خالد القشطيني
السماوة مدينة صغيرة على نهر الفرات. كان لسكانها حرص كبير على التعلم، وأنجبت الكثير من أبرز شعراء العراق وأدبائه. عندما استقل العراق عن الإمبراطورية العثمانية لم تكن فيه غير مدرستين ثانويتين وبقي العراق المستقل لعدة سنوات لا يملك غير مدرسة ثانوية واحدة في بغداد.
بيد أن المدن الصغيرة كالسماوة بقيت محرومة من كل شيء فوق المستوى الابتدائي. وكانت العوائل الطموحة تضطر لإرسال أولادها للدراسة في مدينة قريبة أخرى. كانوا في السماوة يرسلون أولادهم إلى الديوانية أو الحلة أو حتى بغداد. لم يكن هذا سهلاً بالنسبة لصبي في سن مبكرة كما كان مكلفًا للعوائل الفقيرة. يتيسر الأمر عندما يكون للأسرة قريب كالعم أو الخال في المدينة الكبيرة يستطيع الصبي أن يعيش معه. وإذا لم يكن للعائلة مثل هذا القريب فلم يكن بإمكان الولد أن يواصل دراسته. شعر بهذه المشكلة بصورة خاصة أهالي السماوة الذين كانوا حريصين على الثقافة والتعليم.
وجدوا أن الحل الطبيعي هو أن تؤسس مدرسة متوسطة في المدينة نفسها فلا يحتاج الأولاد للسفر لمدينة أخرى. انتظروا حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، فتقدموا بطلب لوزارة المعارف للقيام بذلك. ولكن العراق كان دولة فقيرة نسبيًا ولم تجد الوزارة ما يكفي لإسعاف الطلب. فما العمل؟ ها هنا الظرف الذي يتطلب الاعتماد على النفس والمبادرة الشخصية.
كان من وجهاء البلد، عباس الحذاف. لم يكن موسرًا فقط، بل كان متنورًا أيضًا. جمع أخيار المدينة واقترح عليهم بناء مدرسة متوسطة صغيرة من أموالهم. كانت له ما يسمى بالعلوة، تباع فيها حاصلات المنطقة. اقترح أن يقتطع درهم واحد من كل جزة صوف تباع في العلوة ومائة درهم عن كل تنكة دهن ورأس خروف. تجمع هذه الدراهم باسم مشروع متوسطة السماوة. وهو ما جرى ودفع الناس هذه الضريبة طوعا وبكل ممنونية. وبعد أن تجمع بيد الحاج عباس المبلغ الكافي، شرعوا بالبناء. مدرسة متوسطة من صفين فقط كبداية. انتهى البناء. ماذا عن المعلمين؟ من أين يأتون بهم؟
ومن يدفع لهم رواتبهم؟ تطوع طبيب المدينة بتدريس الإنجليزية مجانًا. وتطوع أمين صندوق القائمقامية بتدريس الحساب. جمعوا في الأخير عددًا كافيًا من مثقفي المدينة ليؤدوا الدروس المختلفة للأولاد. وكله مجانًا وحبًا للخير وإشاعة التعليم. ماذا عن تأثيث المدرسة؟ قالوا، ولا يهم! لا حاجة للرحلات.
الطلبة يجلسون على الأرض. واستطاعوا الحصول على سبورتين من مديرية معارف الديوانية. وبدأ الطلاب بالانخراط والمعلمون المتطوعون بالتدريس. وكلما تجاوزوا سنة دراسية، بنوا للمدرسة صفًا آخر حتى اكتملت الصفوف. وعندما سمعت وزارة المعارف بهذه الجهود وهذا الحرص، بادرت إلى تعيين معلمين محترفين للمدرسة على حساب الوزارة. لم تمض سنوات حتى فتحوا متوسطة للبنات.
كانت تجربة رائعة في الاعتماد على النفس وعدم الاتكال على الحكومة فقط. تجربة رائعة في عهد من عهود الخير. ما أجدر كل الشعوب أن تحتذي بها فلا تنتظر من السلطات القيام بكل شيء. ولكن يظهر أن هذه الروح قد ماتت الآن في العراق.
1036 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع