علي الكاش
قرأت مقالا طريفا عن الأكلة الشبعية (عمبة وصمون) في موقع (هنا العراق)، ومقال آخر عن أشهر باعة العمبة في الأعظمية (عوسي الأعظمي) في موقع الگاردينيا،
جاء في المقال الأول النص الآتي" أكلة العمبة وصمون من الأكلات الشعبية التي تفردت بها مدينة بغداد والعمبة موجودة في مصر ويزرعونها هناك لكنهم يأكلونها كفاكهة حلوة وطرية لم يعرف أحد غير أهل بغداد أكل العمبة المخللة والمطيبة بالملح والفلفل والكاري المركز وهي أكلة لم يعرفها أجدادنا العرب في العهد العباسي أو العثماني وإن من جاء بها للعراق التجار اليهود العراقيون الذين هاجروا للهند وإستقروا في بومبي، عملوا على إستيراد التمور والخيول العربية من العراق وتوريد التوابل الهندية للشورجة وكانوا في الهند قد تعلموا أكل العمبة المخللة بالكاري فصدروا عدة براميل منها لسوق حنون في بغداد فذاقها أبناء الطائفة الموسوية وإستلذوا بها وشاعت بينهم ومنهم إنتقل إستعمالها لبقية سكان بغداد من مسلمين ونصارى وإرتبطت بصورة خاصة بأكل السمك المسقوف والكبة البرغل حتى لم يعد من الممكن أن نتصور سمكة مسقوفة في شارع ابي نوآس بدون عمبة وطماطا، مما يذكر أن اليهود العراقيين الذين هاجروا لإسرائيل أخذوا معهم أكلة العمبة وأشاعوها هناك العراقيون بصورة عامة لايحبون الكاري والفلفل الحار لكنهم يهيمون بأكل العمبة حتى تعلق بها الصغار وأولاد المدارس وراح الكسبة والباعة المتجولون يدورون بها في الأزقة والأسواق الشعبية وحول ملاعب الكرة ورياض الأطفال تسمعهم ينادون بها: بفلسين بفلسين صمونة وعمبة بفلسين".
كما بين الكاتب الفولكلوري القدير ( سرور ميرزا) ان عوسي الذي ورد ذكره في مجلة الگاردينيا إشتهر كرياضي وليس كبائع عمبة بقوله" عند مشاهدتي مقالة (اشهر بائع للعمبة في الاعظمية) محددة تدل على البؤس والفقر والحزن لصاحبها عوسي الاعظمي، وهي بعيدة عن الموضوعية والواقعية قد تكون لحالة في زمن معين، ولهذا ملكني شعور حزين لما رأيت وقرأت، لا المقالة ولا الصورة تعكس ابدا واقع شخصية عوسي المميزة والفريدة واوصافها، صحيح انه مارس بيع العمبة لفترة ما، الأ إنها لا تقارن بسلسلة حياته العصامية والرياضية المتعددة المواهب".
لا أحد منا يجهل هذه الأكلة الشعبية اللذيذة عندما كان الطلاب يتراصفون أمام بائع العمبة المتواجد يوميا قرب باب المدرسة بعربته المزينة، ليحصل على ربع صمونة مغمسة بالعمبة بسعر عانة وبعدها خمسة فلوس، واحيانا كان البائع لغرض المنافسة مع بقية الباعة يحشر نصف قطعة فلافل صغيرة مع ربع الصمونة، ويكون محظوظا إذا لم تقع هذه القطعة في جرة العمبة خلال تغمسها في الجرة، فتضيع الفرصة على الطالب، سيما عندما لا يعوضها البائع ويقول (ما عندك حظ وقعت الفليفلة). وغالبا ما كان الأطفال عندما ينفرون من بائع العنبة لسبب ما، فأنهم يتفوهون بأهزوجات مسيئة تجعله غاضبا ويشتمهم بأقذع الشتائم، وهذه الأهزوجات تدخل في باب الأدب المكشوف.
ما أثارنا في الموضوع الأول عن العنبة التي تُكتب بالنون أو بالميم، مع ان الأصل هو النون القول" هي أكلة لم يعرفها أجدادنا العرب في العهد العباسي أو العثماني وإن من جاء بها للعراق التجار اليهود العراقيون الذين هاجروا للهند وإستقروا في بومبي، عملوا على إستيراد التمور والخيول العربية من العراق وتوريد التوابل الهندية للشورجة وكانوا في الهند قد تعلموا أكل العمبة المخللة بالكاري فصدروا عدة براميل منها لسوق حنون في بغداد".
واستذكرنا بأن هذه المفردة ليس غريبة عن أجدادنا العرب، فقد عرفوها منذ عدة قرون وعلى أقرب رواية عام (725) خلال رحلة ابن بطوطة، ولكن معرفتها لا تعني عملها أو تذوفها، مع ان ابن بطوطة شرح كيفية صنعها في بلاد الهند، ولإهتمام العرب سيما في المغرب العربي بتنوع المأكولات، ولشهرة ثمرة المانجو (جوزة العنبة) بما تحتويه من فوائد وهي الثمرة التي تخلل بالكاري، فهذا يعني ان العرب ربما أستخدموها حسب الطريقة التي ذكرها ابن بطوطة، وهذا برأينا الأقرب إلى الصواب.
ذكر ابن بطوطة عن بلاد الهند" عندهم شجرة العَنْبَة (بفتح العين وسكون النون وفتح الباء الموحدة) وهي شجرة تشبه أشجار النارنج إلا أنها أعظم أجراماً (حجما) وأكثر أوراقاً وظلها أكثر الظلال غير أنه ثقيل فمن نام تحته وعك وثمرها على قدر الإجاص الكبير فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه وجعلوا عليه الملح (يخللوه) وصيروه كما يصير الليم والليمون ببلادنا". (رحلة ابن بطوطة1/319). ونفس الرواية وردت عند ـبن الوردي، فقد ذكر" في بلاد الهند شجر يسمى العنباء كشجر الموز وثمرته كالمقل يعمل بالخل فيكون كطعم الزيتون". (خريدة العجائب/132).
ومن المفارقات الطريفة ان العرب عرفوا الخردل أيضا وليس على أقل تقدير عام (375 هـ)، فقد ورد عند المقدسي في حديثه عن الجزيرة العربية" إعلم انها بادية واسعة كثيرة العرب فيها نبت يقال له الفثّ على عمل الخردل ينبت من نفسه فيجمعونه الى الغدران ثم يبلّونه بالماء فيتفتّح عن ذلك الحبّ ثم يطحنونه ويخبزونه ويتقوّتون به". (هامش أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم/252). كما ذكر الأصبهانبي عن بعض أهل الكوفة: دخل عليّ جعيفران، فقال له: هل من طعام؟ فقلت: سلق بخردل، فقال: فاشتر بطيخا، فقلت للجارية: قدّمي الطعام واذهبي فاشتري بطيخا، فقدمت الطعام وذهبت وتباطأت، فقال جعيفران:
سلقتنا وخردلت ... ثمّ ولّت وهرولت . (محاضرات الأدباء1/735)
وجاء في موسوعة الويكيبيديا معلومات خاطئة عن العنبة منها" العنبه العراقية مادة سائلة حارة الطعم منتشرة الاستخدام في الطعام العراقي تستخرج من المانغو، وهي منتشرة في الهند والخليج العربي، ومكونات العمبة هي المانغو، باذنجان، خل، كركم، بهارات حادة، خردل. تؤكل العمبة لوحدها وأحيانا تضاف إلى سندويشات الفلافل أو الشاورما. ظهرت العنبه اول مرة في بغداد وانتشرت في الهند". المانغو لا يستخرج منه العنبة كما جاء في المعلومة، وانما هي فاكهة ويخلل بها، كما ان الباذنجان ليس من مكوناتها، بل أحيانا يضاف لها، وكذلك بالنسبة للخردل فلا علاقة له بها، فمكونات العنبة هي المانجو، والكركم والحلبة والخل، واحيانا يضاف لها قليل من الفافل الحار والزيت. وهناك من يضيف لها الخيار والفلفل البارد او الحار، والباذنجان والقرنابيط والزيتون حسب الأذواق، لكنها إضافات وليس مكونات للعنبة. كما انها تضاف الى لفات الفلافل وليس الشاروما التي يستخدم عادة معها الكجب او صاص التمر. وهي عادة حامضة أو مالحة وليست حارة الطعم، كما أن موقعها الأصلي الهند وليس الخليج العربي، واشتهرت زراعتها في مصر ويقال أن اول من أتى بها الى مصر هو الزعيم احمد عرابي بعد ان عاد من منفاه من سريلانكا عام 1903، وفي رواية أخرى في عهد محمد علي عام 1825، وفي رواية ثالثة أول من زرعها الزعيم القومي إبراهيم باشا عام 1850 وقد جاء بها من جزر الهند الشرقية، وبلغت مساحة زراعتها في مصر(109018) فدانا، وتنتج حوالي (287317) طنا سنويا. كما ان مارود في الموسوعة بأنها" ظهرت العنبه اول مرة في بغداد وانتشرت في الهند" هو العكس تماما.
علي الكاش
841 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع