جودت هوشيار
الكاتب الذي سحر مارلين ديتريتش :
قرأت في عام 1963 – وانا طالب في موسكو – نتائج إستطلاع للرأي بين القراء الروس عن أحب كاتب الى قلوبهم .
وكم كانت دهشتي عظيمة ، عندما تصدر الكاتب الروسي قسطنطين باوستوفسكي القائمة ، التي كانت تضم أشهر كتاب روسيا والعالم .
كنت قد سمعت بأسم هذا الكاتب أول مرة من مدرسة اللغة الروسية في الكلية التحضيرية بجامعة موسكو ، وغلب على ظني حينئذ انه من الكتاب الذين يحظون بمباركة رسمية . ونسيته بعد ذلك تماما . وقد دفعني هذا الإستطلاع الى البحث عن أعماله الروائية والقصصية في متاجر الكتب بالمدينة ، ولكن دون جدوى ، لأن كل كتاب جديد له كان ينفد بعد أيام من عرضه للبيع ، رغم صدوره في مئات الآلاف من النسخ . فما كان مني الا أن أبحث في المكتبة العامة القريبة من مسكني عن نتاجاته . وما أن شرعت بقراءة أعماله حتى سحرني أسلوبه وعالمه القصصي ، الذي يشغل فيه وصف الطبيعة الساحرة لروسيا الوسطى جانباً كبيراً منه ، وهو لا يقص أحداثاً خطيرة أو وقائع عظيمة ، بل يجعل الأحداث الصغيرة ، والأشياء العادية مثيرة للأهتمام .
قسطنطين باوستوفسكي (1892- 1968) كاتب غزير الأنتاج ، كتب عشرات الروايات والقصص الرائعة ، كما كتب للأطفال مجموعة من الحكايات الجميلة ، وحولت السينما الروسية العديد من قصصه ورواياته الى أفلام سينمائية ناجحة .
وقد استوقفتني روايته الرائعة " الوردة الذهبية " ( 1955 ) المكرسة لجوهرالكتابة الإبداعية. وهي على شكل فصول مستقلة ، وكل فصل مكرس للحديث عن تجربة ابداعية معينة للمؤلف .وكما يقول في مقدمة الكتاب ، فأن هذه الرواية ليست بحثا في قواعد كتابة الرواية او القصة ، مؤكداً أنه لا وجود لمثل هذه القواعد ، بل يدعو القاريء الى الدخول في مختبره الإبداعي.
وفي الفصل المعنون " ندوب على القلب " يتحدث عن خلفية كتابة أشهر قصة قصيرة له وهي " البرقية " عندما قضى عدة اشهر في دار امرأة عجوز مريضة ببلدة ريفية ، وتفرغ فيها للكتابة .ولكنه ازال نفسه من القصة ، وكتبها بالضمير الثالث ،واضاف اليها شخصيات من وحي الخيال . والقصة اعمق واغنى من الواقع بكثير. قرات قصة " البرقية " بتمعن ،واعدت قراءتها المرة تلو المرة ، وأنا مأخوذ بأناقة لغة الكاتب وجمال اسلوبه ، وعمق تصويره السايكولوجي ، الذي يحرك مشاعر القاريء ويترك في نفسه أثراً عميقاً، ويدفعه الى تأمل الحياة من حوله برؤية جديدة .
ويبدو أنني لم أكن وحدي من هزتّه هذه القصة السايكولوجية ، فقد كرست المغنية والممثلة الألمانية - الأميركية الشهيرة مارلين ديتريتش ، اسطورة هوليود ، صديقة همنجواي وريمارك ، فصلاً كاملاً في كتاب لها بعنوان " تأملات" (1985)، للحديث عن هذه القصة وكاتبها باوستوفسكي ولقائها بالكاتب في موسكو عام 1964 ، عندما أحيت عدة حفلات غنائية على مسرح " دار الكتّاب .
تقول ديتريتش : " ذات مرة قرأت قصة لباوستوفسكي – الذي لم اسمع به من قبل - بعنوان " البرقية " تركت في نفسي انطباعا قويا ، وجعلتني لا أنسى القصة ولا اسم كاتبها مدى الحياة . لم أعثر على أعمال أخرى لهذا الكاتب المدهش . وعندما سافرت الى روسيا في جولة فنية ، ووطأت قدماي أرض مطار موسكو، أخذت أسأل عن باوستوفسكي .
كان هناك مئات الصحفيين الذين لم يوجهوا لي أي أسئلة غبية من قبيل الأسئلة التي ابتليت بها في البلدان الأخرى . وكانت اسئلتهم مثيرة للأهتمام . استغرق حديثنا أكثر من ساعة ، وعندما وصلت الى فندقي ، كنت أعرف كل شيء عن باوستوفسكي . كان مريضا، وراقدا في المستشفى في ذلك الوقت . وقد قرأت لاحقاً كلا المجلدين لسلسلة رواياته المعنونة " قصة حياة " وكنت منتشية بنثره الفني . قدمنا عدة حفلات للكتّاب ، والفنانين ، والممثلين . واحياناً كنا نقدم أربع حفلات يومياً.
وفي أحد هذه الأيام ، وأنا خلف الكواليس ، أستعد للظهور على خشبة المسرح ، جاءت مترجمتي (نورا) ، وقالت . ان باوستوفسكي موجود في القاعة . لم اصدق ذلك . وقلت : "هذا مستحيل "، فهو يرقد الآن في المستشفي بسبب نوبة قلبية ، كما قيل لي في المطار. ولكن (نورا) أكدت : نعم أنه هنا برفقة زوجته . كانت الحفلة جيدة ، ولكنك لن تحقق ما تنشده ، عندما تحاول بكل جهدك أن يكون أدائك على أفضل وجه . طلبوا مني البقاء على المسرح، بعد انتهاء الحفلة. وفجأة صعد باوستوفسكي الدرج الى خشبة المسرح . ذهلت عندما رأيته شاخصاً أمامي ، وانعقد لساني ، ولم أستطع ان اتفوه بكلمة واحدة بالروسية . ولم أجد طريقة أخرى للتعبير عن اعجابي به سوى الركوع على ركبتي امامه. كنت قلقة على صحته ، وأريد أن يعود الى المستشفي حالاً . ولكن زوجته طمأنتني : " هكذا سيكون أفضل له . لقد بذل جهدأ كبيراً لكي يأتي لرؤيتك " . وقد توفي بعد ذلك بوقت قصير . بقيت لدي كتبه وذكرياتي عنه . كَتَبَ باوستوفسكي برومانسية ، ولكن بوضوح ، ومن دون تزويق . لست على يقين أنه معروف في أميركا ، ولكنهم سيكتشفونه يوماً . أنه من أفضل الكتاب الروس الذين أعرفهم . لقد التقيت به في وقت متأخر جدا.
ويروي بعض الكتّاب الروس الذين حضروا الحفلة ذكرياتهم عن هذا الحادث .وهم يختلفون في بعض التفاصيل ، ولكنهم يجمعون ، بان الجمهور أصيب للحظات بالذهول ، وساد القاعة الكبيرة صمت غريب ، ثم صرخت فتاة داخل القاعة بكلمات مبهمة ، دوّت بعدها عاصفة من التصفيق المتواصل . ويقول هؤلاء الشهود بأن ديتريتش ارتمت على المسرح جاثية على ركبتيها وأخذت تقبّل اليد التي كتبت قصة " البرقية " ، ثم وضعت يد باوستوفسكي على خدها المبللة بالدموع .
كانت ديتريتش ترتدي فستاناً ضيقاً ، ابيض اللون ،وكان من الصعب عليها النهوض ، فساعدها بعض الحضور على ذلك ، ثم خاطبت الجمهور قائلة : " كنت أحلم بلقاء باوستوفسكي ، من اجل سداد دين له في عنقي ، وانا في غاية السعادة لأن حلمي قد تحقق ." ، كان في القاعة العديد من المصورين ، ولكنهم كانوا في حالة ذهول ولم يفطن احد منهم لألتقاط صورة لهذا المشهد النادر سوى احد الحضور ،الذي التقط صورة واحدة ، نشرت فبما بعد في الصحف السوفيتية .
قصة " البرقية ":
تتناول القصة الأيام الأخيرة في الحياة لأمرأة عجوز مريضة تدعى كاترينا بتروفنا ،التي تعيش وحدها في في دار بناها والدها الفنان التشكيلي الراحل في بلدة ( زابوريا ) بعد عودته من العاصمة الروسية القديمة بتروغراد .
كانت كاترينا في شبابها في غاية الجمال والنشاط والحيوية ، زارت باريس مع والدها وعاشت فيها عدة أشهر، وشاهدت جنازة فيكتور هوجو ، وكانت لعائلتها علاقات اجتماعية واسعة بالفنانين والكتاب والشعراء ، اما اليوم فأنها تقضي ايامها في استعادة صور الماضي ، ولولا بنت الجيران " مانوشكا " التي تأتي لأداء الأعمال المنزلية، ولولا عامل الإطفاء ، الذي يهيأ لها الحطب للشتاء الروسي القاسي ، لماتت في غرفتها من البرد والجوع دون أن يدري بها أحد . ادارة البلدية حجزت على الدار بذريعة انها تراثية ، وعلى اللوحات الفنية الثمينة فيها . لكنها لا تبدي أي اهتمام ، لا بالدار ولا بصاحبتها .
ناستيا الإبنة الوحيدة لكاترينا بتروفنا تعيش في لينينغراد ، المرة الأخيرة التي جاءت فيها لزيارة امها كانت قبل ثلاث سنوات . لم تكن كاترينا بتروفنا تراسل ناستيا الا ما ندر، فهي لم تكن راغبة في التدخل في حياة إبنتها، ولكنها كانت دائمة التفكير فيها .. ناستيا ايضاّ لم تكن تكتب اية رسائل لأمها ، وتكتفي بأرسال حوالة مالية لها بمبلغ مائتي روبل كل شهرين أو ثلاثة اشهر .
في اواخر اكتوبر، وفي ساعة متأخرة من الليل، سمعت كاترينا بتروفنا دقات على باب الحديقة ، وذهبت لتفتح الباب ولكن لم يكن هناك احد . في تلك الليلة كتبت رسالة لأبنتها ترجوها ان تأتي لزيارتها .
كانت ناستيا تعمل سكرتيرة لأتحاد الفنانين التشكيليين في لينينغراد ، وكان الفنانون يسمونها " سولفيك " لشعرها الأشقر وعيونها الوسيعة الباردة .عندما استلمت رسالة امها كانت جد مشغولة بتنظيم معرض للوحات فنان موهوب ومغمور اسمه تيموفييف ، ولهذا فإنها دست الرسالة في حقيبتها لتقرأها فيما بعد . الرسالة طمأنتها بأن امها ما زالت على قيد الحياة ما دامت قد كتبت لها رسالة.
عند زيارتها لمرسم الفنان تيموفييف كان ثمة تمثال نصفي لجوجول وخيل اليها بأن جوجول يحدق فيها بنظرة تهكمية ساخرة . انشغلت ناستيا اسبوعين كاملين في تنظيم المعرض . وخلال حفل الافتتاح جلبت ساعية البريد برقية عاجلة لها بتوقيع تيخون :" كاتيا تحتضر". لم تفهم فحوى البرقية على الفور، الى أن قرأت اسم بلدة ( زابوريا ) التي صدرت عنها البرقية .. وكاتيا هي اختصار لأسم كاترينا . كوّمت ناستيا البرقية في قبضتها ، وخيل اليها مرة اخرى ان جوجل ينظر اليها نظرة عتاب وتقريع. وفي مساء اليوم نفسه قررت السفر الى ( زابوريا ) .توجهت الى محطة القطار مشيا على الأقدام ، كانت الريح المثلوجة تضرب وجهها ،ولكنها لم تكن تبالي بها .
كانت كاترينا بتروفنا طريحة الفراش منذ عشرة ايام ، وظلت "مانوشكا" الى جانب المريضة لليوم السادس . ذهب تيخون الى دائرة البريد في البلدة واخذ استمارة برقية ، وفكر طويلا قبل ان يكنب شيئا ما على الاستمارة ،ثمّ جلبها لكاترينا بتروفنا وقرأ في رهبة : " انتظريني .انا في الطريق . إبنتك المحبة دائما . ناستيا " شكرت كاترينا بتروفنا تيخون لكلماته الطيبة واستدارت تحو الحائط وكأنها قد غلبها النعاس.
تم تشييع كاترينا بتروفنا في اليوم التالي ، والذي حضره العجائز والصبيان . وفي الطريق الى المقبرة شاهدت المعلمة الشابة في مدرسة البلدة النعش، فتذكرت امها العجوز، التي تركتها وحيدة في المدينة. اقتربت المعلمة من النعش وقبلت يد كاترينا بتروفنا الصفراء الجافة.
وصلت ناستيا الى ( زابوريا ) في اليوم الثاني لدفن امها . ووجدت بدلا منها كومة تراب على قبرها ، وغرفة فارغة باردة ومظلمة ظلت تبكي فيها طوال الليل .ومع حلول الفجر غادرت (زابوريا ) خلسة لكي لا يشاهدها او يسألها أحد . وخيل اليها ان لا احد يستطيع ان ينزع عنها ثقل الذنب ،الذي لا يمكن اصلاحه سوى امها الراحلة.
هذه هي القصة التي ابكت الكثيرين . وهي قصة كالجبل الجليدي ، لا يظهر منها على السطح سوى جزء بسيط ، والبقية بين الاسطر وما ورائها . باوستوفسكي مثل تشيخوف وهمنجواي يترك القاريء ليكمل القصة ينفسه كل على طريقته الخاصة، اما الكاتب فيكتفي بالتلميحات والتفاصيل الدّالة . ومن هذه التفاصيل ان الفنانين كانوا يطلقون على ناستيا اسم "سولوفيك " وهو اسم بطلة مسرحية " بير جينت " للكاتب النرويجي هنريك ابسن.ومن قرأ هذه المسرحية يعرف المقصود ب" سولفيك ".
ومن هذه التفاصيل ايضا ان كاترينا بتروفنا كانت تحمل دائما حقيبتها اليدوية، وتفتحها بين حين وآخر لتتطلع الى صورتها وهي شابة ، والى صورة ابنتها ، والى بعض الاوراق الرسمية يداخلها . وهذا تلميح إلى أن زوج كاترينا، الذي تجاهل المؤلف الاشارة اليه ربما يقبع في المعتقل وهذه الاوراق تخص قضيته . وثمة تلميح آخر وهو ان كاترينا ، حين خيل اليها ان احدا يدق باب الحديقة ، في وقت متأخر من الليل و ذهبت لتفتح الباب ولم تجد احدأ ، انما كانت تنتظر عودة زوجها. والقصة زاخرة بهذه التفاصيل الموحية .
باوستوفسكي أحد الكتّاب القلائل الذين حافظوا على استقلاليتهم وحريتهم الداخلية ، في ظروف بالغة القسوة في ظل النظام الستاليني الشمولي . لم ينتم الى الحزب الشيوعي ، ولم يكن عضوا في مجلس السوفييت الاعلى ،كما العديد من زملائه الكتّاب . بل أنه لم يكن عضوا قيادياً حتى في اتحاد الكتاب السوفييت. لم يكتب كلمة واحدة في مديح ستالين أو النظام البلشفي ، ولم يحاول التسويق لنفسه بالتملق لذوي النفوذ . وظل ضميره حياً ، يقظاً ، ونقياً . واستطاع أن يحافظ على سمعته ككاتب صادق وانسان نزيه.
لم يترجم شيء يذكر من أعمال باوستوفسكي الرائعة الى اللغة العربية ، رغم أنه ومنذ الخمسينات معروف عالميا ، وترجمت أعماله الى اهم لغات العالم ، وكان في مقدمة المرشحين لنيل جائزة نوبل للآداب لعام 1965 ، بل أن لجنة نوبل أتمت كل التحضيرات لأعلان فوزه بالجائزة ، ولكن الأتحاد السوفييتي مارس ضغطاً دبلوماسياً واقتصادياً هائلاً على السويد ، لصرف النظر عن منح الجائزة لباوستوفسكي . وفعلاً أثمر ذلك عن منح الجائزة الى مرشح الدولة السوفيتية ميخائيل شولوخوف.
1307 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع