صالح الطائي
المكان: مدينة الكوت ... الزمان: 1915 ـ 1916 للميلاد... محور الموضوع: بيت ومقر الحاكم الإنكليزي الجنرال تاونزند....
لا يعرف بالضبط تاريخ بناء هذا المنزل الرائع، ولكن ملامح الطراز العثماني البادية عليه، والشناشيل التي تغطي واجهته العليا، تؤكد بأنه بني في وقت متأخر من زمن الاحتلال العثماني للعراق، وأن المعماريين اليهود (الأسطوات) الذين سكنوا المدينة، وبقوا فيها إلى خمسينات القرن الماضي؛ هم الذين قاموا ببنائه، وبذا قد يكون أقدم منازل مدينة الكوت التي لا زالت شاخصة وبامتياز.
وقياسا إلى الدور المجاورة له، وهي غالبا دور يعود بناؤها إلى زمن لاحق، وتم تشييدها على أنقاض دور قديمة، يبدو الدار مميزا وفريدا بما يدل على أنه يعود لأحد الوجهاء الكبار في هذه المدينة التي لم يكن عدد نفوس سكانها يتجاوز الأربعة آلاف إلا بقليل، لأن الإحصاءات أكدت أن عدد نفوس الكوت في حصار عام 1915 لم يتجاوز الستة آلاف، وبذا يبدو من الغرابة تشييد دار بهذا المستوى الرفيع في مدينة فقيرة اقتصاديا وسكانيا مثل الكوت.
يتكون البيت من طابقين، يحتوي الطابق الأول ثلاث غرف وسرداب، لا زالت إلى الآن بالرغم من تداعيها، تحتفظ بشبابيكها الخشبية القديمة؛ التي تتوسطها زخارف حجرية. أما الطابق الثاني فيتكون من أربع غرف، يمر بجانبها سلم، يؤدي إلى سطح الدار التي كان القائد البريطاني يصعد إليها ليراقب تحرك القوات التركية التي تحاصره.
ولو لم تحدث معركة الكوت بين المستعمرَين العثماني والانكليزي، ولم يتخذه القائد الانكليزي تاوزند مقرا له، ما كان لهذا البيت أن ينال هذه الحظوة وهذا الذكر، بل ما كان مصيره ليختلف كثيرا عن مصير البيت المجاور له؛ الذي كان فيه الجناح الإداري للحامية، كما استخدمه الضباط الانكليز ملجأ أثناء اشتداد القصف عليهم، والذي تمت إزالته ليبنى بدلا عنه أحد البيوت الحديثة نسبيا.
قصة هذا البيت تحولت إلى موروث جمعي مع قدوم القوات البريطانية الغازية من البصرة إلى مدينة الكوت عام 1915 ومرورها بالمدينة في طريقها إلى بغداد.
والتي جابهت عند وصولها إلى منطقة المدائن، قوات تركية ضخمة، أرغمتها على التراجع والعودة إلى الكوت، التي تحصنت بداخلها، بعد أن استمرت القوات التركية بمطاردتها، عجزت القوات التركية دخول المدينة لشدة المقاومة، فقامت بتطويق ومحاصرة المدينة من جميع جهاتها لأكثر من ستة أشهر، مما دفع الجيش المحاصر إلى تفتيش البيوت وسرقة ما بها من مؤن، واضطر الأهالي إلى أكل لحوم الكلاب والقطط والحيوانات النافقة.
في عام 1916 انهارت القوات البريطانية التي أنهكها الجوع ونقص العتاد، فسقطت المدينة بأيدي العثمانيين، بعد أن استسلمت القوات البريطانية. لتنتهي أهم فصول قصة هذا البيت، وتبدأ بعدها فصول أخرى لا زالت تتعاقب عليه إلى اليوم.
من تلك الفصول: أن فرقا انكليزية، كانت تزور البيت سنويا لغاية السبعينات حيث قطعت العلاقات مع بريطانيا، فانقطع قدوم الفرق.
ومنها: أن البيت ولغاية عام 2003 لم يلق أي عناية من أي جهة حكومية أو اهلية، باستثناء اعتباره من المعالم التراثية التاريخية التي لا يحق لأهلها التلاعب بها أو بيعها أو استغلالها لأغراض تجارية وما شابه وفق قانون (الحفاظ على التراث) هذا قبل التغيير وتحديدا منذ ثمانينات القرن الماضي.
ومنها أيضا: أن ما حدث بعد التغيير كان مخيبا للآمال ربما أكثر من خيبة الحقبة السابقة، فبالرغم من صدور قانون الآثار والتراث رقم 55 لسنة 2002 الذي يهدف إلى الحفاظ على الآثار والتراث باعتبارهما من أهم الثروات الوطنية. ويسعى إلى الكشف عن الآثار والتراث، وتعريف المواطنين والمجتمع الدولي بهما، بالرغم من صدوره في وقت قريب جدا من وقت التغيير، إلا أن الدار بقيت مهملة لدرجة أنها الآن آيلة إلى السقوط ولاسيما وأن أهالي المدينة كانوا يتناقلون أخبارا تفيد بان تاونزند قبل استسلامه للأتراك خبأ داخلها في مكان مجهول أموالا طائلة كانت مخصصة لرواتب الجنود والضباط أو دفنها في أرضيتها، مما شجع البعض على التسلل إليها ليلا للبحث عن الكنز مما ألحق ضررا كبيرا بالدار.
أما الفصل الأخير من قصة الدار الحزينة فهو مجرد أمنية لا أظنها تتحقق، فبعد أن خيبت الحكومة المركزية آمالنا، أتمنى قيام الحكومة المحلية في واسط بشراء البيت وصيانته وتأهيله ليكون متحفا تاريخيا للمدينة، يمنح المدينة رمزية تاريخية تسهم في تطوير السياحة فيها، ولاسيما وأنها تضم مقبرتين للجنود الذين قضوا في تلك الحرب، واحدة للإنكليز والثانية للأتراك. علما أن أهل المدينة لا زالوا يستذكرون هذا التاريخ القريب، ومولعون جدا بتتبع أخباره لدرجة أن بعض الأخبار تفيد بان المنديل الخاص لتوانزند؛ الذي عثر عليه بعد ما غادر المكان أسيرا لا زال محفوظا لدى إحدى أسر المدينة داخل صندوق زجاجي.
لكن حينما نجد حكومة تهمل شعبها وتاريخ بلدها، حالها حال من سبقها من الحكام، فليس غريبا عليها أن تهمل تراثه المجيد. ولا عتب لا على الحكومات السابقة ولا على الحكومة الحالية، وهذا أقل ما نتوقعه منهم، بل لو فعلوا خلافه لكنا استغربنا بشدة وتعجبنا بغرابة، ولكننا نعتب كثيرا على الحكومة المحلية؛ التي تبدو مشغولة عن التراث والتاريخ والآثار أكثر من الحكومة المركزية! وكم يحز في نفوسنا أن نرى معالم بلدنا تتهاوى واحدة بعد أخرى مرة بفعل الغباء مثلما فعلت أمانة العاصمة مع البيت التراثي لوزير المالية اليهودي في بغداد، ومرة بفعل الإهمال مثلما هو حال هذا البيت العتيق!.
817 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع