضحكا كلما تعثر في نطق بعض الكلمات، شاب ممتلئ الجسد اعترف أنه لا يتقن إلا الخوف من المستقبل ومن التغيير ومن تحرير أحلامه المكبلة بصوت أبيه الذي طالما ردد «حتفضل فاشل».
كنت أستمع لوقائع اللقاء بالسيدة الكندية العجوز وإذا بانقباضة مفاجئة تضربني إثر عرض مشهد الجرافات الإسرائيلية وهي تزيل خيام قرية «باب الشمس» التي أقامها نشطاء وناشطات فلسطينيون وتقمع المقاومين بالغازات والهراوات مُوقعة في صفوفهم إصابات، قبل أن يعاودوا محاولات نصبها ثانيةً. المحكمة العليا في إسرائيل أعطت الضوء الأخضر لتفكيك هذا المخيم الذي أقيم على أراض فلسطينية محتلة تعتزم السلطات مصادرتها لإقامة مشروع جديد من شأنه إتمام عزل مدينة القدس عن الضفة الغربية المحتلة وقطع التواصل بين أبناء الأرض ومدينة جدودهم وآبائهم.
باب الشمس حين فُتح جاء بضوء جديد في الصراع مع المحتل الإسرائيلي، في مواجهة التوسع الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، حتى الصغار فرحوا كما الكبار بالنموذج الجديد الذي اعتبروه مرحلة جديدة في تطوير الأدوات النضالية الشعبية لأبناء فلسطين الذين سئموا الشعارات والتصريحات الرسمية على مدار أكثر من عشرين عاما. تعود أهمية باب الشمس إلى كونه مبادرة وليس رد فعل في تطور جديد للمقاومة الفلسطينية. الشعب الفلسطيني ومنذ عام 1917 وحتى يومنا هذا مارس أشكالاً متنوعة من النضال ضد الاستعمار البريطاني والاحتلال الإسرائيلي، واتسمت كل مرحلة من مراحل نضاله باستخدام نوع مختلف من أنواع المقاومة. باب الشمس ملحمة لم يصنعها تيار سياسي ولا فصيل ديني، بل هي وليد ينتمي إلى المقاومة الشعبية، وهي مشروع تضامن فيه مئتا فلسطيني وأجنبي وضربوا خيامهم في قرية أطلقوا عليها اسم باب الشمس وتقع بين القدس المحتلة ومستوطنة «معاليم أدوميم».
إن مبادرة باب الشمس تحمل في ثناياها أهمية قصوى، خاصة أنها أقيمت على أراضي القدس، تلك المدينة التي سعى الاحتلال منذ عام 1967 إلى عزلها جغرافيا وسياسيا وثقافيا وفكريا عن بعدها الوطني الفلسطيني وعن بعدها الثقافي والديني الأوسع. «باب الشمس» عنوان مخيم لكنه أيضاً عنوان عمل روائي للكاتب «إلياس خوري» احتضنته السينما وخرج بنفس اسم «باب الشمس» العمل الروائي الشهير. قرية باب الشمس خلقت من الخيام أفقا جديدا في الصراع، ليس فقط في مناطق عام 1967 إنما أيضاً في مناطق 1948.
السيدة الكندية طلبت من الحضور تقليد سكان باب الشمس، وضرب خيامهم داخلهم، داخل ذواتهم التي سرقتها طفولة موجعة أو سرقتها خبرات الحياة المؤلمة أو ضاعت بفعل خوفٍ كبر واستشرى، أو أنانية أحكمت غلق الأبواب على صاحبها. طلبت السيدة ضرب الخيام مباشرة أمام الجدران التي تمنعنا من التواصل مع ذواتنا والتي تحجبنا عن الاستماع إلى صوت القلب أو لمس الهواء المنبعث من روح حرة طليقة تجمع من السماء والأرض خبرات وورود وتهديها لي ولكم ولكل سكان باب الشمس.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1375 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع