عباس عبد جاسم
من الخطأ اختزال التحوِّل الشعري في "أولئك أصحابي" للشاعر حميد سعيد (1) الى مجرد شكل شعري جديد للقصيدة ، وإنما هو تحوِّل في الرؤية الى الذات والقصيدة والعالم .
لهذا قبل أن يتحوّل الشاعر حميد سعيد بـ ( اتجاه أفق أوسع )(2) كان يؤسس لكتابة شعرية تتجه بقوة الاختلاف مع الجماعة الشعرية التي ينتمي إليها بصيغتين:الامتداد المتجاوز لها، والخروج عليها كلياً– بجماليات جديدة ، على وفق ما يسميه فيليب لوجون بـ " اتجاه الوعي" .(3)
وفي مساق " اتجاه " هذا " الوعي" ، يحقق كتاب "أولئك أصحابي " حيازة جديدة بامتلاك قوانين عمل جديدة للقصيدة ، يمكن الاصطلاح عليها بـ " الانتصاص الشعري" . (4)
ولكن ينبغي توجيه انتباه القارئ إلى أن حميد سعيد لم يستخدم السرد كآلية في [ قص الأثر الشعري ] في القصيدة ، ولم يتخذ من الشخصيات الروائية أقنعة شخصية أو لا شخصية له ، ولكنه اتخذ من " إنتصاص القصيدة " للشخصيات والروايات [ المؤمثلة ] بنية إطارية لها ، وجعل من (الأنا الشعرية) هي المركز، وما عداها مدارات بأدوات ما وراء نصية .
وقبل ملاحظة أو معاينة (الإنتصاص) في الكتابة الشعرية ، ينبغي توجيه انتباه القارئ أيضا ًإلى أهم أدوات " اتجاه " هذا " الوعي " في موجَّهات القراءة التي وضعها حميد سعيد- كعتبات نصية لنوعين من آليات التمثّل الشعري:
أولا ً: شخصيات مؤمثلة
ثانياً: روايات مؤمثلة
إذا ًنحن إزاء عمل( متداخل/ مركب/ ملتبس) تتشاكل فيه شعرية التمثّلات الشخصية والروائية بحيوات متجدّدة بين جدار وآخر من مجريات اللغة ، وبين جسم وآخر من مدارات السرد .
ومع " اتجاه الوعي" بقوانين عمل (الإنتصاص الشعري) ، ينبغي إعادة تعريف الشعر:
هل مازال ( الشعر رؤيا)؟وهل يمكن تعريف الشعر بوصفه ( لغة)؟
لم يعد الشعر يحتفظ بهذا التعريف أو ذاك ، فقد تعرّضت القصيدة الى تغيير جذري في الماهية، والوظيفة، والمفهوم، فالشعر يتقوّى بالقلق، ويتجدّد بالتغيير ويتخصّب
بالإنفتاح على الأجناس المجاورة .
ولكن ما يهمنا أكثرفي تعريف الشعر؛ علاقة القصيدة في " أولئك أصحابي" بحساسية نص ما بعد الحداثة:
من أين يبدأ جنس القصيدة ؟ ولماذا أصبحت حدود الجنس مفتوحة ؟ وما دلالة إنتصاص القصيدة؟ وما طبيعة علاقة القصيدة بذاتهاالاجناسية ؟
وقبل مقاربة هذه التمثّلات، ينبغي أن نعرف بمعنى أعم: مالمقصود بــ(التمثيل) ؟
وأن نعرف بمعنى أخص: ما المقصود بـ " تتمثل القصيدة ..." على حد تعبير حميد سعيد في موجِّهاته القرائية التي مهّدت الى قصائد "أولئك اصحابي" كعتبات نصيّة ؟
يذهب المصطلح السردي الى أن ( التمثيل) هو: الإظهار أو العرض في إصطلاح تودوروف، و(التمثيل) بالنسبة للسرد هو كالإظهار بالنسبة للإخبار. (5)
كما يشير(التمثيل) إلى استحضار الغياب من خلال الحضور، كتمثيل السرد للتخييل، وهذه " الخاصية التمثيلية الي يتميّز بها التخييل هي ما تمنحه صفته السردية ".(6)
كما ان (التمثيل) مجاز مركب، والقصيدة المجازية المركبة قصيدة ( هرمسية) ملتبسة من حيث الدلالة والشكل والرؤية .
وإن كان(التمثيل) كـ ( المحاكاة)، فهل" أولئك أصحابي"محاكاة روائية؟
وإن كان غير ذلك ، فما نوع وطبيعة ومستوى تمثّلاته الشعرية ؟
إن (الإنتصاص الشعري) في" أولئك أصحابي" ، يقوم على إنتصاص القصيدة لدلالة الشخصية الروائية أو دلالة الرواية من خلال استكناه (روائية الرواية ) برؤية شعرية قائمة على قراءة شعرية طباقية. (7)
وان كان ثمة تمثيل للشخصية الروائية، وتمثيل للرواية ، فما درجة تحكّم الشخصية أو الرواية بــ ( اتجاه حركية القصيدة ) كبنية إطارية لها ؟
وإن كان سرد التمثيل" سرد محايد خال من أية بؤرة " (8) فهل السرد التمثيلي : محايد أم متحيّز في " أولئك أصحابي" ؟
تشتغل قوانين عمل "أولئك اصحابي" على مبدأ نفي المحاكاة الروائية - للشخصية أو الرواية بجماليات المجاورة والمحاورة ، لإنتاج قواعد إحالة روائية بدوال شعرية جديدة .
وبذا فإن " أولئك أصحابي " لايُعنى بـ ( التمثيل) كـ (محاكاة ) ، وإنمايُعنى بـ ( الواقعي كبعد أنطولوجي ) ، لهذا " ينطلق التمثيل من مبدأ معادلة الرمز بالواقع "(9)وليس بالعكس.
وإن كانت قصيدة ما بعد الحداثة ، قد ركّزت على تقنيات الخلط والمزج بين الأشكال، وما تفرّعت عنهامن مصطلحات مترادفة نسبيا ً كــ " التهجين والتجنيس وإلاجناسية النصية " ، فإن كل قصيدة من " أولئك اصحابي" لا تقوم بتهجين أو تجنيس أو تشويش هويتها الإجناسية الشعرية ،وإنما تقوم بتأسيس ميثاق علائقي أو تعالق بنائي بما يتعدى ( اللعب الحر بقواعد الاحالة) ويتجاوزه بالدوال المدركة ، وهي دوال ذات طبيعة (كسورية)، أي أنها تتعرّض الى انكسارات مستمرّة بقوة التخييل ومقاومة الواقع ، قبل أن تتّمثل مدلولاتها المرجعية ، ومع ذلك فهي تنتمي بقوة ( الإنتصاص الشعري) إلى حساسية نص ما بعد الحداثة .
ولكن هل مازالت كل قصيدة جنس بذاتها أم أن القصيدة نص قائم على استغلال علاقات التجاور– Juxtaposion ، بين الشعر وأجناسه ؟
وبغية معاينة السمات التي تخوصنت بها (القصيدة المؤمثلة) بــ (الإنتصاص الشعري) من حيث الكيفية التي تتمثّل فيها الشخصية الروائية ، والكيفية التي تتمثّل بها الرواية ، لابد من الفصل بين هذين النوعين من التمثّلات من الناحية الإجرائية :
•الشخصيات المؤمثلة
تندرج ضمن هذه التمثّلات : تجليات الماء/ يسأل عوليس .. الى أين سأمضي؟/ جحيم أنّا كارنينا.. وفردوسها/ ملهاة الدكتور زيفاغو/ قيامة مدام يوفاري/ ثم وجد الكولونيل مَنْ يكاتبه/ ربما كان زوربا/ مارواه الفتى الأزهري عن سي السيد/ سيدي حامد بن الأيّل يبحث عن دون كيخوتيه .
ولغرض المعاينة النصية ، آثرنا إختيار ثلاث عينات لـ " بنينة " الإنتصاص الشعري لدلالة الشخصية الروائية :
1. ينبني الإنتصاص في قصيدة ( وجد الكولونيل مَنْ يكاتُبه) على إستثمار معكوس الاحالة الى رواية ( لم يجد الكولونيل مَنْ يكاتبه) لغارثيا ماركيز، حيث يكاتب الشاعر الكولونيل،ولكن الكولونيل لم يرد عليه ، وكأنه صار لا يتذكّر في تداعي ذهن الشاعر:
ــ مذْ صار لا يتذكّر أنَ له مَنْ يكاتبه ص 71
ــ وكتبت ُإليه .. مُثنىً .. وكررّت ْ ..
ماجاءني منه رد ص7
لهذا يقوم الشاعر مقام الاستعارة ، مما يستدعي الكولونيل بشعرية مأهولة بالتخييل:
أيُها الكولونيل الخرافيُّ... يا كومة ً من عظام ٍ وجلد عتيق ْ
أنَّ جموح البلاغة أعطاك هذا الحضورْ
أحرجني .. بين جوع ٍ مُذلٍّ وسَمْتٍ وقورْ 76
وسواء كان الكولونيل : أداة أو ثيمة أو موضوعة ، فهو مدار الرواية ، أمّا الشاعر وإن كان يشكل مركز هذا المدار ، فهو نظير موازي له ، وهنا تكمن جمالية ( الإنتصاص ) بوصفها جمالية خلافية مع ( التناص) :
تخيّلتُه بانتظاري ..
وكنت سأسأله عن بلاد جفته ُ
فبادرني بالسؤال
أأنت الذي لم يجد في البلاد ... بلادا ً..
ففارقها ؟
قلت ..لا
لم أفارقْ .. فقد سكنتني بلادي 72
.2تنتص قصيدة ( مارواه الفتى الأزهري عن سي السيد ) من رواية " الثلاثية " لنجيب محفوظ كبنية إطارية لها ، قبل أن تنتص من شخصية ( الفتى الازهري– احمد عبد الجواد ) كدلالة روائية ، وبذا يشكل عنوان القصيدة ( وحده) المفتاح الرئيسي في تدوير دلالات الرواية من خلال ( الشاعر والفتى الازهري) ، وهما يمثلان ( بؤرة السرد) التي تنبثق منها :(المرسلة الشعرية) ، وبذا استخرجت القصيدة دلالات حافة من(روائية) الروايةالى حيّز الفعل والتأثيربدرجةعالية من التكثيف والتركيز والتوهج الشعري:
لم أجد في هذه الليلة أصحابي..
وكنا نلتقي في مسجد الحيِّ ..
وقد أرهقنا الدرسُ المسائيُّ
تخففْتُ من العِمّة والجُبّة .. بالجلباب
صلَّيتُ .. وواصلتُ طريقي
قبل أنْ أدنو من الميدان ..
سلّمت ُ على جارتنا.. بائعة التمر ِ
دعتْني .. مثلما تفعلُ
أن ْ أحكي لها عما تعلَّمتُ.. وماأحفظمن آي الكتاب..ص87
إذا ً تتمثّل قصيدة ( ما رواه الفتي الأزهري ...) طبقة جديدة من التخييل الشعري ما فوق الرواية –Surfiction ، إذ تختفي فيها الحدود بين المروي بضمير المتكلم والمروي بضمير الغائب .
3. تقوم قصيدة( ملهاة الدكتور زيفاكو) على الإنتصاص من رواية (الدكتور زيفاغو) ليوريسباسترناك ؛ بنص آخر موازي له بجدل طباقي:
( نص زيفاغو/ نص الشاعر) ، وهما ينتمان الى ( زمنين/ مكانين ) يستدعي أحدهما الآخر في بؤرة يتشاكل فيها إنتصاص القصيدة مع التطريس القائم على ( كتابة جديدة فوق كتابة ممحّوة ) بصيغة مغايرة له ، لأنّ الإنتصاص هنايقوم بـ( تحيين) الماضي الشخصي لزيفاغو في حضور الشاعر كنص قائم على نص آخر بقوة التخييل ( المؤمثل) في مقاومة الواقع ، ويمكن التمثييل لهذا التعالق النصي بالسطور الآتية :
-يطرده الملكيّون والفوضويون ص47
-يطارده ماتخيّل من صورة ٍللبلاد ِ
ويطرده مَنْ تخيلهم أمناء على ما تخيّل َ.. ص50
-أرهقته الحروب ص52
-يتغيّر كل ما حوله وهو كما كان
-أي معجزة ..
ستفكك هذا التداخل بين الخراب وبين الخراب
بين شدو اليمام وبين عواء الذئاب ؟
-كان يبحث عن كل ما ضاع من .. قصائده والبلادْ
أسرته وحبيبته ص55
•الروايات المؤمثلة
.1يقوم الإنتصاص في قصيدة ( الأخوة كرامازوف) على إعادة كتابة المقروء بقراءة شعرية طباقية ، تنحل فيها(الحبكة الناظمة للتهيكل السردي) الى فضاء شعري، يتملحم فيه نسيج القصيدة بقصد ذي شكل دال .
ولفحص منظومة الإنتصاص الشعري للقصيدة ، آثرنا الانطلاق من إختيار مقطع لإختزال الرواية للاستدلال على قدرة وامكانية إنتصاص القصيدة على شعرنة حجم الرواية بقوة التخييل العابر لمتاهات الرواية :
أبٌ فاجرٌ وثلاثة أبناءْ
الابيقوري والمتعالم والمتصوفْ
كل له حلم يتآكل في عالم عطن ٍ
مثل تفاحة فاسدهْ
هذا هو مركز الإنتصاص الذي تنطلق منه القصيدة من حيث : ( فضاء القصيدة مع فضاء الرواية ) و( الموت والخراب) و(الوقاحة مع الجبن في رجل واحد ) و( البراءة مع العهر في إمراة واحدة) و(الحياة مع الموت) و(العبيد مع أسيادهم ) و( طقوس الكتابة مع طقوس الرياء ) .. تلك هي ( النقائض) التي إنتصت منها القصيدة من خلال شفرات الموت والخراب :
هي أقدارنا ..
يُقبُلُ الموت مقترنا ً بالخراب .. والشكِّ
وهو يُرافقنا حيث كُنّا ..
ويسكن أحلامنا ص 118
وقبل ذلك ، إن كان هدف الشعر( رؤيا العالم)(10)، فإن القصيدة تؤسس لـ( رؤيا جديدة للعالم) بقوة الإنتصاص العابر للتناص .
وإن كان هدف اللغة( إنتاج رسالة) (11) فإن لغة القصيدة رسالة جديدة للعالم في مقاومة تصدعات الذات وتشققات الكينونة بقوة التخييل الشعري لزمن ومكان الرواية من جهة وزمن ومكان القصيدة من جهة أخرى :
هي أقدارنا ..
وكأن ّ الرئيَّ السُلافيَّ أنبأنا بالذي
سيكون لنا
أمما ً وأناسا ً
فكُنّا .. كما كان أولئك الضائعونْ
في ما أُعدً لهم من مصائر مربكة ٍ..
من خلال هذه القراءة لــ( روائية) الرواية، لم تعد واقعة الشاعر واقعة فردية ، وإنما هي واقعة مجتمعية من حيث الخراب والفقدان والاغتراب :
كلّهم يدَّعون محبته .. ويظلُّ وحيدا ً
ويتبعهم جيث كانوا .. ويبقى وحيدا ً
تتجلّى بصيرته .. فتطلُّعليه البلاد
بأسمالها ...
وعقابيلها
أي معجزة ستُعيد الى الارض ...
ما كان في غدها من بهاءْص117
2 . تتمثل قصيدة ( لم تشرق الشمس .. ثانية ) رواية ( ثم تشرق الشمس ثانية) لأرنست همنغوي على نحو مفارق لعتبتها الإجناسية ، لتشكيل منطق آخر للرواية بقصدية شعرية تنفي المعيار الاعتباطي في إختيار التسمية ، وبذا فإن النص الذي إنتصته القصيدة من العنوان ( لم تشرق الشمس .. ثانية) بؤرة شعرية تنبثق عنها مستويات( تجاورية/ تحاورية) متعددة ، منها :
في النزل ِ الريفيِّ تعارفنا
رسام بوليفي ومصارع ثيران معتزل ٌ
وأنا وإمرأة سمراء
تقول ..
رأيتك من قبل بمقهى الدار البيضاءْ
وتشيرُ الى طاولةٍ في أقصى الصالة ..
كان هنا يجلس همنغواي .. يكتب في كل مساءْ
صفحات .. ص 64
من هنا أوجِّه عناية القارئ الى الكيفية التيإنتصت فيها القصيدة من( روائية) الرواية وليس الرواية ، في نقاط معينة، منها :
•المفارقة
-ذات ضحى يستقبلنا بدروبروميرو..وتحدّث عن بدرو بروميرو ص65
-ويقول الرسام البوليفيِّ ..
كنت محاطا ً بالرسامين والشعراءْ ؟
فيصمت ..ثم يقول ..
لا أتذكّر إنّيكنت محاطا ً بالرسامين والشعراء ص 68
•لعبة الضمائر في الحضور والغياب
-مَنْ هو هذا لاأعرفْه ُ
وتحدثنا عن همنغواي ..
فقال ..
هذا الأمريكي المتطفِّلُ .. ص65
-وأنا مذ غادرتُ الميدان
أبحث عنها في كل مكانص 67
•موقع الشاعر الراوي ، وصيغ الروي الأخرى
-في الليل نرى إمرأة .. ولّت شمس أنوثتها
في بار النزل الريفيِّ ..
وحدّثنا النادل عنها.. إذ ْ نأتي حين يحلُّ الصيفُ
وتسأل عن رجل كان هنا ..
تحكي عنه إذا سكرت ْ
فإذا قيل لها لن ْ يأتي ..إمتعضت ْص 69
ولكل ذلك ، فإن السر الذي تحتفظ به القصيدة بذاتها ، ولكن ليس لذاتها هو : لماذا ( لم تشرق الشمس ثانية ؟) .. تلك هي الشفرة المضمرة التي تنتص منها القصيدة لتتحدى بها وعي القارئ !!
3. تنتص قصيدة ( صمت البحر ثانية ) من رواية ( صمت البحر) لفيركور بقراءة ثانية ، لإستكناه الغياب ، ومن ثم الاندلال عليه ، فالاحتلال الأمريكي لبلاد الشاعر يستدعي الاحتلال النازي لفرنسا، والشاعر هنا يستدعي أيضا الرسام جان بيريلير " فيركور " و " ورنرفون " وهم أبطال الرواية .
ولابد من توجيه ألإنتباه الى أن ثمة إشارة بالغة دالة على زمن ضائع بأثر شعري :
-قبل أن يدخل الجنود إليه ..
على غير ماكان
إذ لم يجد ساعة الجدار طالما شاركته الليالي ..
الى الفجر ص 96
إذا ً الى مم تشير دلالة الساعة المفقودة في زمن الاحتلال ؟
ذلك هو الوجه الآخر من الدلالة !!
ثم تنتص القصيدة من فضاء القصيدة :
هذا الحطام الذي يملأُ الأرضَ
كان فضاء القصيدة ص 97
وبذا تنفتح القصيدة على ذاتها :
قبل أن تبدأ القصيدة – كطقس الحِدادِ
رأى الضابط الأمريكي .. مُرتبكا ً
ضائعا ً في تضاريسها ص 98
ولم يكفّالانتصاص عن إنجاز وظيفته في القصيدة ، فقد راحت القصيدة تنتص من مرموزات الغياب :
رجل ُ غائب وظلالُ إبنةٍ غائبهْ 98
ثم يتسع الانتصاص برؤية أوسع ، حيث الانفتاح على ما تبقى من الدلالات الحافة للاحتلال :
لماذا يجئ الى بيته الضابط الامريكيُّ ؟!
ماذا جرى ..
يرى أصابع العريف الملّون ..
تعبث بالمعجم العربيِّ ؟!
يدوس ببسطالهكتب الجاحظ وابن المقفع وإبن هشامْ ص98
ثم يجئ – ورنرفون– بعد أن غاب العريف الملوّن والضابط الامريكي ليبدأ الوجه الآخر من الرواية :
ايُّها الهادي النحيل... كيف وصلتَ
وكيف إرتضى صاحباك .. باخ وموزارتْ
أن يشهدا ما شهدت ؟
يمد الرصاص مخالبه في النشيد الألهي ..
أو في المقام العراقي .. ص 102
وما يعنينا من هذا الانتصاص الشعري؛ الكيفية في إنتاج رؤية جديدة لرواية ( صمت البحر) ، بقراءة شعريةطباقية ، يتشكل فيها الزمن والمكان بصيغة متوازية بين الإحتلال الأمريكي والأحتلال النازي، من دون تأويل مفرط لأي دلالة فائضة عن المعنى .
.........
إن هذه الشخصيات والروايات [المؤمثلة] تتجاوز فكرةإستنساخ الشخصية أو محاكاة الرواية ، لأنها إنبنت على (إنتصاص شعري) قائم على إكتناه دلالة الشخصية الروائية ، وإستكتناه ( روائية ) الرواية من خلال قراءات شعرية تتحكم فيها قوانين شعرية جديدة من ( الانتصاص) ، تتجاوز قوانين شعرية ( التناص) بما يجعل القصيدة بنية إطارية للنص بالأساس .
وان كان ( الانتصاص) غير( التناص) ، فهل( الإنتصاصالشعري) في " أولئك أصحابي" : خاصية حداثة أم خصيصة حديثة ؟
هذا ما ينبغي التفكير به ، قبل لحظة الحمل بالاجابة عليه .
•إحالات وإشارات
(1) حميد سعيد/أولئك أصحابي/ الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين بالتعاون مع بيت الشعر الفلسطيني/ ط1/ 2016.
(2)حميد سعيد/ باتجاه أفق أوسع/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ ط1/ 1992 .
(3) فيلب لوجون/ السيرة الذاتية – الميثاق والتاريخ الأدبي/ ترجمة وتقديم عمر حلي/ المركز الثقافي العربي/ بيروت/ ط 1/1994.
(4) نعني بـ ( الإنتصاص الشعري) – والذي يُعنى بـ (إنتصاص القصيدة ) ضمنا ً: ما يجعل القصيدة بنية إطارية للنص ، وليس العكس .
كما ان ( الإنتصاص) غير منفصل عن السياق اللغوي المتثل بـ (النص) بوصفه بنية لغوية متجدّدة بحيوات الكتابة ومتعددة بتعدّد القراءات .
(5) جيرالد برنس/ المصطلح السردي/ ترجمة عابد خزندار /المجلس الاعلى للثقافة/ القاهرة / ط1/ 2003/ ص 197.
(6) عبد الرحمن جبران/ إشكالية التمثيل في السرد/ جريدة أخبار الادب المصرية/ ع ( 1185) في10/ نيسان–april/2016.
7)) إصطلحنا على تسمية القراءة الشعرية الذاتية للشاعر حميد سعيد لـ ( روائية ) الروايات بـ( القراءة الشعرية الطباقية) ، وتستدعي هذه التسمية الى ذهن القارئ –( القراءة الثقافية الطباقية) التي إشتغل عليها ادوارد سعيد على تفكيك التمثيل الثقافي في الرواية الغربية المعاصرة .
ورغم أن الفرق بينهما واضح بين( الشعري) و( الثقافي) ، فانهما ينزعان نحو مقاومة ( الوعي الزائف) و( ألعوبة التاريخ أو تشذيب التاريخ منالأكاذيب) و( نقص الواقع وفساده أو الواقع الذي فقد المنطق والاتساق والانتظام) .
(8) جيرالد برنس/ المصطلح السردي/ مرجع سابق/ ص 20 .
(9) جان بودريارد/ المصطنع والاصطناع/ ترجمة د.جوزيف عبد الله / المنظمة العربية للترجمة/ بيروت/ ط 1/2008 / ص 52.
(10) روبرت شولز/ السيمياء والتأويل/ ت: سعيد الغانمي/ مركز الدراسات والنشر/ بيروت/ ط 1/ 1982/ ص .132
(11) بول ريكور/ فلسفة اللغة/ ت : علي مقلد / مجلة العرب والفكر العالمي/ خريف 1982/ ص 11.
1087 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع