حامد خيري الحيدر
أن واحدة من أهم القطع الأثرية التي يفخر بها المتحف العراقي والمُعبرة عن مدى رقي الفن الرافدي ودرجة أبداعه الكبيرة هو ذلك الرأس البرونزي الشهير الذي يُعتقد أنه يعود لمؤسس الامبراطورية الأكدية الملك (سرجون)، أو لأحد خلفائه ربما الثالث منهم الملك (نرام سين)1...
الرأس بالحجم الطبيعي ارتفاعه حوالي 36 سم، معمول من البرونز بأسلوب الصب، مجوف من الداخل، تفنن صانعه بمهارة عالية لأبراز تفاصيله الدقيقة، من تسريحة الشعر وعصابته الى الشكل الرائع في تصفيف اللحية، كذلك التقاسيم الحادة للوجه التي أعطت صاحب الرأس هيبة خاصة تبين بوضوح قوة شخصيته وعظم منزلته ومقامه، مما رجح نسب التمثال كما سبق... يُعتبر هذا الرأس بحق طفرة في الأبداع النحتي تشير الى تطور تقنيات التعدين المستخدمة في هذا النوع من الفنون، كذلك كان بمثابة ثورة على المفاهيم والطرز الفنية التي سادت في وادي الرافدين خلال الألف الرابع والنصف الأول من الألف الثالث ق.م، مُتمثلة بالمنحوتات والمُنمنمات السومرية، التي امتازت رغم قوة تعبيرها ومغزاها بالجمود وبُعدها عن الحيوية في تصوير الأشكال، وهذا طبعاً لم يكن قصوراً في الفن السومري، لكنه كان يتماشى مع الفلسفة الفكرية التي أمن بها السومريين المتعلقة بقضية الخلود، لذلك لم يتم التركيز فيها على الهيئات البشرية بقدر ما كان الاهتمام ينصب على الموضوع العام للقطعة الفنية وفكرته ليكون فنهم أقرب الى التجريد والحداثة.. على العكس تماماً من الفن الأكدي الذي نراه يهتم بشكل لاحظ بشخص الأنسان وصورته واعطائه هالة كبيرة لإبرازه ومكانة شخصيته تتماشى مع فكرة العمل الفني، وهذا ما توضح بشكل كبير في الفترات التاريخية اللاحقة ، لتصل قمة الأبداع عند الفن الآشوري الحديث خلال النصف الأول من الألف الأولى ق.م...... كان الرأس قد تعرض الى تخريب متعمد في الزمن القديم، حدث في الغالب بعد سقوط الامبراطورية الأكدية على يد (الكًوتيين) البرابرة وتدمير مدنها.. شمل هذا التخريب محاجر العينين، حيث تعرضت للضرب بآلة حادة بغية اخراج ما احتوتهما من أحجار ثمينة تمثل شكل العيون، كما يبدو ذلك واضحاً، كذلك تم قطع الآذان وجزء من اللحية، بشكل ينم على الحقد والقسوة التي عومل بها من قبل المُخربين، كما ويُرجح أن التخريب قد طال أيضاً جسم التمثال (نصفي أو كامل) الذي كان غالباً من الخشب أحرقته النار كحال المكان الذي عثر عليه فيه، أذ كان يُعتقد أن تخريب الرموز البشرية (المنحوتات والرسوم) سيجلب الأذى لأصاحبها في عالمهم الأسفل ويسبب لهم عدم الراحة هناك.
تعتبر قصة العثور على هذا الرأس أحدى المفارقات الغريبة التي طالما تجابه عمل منقبي الآثار، قد يصعب تصديقها لغرابة تفاصيلها وملابسات أحداثها، جعلت الحظ يلعب دوره فتصبح هذه التحفة الثمينة من ضمن ممتلكات المتحف العراقي وأهم نفائسه..... تعود تلك القصة الى مطلع الثلاثينات من القرن المنصرم، حين سعى عالم المسماريات البريطاني (كامبل تومبسون) 1876_1941 لترأس بعثة أثرية للتنقيب في منطقة القصور الآشورية المكتشفة في (تل قوينجق) أكبر التلول الأثرية داخل عاصمة الآشوريين القديمة (نينوى)2، التي سبق أن تم اكتشافها ونقل معظم محتوياتها من المنحوتات التي زينت تلك القصور الى المتحف البريطاني خلال الحفريات غير العلمية التي أجريت هناك عند منتصف القرن التاسع عشر من قبل المستشرق البريطاني (هنري لايارد) 1817_1894 ومساعده الموصلي (هرمز رسام) 1826_1910.... كانت الغاية الأساسية من العمل المقترح لهذه البعثة تنحصر بشكل رئيسي في العثور على اللوح المسماري الثاني عشر من (ملحمة كًلكًامش)، لأكمال سلسلة الملحمة المتكونة من أثني عشر لوح، والتي كانت ضمن محتويات المكتبة الضخمة الشهيرة للملك الآشوري (آشوربانيبال) 668_626 ق.م، البالغة أكثر من 25000 لوح، تم نقلها (سرقتها) بالكامل تقريباً الى جانب المنحوتات باستثناء اللوح المذكور.... فبعد مطالعته للتقارير القديمة المدونة بخط (لايارد) و(رسام) وتدقيقه لخطة عملهما آنذاك تولدت قناعة لدى (تومبسون) أن ذلك اللوح قد تم رميه بطريق الخطأ مع أنقاض الأتربة الناتجة عن تلك الحفريات بسبب عدم الدقة ومحدودية الخبرة في عمليات الحفر التي كانت بمثابة عمليات نبش ليس ألا... لذلك فأن عمل البعثة يتحدد في البحث بين تلول تلك الأنقاض التي أحاطت (تل قوينجق) من جميع الجهات بغية العثور على ذلك اللوح.. ربما مجرد التفكير بأمر كهذا في زمننا الحالي يعتبر نوع من العبث أو الهذيان، فالعثور على لوح طيني لا تتجاوز أبعاده 13×20 سم وسط تلول هائلة من الأتربة يشابه مسعى من يبحث عن ابرة وسط كومة قش أو يحاول افراغ ماء البحر بقدح صغير. لكن (تومبسون) بصعوبة بالغة تمكن من أقناع (مدرسة الآثار البريطانية)3 بتمويل نفقات هذه البعثة للقيام بهذا العمل الجنوني لموسم تنقيب واحد فقط يمتد بين عامي 1931 و 1932، شريطة أن تجرى معها تحريات اضافية في موقع المكتبة على امل العثور على الواح مسمارية أخرى.... ولعدم معرفة (تومبسون) بأحوال العراق وكيفية التعامل مع أهله أختار لمعاونته في هذه البعثة عالم الآثار الشاب (ماكس مالوان) 1904_1978 العائد تواً من ارض الرافدين بعد سنوات عدة قضاها مع التنقيب في مدينة (أور) الأثرية الى جانب (ليونارد وولي) 1880_1960 خلال عشرينات القرن المنصرم، كسب خلال تواجده هناك خبرة ومعرفة كبيرتين بطبيعة هذا البلد وأحوال ناسه، لذا فأنه سيكون خير معين له في عمله هذا.
بدأت البعثة أعمالها في منتصف عام 1931.. في واقع الحال لم تكن تلك الأعمال بمثابة تنقيبات أثرية حقيقية وانما كانت مجرد نبش وغربلة لأكوام الأتربة الملقاة الى جانب (تل قوينجق) بغية العثور على اللوح المنشود.. لذلك وإزاء تلك الأعمال لم يجد (مالوان) ما يفعله أو يساهم بالمساعدة به سوى بعض الأمور البسيطة التي لا تلبي طموحه المتزايد ليغدوا عالماً كبيراً ويدخل أسمه التاريخ... لقد لاحظ (مالوان) لدى دراسته آثار بلاد وادي الرافدين ومتابعته للحملات العشوائية الماضية للتنقيب فيها، هو عدم تسجيل تسلسل زمني حقيقي مُثبت بشكل علمي عن طريق التنقيبات الأثرية للأدوار التاريخية المتعاقبة التي مرت على هذه الأرض، ذلك ان الغاية الأساسية من تلك الحفريات السابقة لم تكن من اجل الحصول على المعلومة التاريخية أو أثبات حقائق أثرية محددة ، بل كانت من أجل البحث والحصول على القطع الأثرية لنقلها الى المتاحف العالمية الكبرى. كذلك فأن المواقع التي تم تنقيبها آنذاك كانت صغيرة لا تحتوي أكثر من دورين حضاريين أو ثلاث، مما يشكل أنقطاعاً تاريخياً لتلك الأدوار والأدوار الأقدم التي سبقتها.. عليه تولدت لدى (مالوان) قناعة صائبة تماماً أن التلول الكبيرة التي يفوق ارتفاعها 25م تمثل مواقع رائعة يمكن أن تمنح المنقب ذلك التسلسل الحضاري المطلوب، ومنها هذا التل (تل قوينجق) بارتفاعه الذي يزيد على 30م، أحتوت طبقاته العليا الأبنية الآشورية الحديثة بينما طبقاته السفلى أستناداً الى بعض الملتقطات السطحية حول التل التي ميّزها (مالوان) بذكاء كبير أنها تعود لفترة العصر الحجري الحديث...... لذلك أقترح على رئيس بعثته (كامبل تومبسون) أجراء مجس عميق يبدأ من قمة التل حتى أرضيته السفلى التي تعرف آثارياً ب(الأرض البكر) لتوثيق ذلك التسلسل التاريخي المُفترض... تردد (تومبسون) كثيراً في قبول هذا الأقتراح الغير مخطط له أو محسوبة نتائجه، لا مادياً ولا علمياً ولا زمنياً، حيث الفترة الضيقة المحددة للبعثة ومحدودية المبالغ المالية المخصصة لها والمهمة المناطة بها، لكنه في آخر المطاف قبل بالموضوع عن غير قناعة معتقداً أن هذا العمل سوف لن يمتد لأكثر من أسبوعين، أذ كان يتصور أن ما مُشيد في أعلى التل من أبنية لا يتعدى الدور الآشوري الحديث ولا شيء أسفلها، وانها قد شيدت فوق مصطبة عالية من الِلبن لحمايتها من أخطار الفيضانات، وهو شيء أعتاد سكان الرافدين فعله منذ تأسيس المدينة الأولى في جنوب وادي الرافدين خلال الالف الرابع ق.م.. لقد كان هذا قصوراً واضحاً في ذكاء (تومبسون)، والسبب أنه كان بالأساس قارئ للكتابات والخطوط القديمة ومن ضمنها المسمارية ولم يختص بالتنقيب الآثاري وما يتبعه من اعمال حقلية أخرى تتيح له خبرتها معرفة طبيعة التلول والمواقع الأثرية، على العكس تماماً من مساعده (مالوان) المنقب المُحترف الذي كسب خبرة ودراية كبيرة في هذا الجانب خلال عمله في مدينة (أور) كما سبق.
لقد تطلب حفر مجس اختباري بهذا الحجم والعمق أجراء حسابات هندسية بالغة الدقة ، وتخطيط مُسبق، حيث يقتضي تحديد مساحة الحفر الأولى ثم تقليصها تدريجاً كلما تعمق الحفر في الطبقات السفلى مع الأخذ بالاعتبار حساب ارتفاع التل (30م) لتلافي انهياره وحدوث كارثة هم في غنى عنها... وهذا ما خطط له (مالوان) بذكاء كبير.. فتم الحفر بشكل متدرج يبدأ بشكل مستطيل أبعاده 24×14م، وينتهي عند أسفل التل (الأرض البكر) بشكل مربع صغير أبعاده 2,5×2,5م.. ليستمر هذا العمل بما رافقه من خطر وتعقيد عدة أشهر، على خلاف ما كان متوقعاً أو مخططاً من قبل رئيس البعثة (كامبل تومبسون) مما تطلب المزيد العمال والمبالغ الاضافية، وانتهت عملية التنقيب فيه بعد الوصول الى أول (أقدم) طبقة استيطانية في الموقع...... ولا مجال هنا لذكر التفاصيل الدقيقة لهذا المجس، بما احتواه وما كشف عنه من معلومات تاريخية غاية في الاهمية، لكن يمكن القول أنه كان واحداً من أعظم الأعمال الآثارية في بلاد وادي الرافدين، تمكن بموجبه العالم الرائع (ماكس مالوان) لأول مرة من توثيق وأثبات التسلسل التاريخي للأدوار الحضارية لأرض الرافدين، من الأسفل حيث فترة العصر الحجري الحديث متمثلاً ب(دور حسونة/الألف السادس ق.م) وحتى قمة التل بوجود الأدوار الآشورية الحديثة (القرن السابع ق.م) وما بعدها.... الذي يهمنا من هذا الموضوع هو عند وصول الحفر في المجس الى الطبقة الأثرية التي تعود للدور الأكدي كشف (مالوان) عن معبد صغير تعرض الى دمار وحرق شديدين، عُثر داخله على لوحة طينية تذكارية مدونة باللغة الأكدية ورد فيها (معبد تمجيد الآلهة (عشتار)... شيُد لذكرى الملك (سرجون)) .. لكن لم يرد فيها أسم مُشيده أو في زمن أي من الملوك الخمسة التي حكمت تلك السلالة جرى ذلك التشييد، كما عُثر أيضاً داخل هذا المعبد الذي تم تدميره وحرقه في الغالب من قبل الغزاة (الكًوتيين) كما أسلف على هذا الرأس البرونزي الرائع الذي بغالب الظن أنه للملك (سرجون) استناداً الى تلك اللوحة التذكارية... كان العثور على هذا الرأس قد خفف كثيراً من حنق (تومبسون) على العمل في المجس، حيث أصبح لديه قطعة أثرية نادرة يستطيع تقديمها لممولي البعثة لتبرير العمل فيه بدلاً من اللوح المفقود في حال عدم العثور عليه، بعد ان بدأ اليأس والقنوط يتسرب الى نفسه بخصوص ذلك... لكن المفارقة البعيدة عن التصور هي أن تم فيما بعد العثور فعلاً على هذا اللوح الذي كان السبب والهدف الرئيسي من أرسال البعثة، وذلك قبيل انتهاء أعمالها بمدة قصيرة جداً.
لقد لعبت الصدفة وحسن الحظ دورهما بشكل لافت لينقذا هذا الرأس التحفة من مخالب البريطانيين فيبقى في وطنه الأصلي وبين أيدي شعب الرافدين ورثته الشرعيين... ذلك أنه قبل أن تباشر هذه البعثة أعمالها كانت قد عقدت أتفاقاً خاصاً مع سلطة الآثار العراقية المتمثلة بمديرية الآثار القديمة أستند الى القانون المُشرع عام 1926 والمسمى (قانون منع تهريب الآثار القديمة) الذي منع بموجبه اخراج الآثار المكتشفة من قبل البعثات الأجنبية الى خارج العراق كيفما تشاء وكما كان يحدث سابقاً، أنما وفق أتفاق خاص محدد ومُسبق مع سلطة الآثار العراقية.. وقد نص حينها ذلك الاتفاق المُبرم على تقاسم القطع الاثرية المكتشفة بين العراق والبعثة البريطانية مناصفة حسب درجة أهمية تلك القطع، والمثبتة قيمتها العلمية في التقارير والمحاضر اليومية لعمل البعثة والتي تحتفظ مديرية الآثار بنسخة منها.... على هذا الأساس خيّر (كامبل تومبسون) بين خيارين أحلاهما مُر في الحصول على أحدى أهم قطعتين أثريتين مكتشفتين.. بين الرأس البرونزي واللوح المفقود من ملحمة (كًلكًامش)، كونهما بنفس القيمة والأهمية.. فكان من الطبيعي أن يقع الاختيار على اللوح دون الرأس، الذي من أجله أرسلت هذه البعثة وتم تحمل كل تلك النفقات الباهظة من أجل العثور عنه.. تاركاً على مضض الرأس البرونزي من حصة العراق. ليبقى يُجمل قاعات المتحف العراقي كواحدة من أروع مقتنياته... والطريف في الأمر كان بعد عودة (تومبسون) الى بلده مزهواً بعثوره على مبتغاه مُكملاً سلسلة الواح الملحمة الخالدة الأثني عشر، وبدلاً عن كلمات الثناء التي كان ينتظرها من مدراء (مدرسة الآثار البريطانية) الجهة الممولة للبعثة، فقد وجهت له انتقادات كبيرة ولاذعة جداً بسبب عدم جلبه ذلك الرأس بدلاً من اللوح المفقود، أذ بعد رؤيتهم صوره الرائعة جن جنونهم لعدم حصولهم عليه.
الهوامش
1) حكم الامبراطورية الأكدية خمسة ملوك للفترة 2371_2230 ق.م.. وهم.....1_ سرجون 2371_2316 ق.م 2_ رموش 2316_2307 ق.م 3_ مانشتوسو 2307_2292 ق.م 4_ نرام سين 2292_2255 ق.م 5_ شاركالي شري 2255_2230 ق.م.
2) تحتوي مدينة (نينوى) الأثرية على تلين أثريين عظيمين، شيدت في أعلاهما القصور والمباني الآشورية الحديثة .... هما (تل قوينجق) و(تل النبي يونس).
3) مدرسة الآثار البريطانية في العراق.... مؤسسة علمية تعنى بالبحوث التاريخية والآثارية الخاصة بوادي الرافدين ومنطقة الشرق الأدنى القديم.. تأسست عام 1930 تخليداً لذكرى الدبلوماسية البريطانية الشهيرة (كًيرترود بيل)، الراعية الأولى لآثار وادي الرافدين عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1920..... أرسلت العديد من البعثات الآثارية للتنقيب في حواضر العراق القديمة، كما عمل ضمنها العديد من مشاهير علماء الآثار.... تصدر مجلة سنوية تحت عنوان (IRAQ) لنشر البحوث الاثارية الخاصة بهذا البلد.. تحول أسمها عام 2007 الى (المعهد البريطاني لدراسة العراق).
930 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع