حامد خيري الحيدر
لعل أبسط تعريف لمفهوم الثورة، هي عملية تغيير جذري وشامل في الواقع الانساني القائم، تفرضها ظروف وحاجات ومتطلبات عملية التطور،
يتم على أثرها نقل ذلك الواقع من حال الى حال آخر يتماشى مع مسيرة الرُقي البشري، ويكون له تأثير بعيد المدى في الكيان الاجتماعي... وفق عمومية هذا القول واستناداً الى المنطق العقلي السليم، فأن المسيرة الانسانية خلال تاريخها الموغل في القِدم منذ ظهور طلائع الأنسان الأولى على الأرض قبل عدة ملايين من السنين وحتى يومنا هذا، لا يمكن التصور أنها وصلت الى ما وصلت اليه من ازدهار حضاري ومدني دون مرورها بمحطات تطورية ثورية متعددة، أسهمت بأحداث قفزات هائلة في بنية الأنسان الفكرية والاجتماعية نقلته بثبات الى ما هو عليه الآن... نذكر بعض من المشخّصة أنثروبولوجياً.. (ثورة صناعة الأدوات الحجرية في أفريقيا قبل حوالي 1,750,000سنة)، (ثورة اكتشاف النار في جزر جاوة (شرق أسيا) قبل حوالي 100,000 الف سنة)، (الثورة الزراعية في شمال وادي الرافدين (ثورة أنتاج القوت) قبل 10,000 سنة)، (ثورة الاستيطان المدني في جنوب وادي الرافدين (نشأة المدن) قبل 5500 سنة)، (ثورة التدوين والكتابة في جنوب وادي الرافدين (مدينة الوركاء) قبل 5200 سنة)، (الثورة الصناعية في بريطانيا خلال القرن الثامن عشر الميلادي)........ وصولاً ل(الثورة المعلوماتية التي نعيش مجرياتها اليوم)... ويبدو من تتابع الثورات الانسانية بشتى أنواعها ومُسمياتها وتصنيفاتها، أنها كانت مرافقة ومتلازمة ومواكبة لعملية التطور الحضاري الذي أنتجه البشر، بل كانت المُحفز لنجاحها، لتكون الثورات أحدى السِمات التي مَيزت الأنسان أو (أبن الطبيعة الثائر) كما سماه (دارون)، وأكدت خصوصيته وتفوقه العقلي عن سائر المملكة الحيوانية.
أن الفكر الثوري لا يمكن فهم كيفية نضوجه وتبلوره في عقلية الأنسان العراقي القديم ألا من خلال فهم طبيعة واقعه البيئي والاجتماعي والاقتصادي والظروف العامة التي أحاطت حياته، وطبيعة الارض التي شيد عليها حضارته منذ بداية تكوين مجتمعاته القروية البدائية خلال الألف العاشر ق.م، وفيما بعد عند أنشائه أولى مدنه في أقصى سهل الرافدين الجنوبي... أن قساوة تلك البيئة الموحشة القاسية، المتناوبة بين قحط وجدب محدثة المجاعات تارة، وأمطار غزيرة يهّل معها الخير تارة أخرى، ثم الى فيضانات مُدمرة تُهلك الأرض ومن عليها، قد طبعت شخصية الأنسان الرافديني بنفس صورتها المتناقضة المُتطرفة تلك، من قسوة وغضب الى سَكينة وصفاء، وأجبرته أن يكون عنصراً متفاعلاً معها، ليتطور ذلك التفاعل فيغدو بهيئة صراع محتدم أخذ في معظمه شكل العنف، بين أرادة تلك البيئة وتطلعات الأنسان لأنشاء مجتمعه وكيانه الخاص الذي أيقن أنه لن يتمكن بنائه من دون ترويض ذلك الخصم اللدود واخضاعه لسيطرته، كي ينقل حياته الى واقع جديد يمسك زمام تسيير تفاصيله بيده... ومنذ ثورة الأنسان الزراعية في شمال وادي الرافدين التي ساهمت رغم اعتمادها بشكل كلي على ما تهبه الطبيعة من أمطار ومقدرات أخرى في استقراره اقتصادياً بعد أن جعلت منه كائناً منتجاً، وحتى زمن ابتكاره الكتابة بعد انتقاله الى جنوب وادي الرفدين وأنشاء أولى مدنه هناك، تطلب من الشعب الرافديني تغيير أسلوب كفاحه بشكل يتلاءم مع بيئته الجديدة التي أنتقل اليها، والعمل بديناميكية متصاعدة لكبح جماحها كي يشيد فيها مهد حضارته والمتمثلة باستصلاح الأراضي المغطاة بالأحراش، ومجابهة الحيوانات المفترسة الهائمة فيها، وأنشاء نُظم ومشاريع فعّالة ودائمة للري والبزل، والسيطرة على المجاري المائية لدرء خطر فيضاناتها... وقد أقتضى أنجاز كل ذلك توحيد الجهود البشرية وتجميع كافة الأيدي العاملة في تلك المجتمعات. لذلك فأن الأنسان الرافديني غدا عنصراً ملتحماً بالجماعة والطبيعة، بشكلٍ جَعله لا يستشعر وجوده الذاتي المستقل دون ذلك الواقع الذي فرضته الطبيعة عليه وفق مبدأ (الفرد للكل والكل للفرد)... ورغم محدودية معلوماتنا عن طبيعة تفكير الأنسان ونظرته الفلسفية للحياة خلال تلك الفترة (أي التي سبقت التدوين) والتي لا تتعدى الرسوم والنقوش التجريدية المنفذة على الأواني الفخارية لأغراض طقوسية خاصة، مثل رسوم الثيران والنمور والعقارب والأيائل وأشكال النسوة الراقصات وعمليات الصيد، وكذلك بعض الدُمى المصنوعة من الطين أو الحجر التي مثلت قوى غيبية خفية، بعضها لتقديس الأسلاف وبعضها لعبادة قوى الخصب وأخرى غير محدد أو مفهوم مغزاها، عُملت بأشكال وهيئات متنوعة لأغراض ممارسات طقوسية تعبدية صرفة، والتي تعود لفترات (حلف) و(سامراء) و(العُبيد) اللواتي يمتددن على مدى الألفين السادس والخامس ق.م، وحتى منتصف الألف الرابع ق.م... لكنها أشارت بوضح الى مدى تفكير وتأمل أنسان وادي الرافدين بواقعه الصعب، وفهم حقيقة وجوده الذي لا يمكن تغييره ألا من خلال الثورة عليه، وبينت أيضاً أن الأنسان بمقدراته المحدودة البسيطة آنذاك المتوافقة مع مستوى تفكيره، قد حدد بصور وأساليب عدة الاطار العام لمتطلباته التي أخذت بالتطور بشكل مضطرد مع رسوخ حضارته، وشخّص بدقة خصومته في هذه الدنيا التي قرر اعلان الثورة عليها، والمتمثلة بكل ارادة غيبية أو بشرية، مادية أو معنوية، تحاول خنق تطلعاته وتحجيم طاقته المتنامية لبناء كيانه الفردي والجماعي... وهذا ما يمكن استبيانه فيما بعد بوضوح من الأدب الرافديني بنصوصه المتنوعة (حكمة، ملاحم وبطولات، مناظرات، رثاء، أساطير....... الخ). أن هذا الأدب أضافة الى اعتباره الأقدم بين الآداب العالمية فأنه كان أولى محاولات الأنسان للتعبير عن ذاته وتطلعاته ومستوى تفكيره عن صراعه الدنيوي، بشكل يعّبر عن أحساس شعبي عام وليس من خلال وجهة نظر فردية... لقد واكب ذلك الأدب منذ تدوين أولى نصوصه في منتصف الألف الثالث ق.م (رغم أنه كان أدباً متناقل شفاهياً لقرون بعيدة قبل تدوينه)، قد واكب مع تتابع تطوره لغوياً وفكرياً وفنياً جميع الفترات التاريخية المتعاقبة على البلاد، والمتغيرات الهائلة التي لحقت في هيكلية بنائها الحضاري، والأسس التي بنيَّت فوقها أنظمتها السياسية القائمة على مفاهيم اقتصادية وفكرية (عقائدية دينية) معينة، كذلك التناقضات الكبيرة الحاصلة في بنيّة المجتمع نتيجة التباينات الكبيرة التي حدثت بين مكوناته الاجتماعية، كما أنه تعايش مع حِراك أفراد المجتمع باختلاف خلفياتهم وانتماءاتهم الطبقية مع تلك المتغيرات والتبدلات سلباً أو أيجاباً حسب ما حققته له من استقرار ورفاه في هذه الحياة... كما أن من أهم مميزات الأدب العراقي القديم أنه كان أدباً مُتداخلاً، أي أن النص الأدبي شعراً كان أم نثراً وأن كان يحمل في أطاره العام موضوعاً أو شكلاً خاصاً يهدف الى غاية محددة، لكن بين طياته كان معبئاً بكثير من الموضوعات الأخرى التي من خلال الفهم الصحيح لرمزيتها يمكن افراز أنواعاً عدة من الرفض الثوري للإنسان على واقعه، منها ما يدخل في الجانب الفكري أو العقائدي، ومنها ما يوضح بجلاء التمرد على السلطة السياسية الحاكمة، لكنها جميعاً رسمت شكل ومنهج الثورة على من أمتلك سلطة أعلى من سلطة الأنسان... ومن خلال ما تركه لنا ابناء الرافدين من تلك الكتابات أمكننا التصور أن المفهوم الثوري في العراق القديم قد أخذ منحاً تطورياً منطقياً مُتدرجاً، واكب التغيرات الحاصلة في عقلية الأنسان الرافديني بدأت باكورته مع انبثاق الثورة الفكرية ثم أعقبتها الثورة الاجتماعية، لتكوّنا هاتين الثورتين فيما بعد الأساس الراسخ للثورة السياسة الساعية لتغيير الأنظمة القائمة والمتسلطة على مقدرات المجتمع.
لقد تجّلت باكورة الثورات الفكرية الرافدينية بمحاولة الأنسان قلب المفاهيم السائدة التي فُرضت قسراً عليه، والتي اعتبرت خطاً أحمر لا يجوز المساس به كونه قدراً فرضته الآلهة على بني البشر، كما يتضح ذلك في معظم التراتيل الدينية (أن حكمة الآلهة مثل البحر العميق لا يمكن سِبر أغواره)، لنيات وغايات في دواخلها يصعب على البشر أدراك المغزى منه... أن مثل هذه الأفكار رغم أطارها الفلسفي الديني، ألا أنها في الحقيقة تخفي بين ثناياها أغراضاً سياسية واضحة سعت اليها الزعامات الدينية القبلية التي تولت تسيّير الشؤون العامة للتجمعات القروية البدائية، وفيما بعد عند أدارتها المدن الأولى في بداية نشأتها لتطبعها بطابع ديني متزمت، من أجل السيطرة على مجتمعاتهم الصغيرة من خلال احتواء عقول الناس وتكتيفها بذلك القيد الفكري بعد أن أضفيَّ على هذا الدهاء السياسي صبغة دينية، مانحين الدين طابعاً سياسياً... فتمثلت تلك الثورات بمحاولات التحرر من ذلك الاحتكار الفكري الذي استحوذت المؤسسة الدينية وجعلته في منأى عن عقول عموم الناس المتقوقعين ضمن أطارهم الضيق في مجتمعاتهم الزراعية وانتماءاتهم العائلية... ليبدا ذلك الصراع الثوري عند بدايات التنوع الاجتماعي في هيكلية المجتمع مع ظهور العبيد لأول مرة على مسرح الأحداث في منتصف الألف الرابع ق.م، وهؤلاء كانوا أما من أسرى المعارك التي تنشب مع القرى الاخرى، أو يتم شرائهم أو اختطافهم من المناطق الجبلية، وهذا ما أوضحته العلامة الكتابية الصورية الدالة على العبد، وهي عبارة رمز الانسان (ذكر أو أنثى) والى جانبه صورة جبل... وكان هؤلاء العبيد يعاملون كأشخاص مسلوبي الارادة وفاقدي الأهلية الاجتماعية، فأنيطت بهم الاعمال الشاقة في الزراعة واستصلاح الاراضي وكري الأنهار، بصورة من القهر بعيدة كل البعد عن معنى الانسانية، ليظهر بذلك بداية التنوع الاجتماعي وصراعهما متمثلاً بفئتين غير متكافئتين اجتماعياً (أحرار وعبيد)، ليعقبه فيما بعد مع مطلع الأف الثالث ق.م التنوع الطبقي بسبب تعدد المهن وقبر مبدأ (أنتاج الاكتفاء الذاتي)، فظهر السوق وحاجاته ومتطلباته، وظهرت الحرف الأخرى بمشاغلها وتخصصاتها المتنوعة الساندة للعملية الزراعية، والتي أنتجت بدورها العديد من الابتكارات الحضارية التي ساهمت في تغير ديناميكية تفكير الأنسان الرافديني، وفي مقدمتها ابتكار العجلة... لتظهر نتائج ذلك الانتصار الثوري فيما بعد مع ظهور الطبقة الوسطى المُنبثقة من خضم ذلك التنوع، والتي مزقت قيود ذلك الاحتكار بعد دخولها المدارس التي أنشأت في مطلع الألف الثالث ق.م لتنتزع بذرة الفكر وامتلاكها بعد جهد وصبر ناصية العلم، فأصبحت تقارع الحجة بالحجة مع واضعي (النواميس الإلهية المقدسة)، مؤسسة البدايات الأولى لنظرية (صراع الأفكار) سابقين بذلك (هيكًل) بعشرات القرون... لقد كان في مقدمة تلك الثورات محاولات التمرد والانتفاض على مبدأ قدرية الموت المفروضة على الأنسان والسعي لنيل الخلود الذي احتكرته الآلهة لذاتها، أي رفض التبعية لسلطة الآلهة والتحرر من وصايتها عليه... وقد سار في هذا المسعى الرموز الثلاث الأساسية من مكونات أي مجتمع وهي (القوة والجمال والحكمة)... فكان في المقدمة الشباب الأشداء، المتمثلين بالبطل (كًلكًامش) ورحلاته الخطرة ومغامراته التي جال بها بقاع العالم الواسعة وتحمله المخاطر من أجل قهر الموت والحصول على أبدية الحياة... ليعقبه الرمز الثاني متمثلاً بالفتيات الجميلات الحالمات مرموزاً لهن بإلهة الحب والخصب (عشتار) وكيفية نزولها المحفوف بالمخاطر الى عالم الأموات (العالم الأسفل) من أجل تحرير الموتى وأعادتهم للحياة... ليكون الرمز الثالث هو الأنسان الزاهد المترفع على جماليات الدنيا، والذي مُثل بالشيخ الوقور (أدبا) حكيم مدينة (أريدو) وعروجه الصعب الى السماء حيث موطن الآلهة من أجل معرفة سر خلودها... أن ذلك التنوع في قيادة السعي لمحو هاجس الموت يعطي انطباعاً بأن تغيير الأفكار السائدة كان مطلباً شعبياً يشمل كافة شرائح المجتمع الرافديني... ويتضح ذلك بجلاء من أن الباحثين الثلاث عن الخلود انما أرادوا الوصول لسر الخلود من أجل جميع بني البشر ولم يدر بخلدهم احتكاره أو المساومة به لأنفسهم، وهذا ما قاله (كًلكًامش) صراحة عند أيجاده نبتة الخلود (سأحملها معي الى (أوروك) ذات الأسوار.. وأشرك معي جميع الناس ليأكلوا منها)... وعلى الرغم من فشل جميع تلك المحاولات (الانتفاضات)، لكنها استخدمت بذكاء حاد نفس السلاح الموجه الى عقلية الناس.. فاذا كان الموت هو ما مُقدر على البشر ودنياهم فهو كذلك مُقدر على الملوك والحكام وأنظمتهم الحاكمة أيضاً مهما بلغوا من قوة، بمعنى آخر أنها قطعت الطريق أمام أولئك الحكام (ولو نظريا) ليترفعوا عن جنسهم الآدمي، كما أنها أعطت في ذات الوقت البديل المناسب لسمو الأنسان من خلال تخليد نفسه ومجتمعه حضارياً... ولو انتقلنا الى المرحلة الثانية ألا وهي الثورة الاجتماعية لرأينا أن أبن الرافدين بعد قناعته باستحالة الخلود وحتمية الفناء أخذ يتمسك بواقعه بشكل كبير، رافضاً منح حياته التي لن يعيشها مرتين لأي سلطة كانت مُصّراً أن يحيا تلك الحياة باستقلال وكرامة، موجهاً نظره الى المستقبل المعنوي وما يرمز اليه بتجدد الحياة، فغيّر مسعاه ليبّشر بفكرة التطور الانساني من خلال نبذ كل ما هو عتيق وبالي ولا يتفق مع المتغيرات الجارية في الحياة اجتماعياً واقتصادياً... حول ذلك طرح أفكاراً غاية في الشجاعة لاتزال تطرح وتناقش حتى يومنا هذا، بل أن بعض مجتمعاتنا العصرية تخشى حتى الخوض فيها، صوّرها الفكر الرافديني بشكل صراع محتدم بين اضداد، وهذه الافكار هي... صراع الأجيال، والصراع بين البداوة والتحضر، وصراع الأنسان ضد الفقر والقدرية الاجتماعية... لقد كانت قصة الخليقة البابلية التي دونت في مطلع الألف الثاني ق.م أوضح مثال على ذلك الصراع بين الجيلين القديم والجديد، الذي وصل حد الثورة والاقتتال الدموي بين الآلهة القديمة العجوز التي تقودها الإلهة (تيامات)، وبين الآلهة الشباب التي تزعمها الإله (مردوخ)، والذي انتهى في النهاية لصالح جيل الشباب الذي تولى بناء الحياة على أنقاض الفكر القديم، مؤكدين بذلك أن الحياة لا يمكن بنائها ألا وفق مبدأ التطور... كما كانت واحدة من أهم نتائج انتصار هذه الثورة هو عملية خلق الأنسان من أجل أن يُعمر هذه الأرض، مُبينة فكرة فلسفية رائعة مفادها أن المخلوقات البشرية ما وجدت ألا كنتاج منطقي لعملية التطور الثورية... واذا ابتعدنا عن رمزية عوالم الآلهة وانتقلنا الى العالم الواقعي حيث حياة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية، فهناك مثال يعكس بوضح ذلك الصراع لكنه أكثر جرأة ووضوح وسلمية، ورد بشكل رسالة شكوى أبن على أبيه تعود الى فترة حكم سلالة أور الثالثة 2113_2006 ق.م، نذكر بعض مما ورد فيها.. (لقد أتعبني أبي.. هو لا يدعني أعيش كما أريد.. أنه يجبرني على الذهاب الى المعبد.. ويجبرني على أعمل نفس عمله وأرتدي نفس ملابسه.. ويجعلني دائماً أن أعيش مثل حياته وحياة أبيه.. متى يعرف أبي أن الدنيا قد تغيرت، وأن هذا الزمن هو غير زمانه وزمان أبيه.. سوف لن أطيع أبي وأهاجر الى مدينة ثانية)... ما ابلغ ما جاء في هذه السطور، أليست الثورة بعينها هي رفض الطاعة والانصياع للمفاهيم البالية؟؟ ولربما قد يصعب التصور أن هذا الكلام قد قاله أبن الرافدين قبل أكثر من أربعة آلاف عام... كما يأتي في سياق الثورة الاجتماعية أيضاً ذلك الصراع المحتدم بين مرحلتين في سُلم التطور الحضاري للإنسان، هما (البداوة) بما فرضته على الأنسان بعدم الاستقرار ومن ضيق في الأفق والتفكير، نتيجة اعتماده بشكل كامل على الطبيعة خاضعاً لنزواتها ومقدراتها كي تجود بعطاياها عليه، ليكون في ترحال وتجوال دائمين، وبين النقيض التام من كل ذلك ألا وهو (التحضر) بقراه ومدنه المستقرة، وما يجلبه للإنسان من رخاء اقتصادي وتطور ونضوج عقلي خلاّق جعل الأنسان في سباق مع الزمن لتعمير حضارته... وهذا نراه في المناظرة الكلامية البليغة بين الراعي (تُموز) الذي يمثل البداوة وبين رمز التحضر الفلاح (أينكمدو) التي تعود الى أواسط الأف الثالث ق.م، وكانت بهدف كسب حب رمز الخصوبة الإلهة (عشتار) التي تقول.. (أنا العذراء.. سوف لن يتزوجني سوى الفلاح.. الفلاح الذي يجعل النباتات تنمو بوفرة.. الفلاح الذي يجعل الغَلة تنمو بغزارة)، وفي مكان آخر من النص يقول (أينكمدو) ل(تُموز)... (في أرضي المزروعة دع غنمك تسرح.. وفي حقولي الخضراء دعها ترعى.. ومن جداولي المُنسابة دع جديانك وحملانك تشرب الماء)... وكان من نتاج ذلك التمايز الطبقي الذي أخذ يترسخ في بنية المجتمع الرافديني منذ مطلع الألف الثالث ق.م، ظهور الفقر ومظلوميته القاهرة تزامناً مع سيادة نظام الاقطاع خلال تلك الفترة التي كان المعبد عرابه الأول الأقوى، مستنداً بذلك الى قاعدة دينية قديمة مورثة من الحقبة القروية القبلية السابقة، زرعوها في عقول البسطاء لتخدم مصالحهم أولاً وأخيراً، مفادها (أن الارض هي مُلك الإله) أي أن العمل في الأرض هي في المقام الاول خدمة للآلهة وهو عمل بالغ القدسية (له أجره عند الآلهة)... وقد تمت شرعنة تلك الأفكار بعد النمو الكبير للمدن وغدت بشكل دويلات متحاربة كل واحدة تتبعها عدد متفاوت من القرى بما استحوذت عليه من الأراضي الزراعية نتيجة تلك الحروب، وكانت هذه النزاعات أحد أهم صفات الفترة المُسماة عصر فجر السلالات 3000_2370 ق.م... عند ذاك غدى حجم فئة العبيد لا يتناسب مع متطلبات ذلك النمو، وظهور الحاجة الى أيادي عاملة أخرى من طبقة الاحرار لتمتد الأيادي اليها. وبطبيعة الحال كانت الطبقة الفقيرة من المزارعين والمُعدمين هي الحلقة الأضعف في المجتمع رغم صفتهم القانونية كأحرار، مستغلين فقرهم وفاقتهم ليكونوا ضمن قيد الاستغلال هذا، وذلك مقابل مواد عينية شحيحة لا تكاد تسد الرمق، تُمنح بشكل جرايات خلال فترات معينة من العام لأولئك البائسين الذين سموا في السومرية (كًوروش)، والتي لا تتعدى بضعة أكيال من الشعير والحبوب الأخرى، أضافة الى بضع جرار من الزيت والنبيذ البخس... ليُجعل من هؤلاء أقناناً أشبه بالعبيد مسلوبي الحرية والارادة بعد أن تم تجريدهم من قوَتهم الاقتصادية بالكامل، حتى أنهم لقبوا في السومرية (أيكًينودو)، وتعني الشخص الذي لا يستطيع رفع رأسه الى الأعلى أي (الذليل)... وقد صوّرت النصوص المسمارية بعض من تلك المعاناة القاسية لهؤلاء المظلومين.. (الفقراء هم الصامتون وحدهم في بلاد سومر)، (أولى بالفقير أن يموت من أن يعيش، فاذا حصل على الخبز عدم المأوى، واذا حصل على الملح عدم الخبز، واذا كان لديه بيت عدم الفراش).. (لكي يعيش الفقير فأنه يبيع أولاده)، (يلبس الفقير دوماً الملابس القذرة)، (يقترض الفقير فتركبه الهموم)... من كل هذا الجَور حتماً كان يتولد الرفض لتلك القدرية القاهرة البعيدة عن العدالة التي فُرضت على هؤلاء المُستضعفين دون أية مسوغ أخلاقي، لتتم ثورتهم على ذلك الحال الذي أرسخت قواعده السلطة الإلهية بعد أن أوصّلتهم الى حالهم المُزري الذي جَردهم الصبر والشعور الانساني... لنقرأ ما يرد في النصوص الأدبية التي أشارت الى رفض صريح لإرادة الآلهة.. (ليس كل أولاد الفقراء مُستسلمين خانعين لأوامر الآلهة على الدوام)، (ما جدوى الصلوات والقرابين اذا بقي الفقير على حاله)، (رغم تعبدي فقد كتب عليّ إلهي الفقر والبؤس.. منذ الآن سوف لن أنصاع لأوامر الآلهة، وسوف أدوس على شعائرها بقدمي)... ويتضح من ذلك أن الاحتجاج على مُقدرات الآلهة بسبب ازدواجيتها في توزيع الرفاه الاجتماعي ما هو في الحقيقة إلا رفض للواقع السياسي الذي يقوم على أساس الأيمان بوحدة الحاكم والإله المُستند الى قاعدة التفويض الإلهي... لكن أبلغ ما يوضح صراع اولئك البائسين هي تلك الحكاية الهزلية التي يعود زمن تدوينها الى فترة سلالة أور الثالثة، والتي عرفت باسم (فقير نفر).. ببطلها الفقير المُعدم (كًيمأيل ننورتا) الذي لا يمتلك أي شيء في هذه الدنيا سوى بؤسه، لكنه رغم ذلك أستطاع بذكائه من قهر وأذلال حاكم المدنية المُتسلط بما أمتلكه من قوة وجبروت، وتمكنه من استرداد حقه المغتصب أضعافاً مضاعفة. أن اهم ما بينته هذه الحكاية أن مفهوم العدالة حق للإنسان وليس منّة أو هِبة تمنح له من قبل أحد، وأن على الأنسان ان يثور ضد من يبغي سلبه ذلك الحق.
1182 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع