بقلم سامي موريه
الثائرة، ليندا في فلم "ظل في بغداد"
الثائرة لغة: "هي التي لا تبقي على شيء حتى تدرك ثأرها"، وليندا ابنة يعقوب عبد العزيز، هي الثائرة التي اختفى والدها المحامي يعقوب عبد العزيز البغدادي الشهير عشية عيد الغفران في عام 1972 ولم يعثر له على أثر منذ تلك الحادثة المشؤمة. فقد امتازت حكومة لكل الفترة المظلمة وعلى رأسها الطاغية صدام حسين بالعنف والتفنن في تعذيب المتهمين واذلالهم بوحشية الجلاد الذي يلتذ بتعذيب ضحيته فينهي عذابها بالموت المرير، وقد تحدث شاؤول ابن رئيس الطائفة الحاخام ساسون خضوري في كتابه "في جحيم صدام حسين" (رابطة الجامعيين اليهود الانازحين من العراق) عن التعذيب والاذلال والموت الشنيع لكل من حل ضيفا على قصر النهاية المشؤوم خلال سنة كاملة نجا فيها من الموت الزؤام باعجوبة، كل ذلك لارهاب والده لكي لا يتفوه بكلمة يشم منها رائحة نقد للطاغية وللجور والظلم والتهميش والقتل الشنيع لكل من تسول له نفسه مخالفة اوامره الاعتباطية.
والاسماء في العراق وباقي الدول العربية تشف عن تقلبات تاريخ البلاد العربية، فاسم ليندا يدل على انها ولدت في عصر أصبحت فيه الحضارة الاوروبية خير مثال للتقليد والاندماج وخاصة بين الاقليات، أما اسم عبد العزيز، فهو اسم نادر بين يهود العراق، فهم يسمون ابناءهم على الاغلب عبد الله مقابل الاسم العبري عوبديا، ولكن حبهم للسلاطين العثمانيين الذين سادت في عهدهم الطمأنينة والرفاهية بين الاقليات جعلهم يطلقون اسماء هؤلاء السلاطين على اولادهم، وهكذا نجد اسماء سليم ومراد وسليمان وعبد العزيز سائدة بين اليهود والمسلمين على حد سواء، اما في الحرب العالمية الثانية، فقد اطلق انصار النازية في العراق اسماء هتلر وهملر وغوبلز ورومل على اولادهم، ثم عدلوا عنها بعد فشل حركة رشيد عالي الكيلاني وعقلها المدبر مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، ملتحقين بسيدهم الاهوج هتلر الذي درج اليهود والعرب في المرتبة السابعة من سلم الاجناس وفوق القردة، ولم يبق من الأسماء الالمانية بين العراقيين سوى اسم "شوان" الالماني على ما اعلم. اما اسم العائلة منوحين فقد اكتسبته عن طريق الزواج.
كان المرحوم المحامي يعقوب عبد العزيز من بين العراقيين المخلصين للعراق محبا للعراقيين وآثر مسقط رأسه ولم يسجل في 1950-1952 لتسقيط الجنسية والهجرة الى اسرائيل او الغرب، فقد كان في بحبوحة من العيش وله علاقات وطيدة وصيتا ذائعا بين المحامين غير ان اعضاء من حزب البعث الشوفيني المتعصب قاموا باختطاف والدها المحامي يعقوب عبد العزيز عشية عيد الغفران في عام 1972 في هذا اليوم المقدس في توقيت شؤم على العائلة. لم تفلح الطائفة اليهودية في بغداد في التقاط خيط يؤدي الى معرفة مصيره بعد ان نجح افراد العائلة بمساعدة الاكراد الاشاوس الى بلوغ ايران ومنها الى اسرائيل الفرار من خطر البطش الذي طال عائلة قشقوش في عقر دارها .
وفي الجامعة العبرية في اورشليم- القدس، درست اللغة العربية وعلوم الشرق الاوسط، وفرخ البط عوّام فسرعان ما التحقت بدار الاذاعة العربية في صوت إسرائيل لتكون محامية ومدافعة عن الوطن القديم الجديد. وفي نطاق عملها وتمكنت من عقد صلات صداقة مع ادباء وقراء عرب عن طريق الشبكة العنكبودية للعثور على الخبر اليقين لاختفاء والدها العزيز، فكان هذا الفلم الوثائقي المأساوي الحزين في التفتيش والبحث يفتت القلوب، وقد عرض هذا الفلم الوثائقي في اوربا وامريكا ونال استحسان المشاهدين وحصد جوائز معبرين عن حزنهم بدموع الاسى لمصير الوالد وعذاب العائلة، وامل العثور على حقيقة ما حدث لوالدها. مأساة مرت بها آلاف العائلات في العالم وتمر بها يوميا بما يحدث بين العرب المهاجرين الى أوروبا. إذا فالفلم "ظل في بغداد" من اخراج دوكي درور (درويش) يروي مأساة الانسان ضحية الحروب والتشرّد لكنه يدعو الى التفاؤل بفتح صفحة جديدة من الأمل . وبلغني ان الفلم سيعرض في ستهوكهولم في المركزين المندائي والآثوري اضافة الى جامعة ستهوكهولم في قسم دراسات الشرق الأوسط في الفترة ما بين 7-9 مايو أيارالقادم.
ولا يسعنا الا الوقوف اجلالا امام الابنة الوفية لذكرى والدها العزيز، فإذا خلد الادب العربي الشاعرة الخنساء في حبها ورثائها لوالديها، فما اجدر بنا بتخليد الاديبة والناشطة الاجتماعية ليندا لتكون مثالا لوفاء الابنة المخلصة لذكرى والدها المحب الذي ابقى غصة محرقة في قلبها الحنون وقلوب أبناء عائلتها، رحم الله المحامي يعقوب عبد العزيز المغدور الذي لا يعرف حتى اليوم مثواه، وتغمده الله بشآبيب رحمته، والهم ابنته الوفية وعائلتها الصبر والسلوان. والله يهمل ولا يهمل، وقد لقي الطغاة عقابهم العادل، "فاكرم بوجهك اللهم من قاض ومنتقم!"
959 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع