الدكتور رعد البيدر
كلمة بوائق التي تصدرت عنوان الموضوع هي جمع لمُفردة " بائقة " وتعني شر أو مصيبة – بموجبها يكون معنى العنوان " شرور إيران في الاحتلال الأمريكي للعراق" .
وأبتداءًا أنوِّهُ للقارئ الكريم أن كاتب السطور التالية يمقتُ الطائفية أسماً ومعنىً وتطبيقاً ؛ ولكون الوضوح والحقيقة يتطلبان تسمية الأسماء بمسمياتها المعروفة ؛ لذا ستتضمن سطور المقالة كلمتي ( السُنَّة ، الشيعة ) موضوعتان بين هلالين ، وهي من الناحية الأكاديمية في منهجية البحث العلمي – تعني ضرورة الإشارة إلى كلمة أو نص بترافق مع إنكار المعنى .
شهِدَت فترة ما سبق وأعقب الاحتلال الأمريكي للعراق بقليل تظهيراً سياسياً وإعلامياً للدور الأمريكي لعِبَ دوراً بارزاً في التعتيم أو التخفيف من ظهور تأثيرات وأدوار أطراف أخرى منها عربية، وأخرى إقليمية، وبعضها دولية - خاصة تلك التي أدت ولازالت تلعب دوراً شديد السلبية على مُعطيات اسباب ونتائج الوضع القائم في العراق حالياً .
يبرز الدور الإيراني كواحد من الأدوار التي تظللت بالاحتلال لفترة طويلة ثم بدأ يظهر حجم المأزق الفعلي الذي واجهته إدارة الاحتلال بوتيرة متصاعدة حتى وصل سعيها للبحث عن طريق للخلاص من جراء التورط في حسابات خاطئة دفعت الأمريكان إلى احتلال البلد منذ فترة سيكتمل عامها (13) بعد أسبوع . إن تسليط الضوء على الدور الإيراني في العراق لا يقل أهمية عن مستوى تسليط الضوء على الدور الأمريكي- لان الدورين وإن يبدوان للبعض متعارضين في الظاهر؛ إلا أنهما متلاقيان في الباطن. وهذا التلاقي لم يكن وليد الساعة وليس وليد ارتفاع مستوى السجال السياسي بين الولايات المتحدة وإيران حول الملف النووي، أو طموحاتها الإقليمية الجديدة.
رصَّد بعض المتابعين اجتماعات عديدة عُقِدَت في " جينيف " أواخر ربيع العام 2002 عِبرَ دبلوماسية الأبواب الخلفية بين السفير الأمريكي في أفغانستان " زلماي خليل زاد " مع شخصيات إيرانية منها " جواد ظريف " سفير إيران في الأمم المتحدة، وفي تلك الاجتماعات طلب الجانب الأمريكي من إيران تقديم المساعدة الأولية في مجالين: الأول- إنقاذ ومساعدة أي طيار أمريكي تسقط طائرته في الأراضي الإيرانية خلال الهجوم المُرتقب على العراق. أما الثاني- فهو أن تلتزم إيران بعدم إدخال أي قوات أو ميليشيات إلى العراق خلال فترة الهجوم المُزمع تنفيذه. وقد وافقت إيران على هذين المطلبين نظير وعد أولي يتعهد به " زلماي " بأن لا تقوم الولايات المتحدة بمهاجمة إيران بعد الإطاحة بنظام الحكم في العراق . وقد كشف " زلماي خليل زاد " عن الكثير من تلك المباحثات ضمن نصوص كتابه ( المبعوث) الذي نقلت بعض منها صحيفة " نيويورك تايمز" في عددها الصادر أول أمس 1 نيسان 2016 .
من وجهة نظر اختصاصية نرى أن ارتضاء إيران بقبول العرض الأمريكي يعني موافقتها ضمنياً باستخدام الأجواء الإيرانية من قبل الطائرات والصواريخ الجوالة الأمريكية، وهذا ما يغفله غير المختصين ؛ لأن جانب " الاعتبارات السياسية " أصبح متحققاً ، والاعتبارات السياسية هي مصطلح متداول في سياق التخطيط للعمليات الجوية خارج حدود الدولة - يعني الموافقة المسبقة أو الحصول عليها إن لم تكن حاصلة لإستخدام أجواء دول أخرى من قبل طائرات الضربة ، أو طائرات الإسناد ، أو الصواريخ الجوالة بعيدة المدى، عندما تحتم ضرورة مسار الطائرات أو الصواريخ المرور في أجواء تلك البلدان لفترة تقتضيها طبيعة المهمة الجوية . وبموجب القبول الإيراني اصبحت الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى موافقات لاحقة لمرور طائراتها أو صواريخها الجوالة في الفضاء الإيراني - هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فأن الموافقة الإيرانية تعني مشاركة المُعتدي الأمريكي بشقين : أحدهما تصميمي ، والآخر داعم بالحرب على العراق، ويقيناً إن المفاوض الإيراني لم يكن غافلاً عن هذا الجانب لكونه شبيهاً بالموافقة الإيرانية السرية في حرب الخليج الثانية التي أتفق عليها الطرفان الأمريكي والإيراني .
أُثيرت النوايا الأمريكية بالاعتداء على العراق ومن ثم احتلاله في وقت يناسب طموحات إيران لتحقيق غايتها بالتقارب مع الولايات المتحدة التي استطاعت بدخولها العراق زيادة ثقتها بدورها الإمبراطوري على المستوى الدولي. وبناءً على ما ترتب عن الأسباب والنتائج فإن ما نراه من وصف وتحليل لترابط الأحداث مع نتائجها- إن إيران قد سعَّت لتغير سياستها المُعلنة تجاه حالة الحرب التي كانت الولايات المتحدة تُهيأ لها إعلامياً وعسكرياً ، ولم تكن الخطوات الإيرانية اعتباطية ؛ إذ تحولت إيران من حالة رفض الحرب إلى الحياد كمرحلة أولى ، ومن ثم تحولت إلى التعاون الخفي مع الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق أعلى درجة من المكاسب الذاتية ؛ لكون حرب احتلال العراق دارت بين ( عدوين ) لها بصرف النظر عن اتفاق أو اختلاف البعض بتفسير مفهوم عداوة كُلٍّ منهما للآخر. ووفقاً للحسابات الإيرانية فأن احتلال العراق في كل الأحوال لم يسبب لإيران أية خسائر بل العكس كانت خسائر الطرفين العراقي والأمريكي منصبة في صالح إيران؛ لذا فقد عملت إيران على توظيف الأزمة لتحقيق مصالحها سواء في: تحسين العلاقة مع الولايات المتحدة أو مع حكومة عراق ما بعد الاحتلال ، أو " في الأقل " إبعدت نفسها من قائمة الدول التي عارضت الغزو الأمريكي للعراق.
أدركت إيران إن الولايات المتحدة جادة بسعيها ومصممة على تنفيذ سياستها الرامية إلى تغيير الخارطة السياسة الأقليمة . ومن جهتها اعتمدت الإدارة الأمريكية استراتيجية الوجود العسكري في المنطقة ؛ لتحقيق الولاء السياسي لها ، وهذا ما جعل إيران تُفاضل في قبول أحد الخيارين: أما أن تقدم الولاء السياسي للولايات المتحدة مُرغمة ، أو القبول بتهديد عسكري أمريكي كان يلوحُ في الأفق - قد يجعلها أسبقية لاحقة بعد نجاح احتلال العراق ؛ ووفق هذا السيناريو إعلامياً وسياسياً - سعت إيران إلى الخيار الأول ، وأصبح حوارها مع الولايات المتحدة وسيلة لتُكَلل الجهود الأمريكية بفرض السيطرة على المنطقة.
في خِضَّم تلك المواقف الإيرانية المتقلبة - أكد "على شمخاني" وزير الدفاع الإيراني: أن إيران لن تنظر إلى أي انتهاك أمريكي غير مقصود لحدودها الدولية على أنه عمل يفسر بصفة عدائية بشرط أن لا يضُر ذلك العمل العسكري بمصالح إيران ، مع تيسر أدلة واضحة على عدم تقصد الإساءة الأمريكية لإيران إن حصلت .
استثمرت إيران الوضع السياسي لصالحها سياسياً وطائفياً ، وضمن مراحل محسوبة وليست اعتباطية هيأت أفكار وخطط ( سيناريوهات ) جاهزة للأوضاع المحتملة في العراق من أجل دعم وتقوية الأصول ( الشيعية ) وباشرت بتنفيذ مخططاتها وتعديل ما يستوجب منها في ضوء معطيات الواقع ودرجة التأثير المطلوبة لتحقيق المصالح الإيرانية ، ثم أعادت النظر في طبيعة علاقاتها بالعراق بعد الاحتلال مباشرةً .
أفصَّح رجال الدين والسياسة الإيرانيين بتوقيتات منتخبة عن طبيعة المتغيرات التي حدثت في الخطاب الإيراني، والطموح المستقبلي بما يحقق مصالح إيران ويُظهر دورها بسياسات مرنة لا تجعل الأمور تصل إلى مستوى الصدام مع الولايات المتحدة. ويبدو ذلك واضحاً في تصريحات المسؤولين الإيرانيين؛ فقد أكد مرشد الثورة الإيرانية "علي خامنئي" بعد احتلال العراق: أن إيران لن تظل على موقف الحياد في ما يخص مستقبل العراق؛ ولن ترضى بحكومة عراقية يُمكن أن تُشَّكل تهديداً للمصالح القومية الإيرانية . وأشار الرئيس " خاتمي " في البحرين أثناء انعقاد مؤتمر علماء ( السُنَّة والشيعة ) في منتصف مايس 2003 إلى إن: إيران ليست في حرب مع أية دولة، وتؤمن بأن تعاون دول المنطقة يحقق أمنها والمصالح المشتركة لشعوبها ويضمن مستقبلها. أما "رفسنجاني" مخطط السياسات العامة في إيران فقال: أن مبادئنا في السياسة الخارجية ليست على مستوى واحد فلنا أولويات وأشياء مقدمة على أخرى سواء تجاه دول أو شعوب معينة، أو تجاه أحداث أو ظروف معينة، ومن الصعب إيجاد اتفاق إجماعي حول المسائل الهامة في السياسة الخارجية تجاه أية دولة؛ لذلك عندما يحتدم الخلاف بين الأجهزة المختلفة يتدخل مجمع تحديد مصلحة النظام لحسم الأمور، وإذا لم نجد حلاً إلا الرجوع إلى الشعب؛ فسنقترح عمل استفتاء شعبي لكن بشرط موافقة مجلس الشورى الإسلامي وتأييد الزعيم .
يُلاحظُ تنوع التصريحات بتوافق مع ظرفية الأحداث للاستفادة من الأوضاع الجديدة التي شهدتها المنطقة . ومن أجل تحقيق مصالح إيران في العراق تقاسم الضغط على حكومة إيران فريقان: احدهما كان يطالب حكومته باستغلال ظروف التمَّكُن (الشيعي) في العراق للضغط على الولايات المتحدة لكي تفسح لها مجال التدخل بما يجري في العراق بأساليب وظروف تسمح بتحقيق أهداف الطرفين الأمريكي والإيراني معاً في المجالات الاقتصادية والأمنية والسياسية، فضلاً عن حماية مقدسات ( الشيعة ) في العراق . أما الفريق الآخر فقد كان يسعى إلى استمرار إيران في سياسة الحياد الفعال تجنباً من المخاطرة في وسط أحداث لم تكن واضحة الأبعاد- لاسيما بتوقع أن تكون إيران هدفاً أمريكياً لاحقاً بموجب كثير من توقعات المراقبين.
تمكنت حكومة إيران من مسك العصا من المنتصف ؛ فانتهجت ما يجمع بين مطالب الفريقين المتناقضين في الرأي - دون أن تتقاطع مع نوايا المحتل الأمريكي في الظاهر ، وعلى أدنى تقدير في المراحل المبكرة من الاحتلال ؛ وهكذا بدأ الدور الإيراني الجديد يتنامى في التأثير نتيجة لقيام الأمريكان بإسناد ظاهر الأمور في إدارة البلاد إلى عناصر ( سياسية دينية ) معظمها من ( الشيعة ) الذين آوتهم إيران في مُدنها أو قدمت الدعم والعون لمن كان منهم خارج إيران قبل احتلال العراق . واتضح أن معظم تلك الجماعات التي كانت تحلم بمسك دفة الحكم في العراق لا يتقدم على ولائها لإيران حتى مصلحة العراق نفسه الذي ( يَدِّعونَ ) انتسابهم إليه وإن كان فقط على صفحات وثائق ومستمسكات إثبات حقيقية أو ( مُزوَّرة ).
للموضوع بقية سنُكمِلُها لاحقاً .... بمشيئة الله .
849 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع