أ.د.ضياء نافع
نشرت مجلة ( نوفي مير) (العالم الجديد ) الروسية في عددها الثالث لعام 1989 هذه المقالة للباحث الامريكي ويليام اجيرتون, البروفيسور في جامعة انديانا, والتي كتبها خصيصا للمجلة المذكورة, وعلى الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على نشر هذه المقالة الا انها لم تفقد قيمتها, اذ ان موضوعة التأثير الاجتماعي لافكار تولستوي لا زالت تمتلك اهميتها في تاريخ الثقافة الروسية والعالمية. لهذا ارتأينا ان نقدم للقارئ فيما يأتي خلاصة وافية لمقالة البروفيسور الامريكي.
يبتدأ اجيرتون مقالته بالاشارة الى مذكرات بوريس فاسيليفتش مازورين التي نشرتها مجلة ( نوفي مير) حول ( الكومونة التولستوية), ويعتبر هذه المذكرات ( خطوة مهمة جدا لاعادة تقييم التأثير الاجتماعي لتولستوي), والتي حان الوقت – ومنذ زمن – لضرورة دراستها وتحليلها باعتبارها ( فصلا حيويا مجهولا) في تاريخ الثقافة الروسية الحديثة , والتي لم يكن يعرفها تقريبا القارئ في الاتحاد السوفيتي آنذاك .
ينتقل الباحث بعدئذ الى الحديث عن ظاهرة التولستوية , والتي لا يمكن ايجاد مثيل لها – حسب رأيه – في تاريخ الثقافة والاداب الاوربية كافة , ويشير الى انها ولدت عند تولستوي في نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر, عندما حدثت أزمته الروحية – الدينية, والتي يسميها اجيرتون- (الانقلاب الروحي في اعماقه) , ويتحدث عن انعكاساتها على ابداعه, ثم يتناول ردود فعل القراء على تلك الافكار, وكيف انها ادٌت الى ولادة مجاميع مؤيدة لهذه الافكار ليس فقط في روسيا, وانما في الكثير من بلدان العالم, التي كانت تتابع آراء الكاتب الروسي الكبير وابداعه. وهكذا تبلورت في بلدان عديدة محاولات لتجسيد افكار تولستوي الفلسفية وتطبيقها حياتيا, وذلك عن طريق تأسيس مستوطنات تعاونية زراعية للاكتفاء الذاتي, وقد حدث ذلك في روسيا وانكلترا وهولندا وهنغاريا وسويسرا وامريكا واليابان وتشيلي , ولكن هذه المستوطنات – بالاساس – قد فشلت لان الذين التحقوا بها هم المثقفون,الذين اقتنعوا بتلك الافكار نظريا, ولكن عمليا لم تكن لهم اية تجربة او خبرة في التعامل مع الارض وزراعتها والاكتفاء بالعيش على انتاجها.
يتوقف الباحث بعد ذلك طويلا عند افكار تولستوي الفلسفية- الدينية, وكيف انه حاول البحث عن المثال الديني, وكيف ادى هذا البحث الى ابتعاد تولستوي عن تعاليم الكنيسة الارثذوكسية الروسية, الا ان الباحث يؤكد ان تولستوي بقي – حسب رأيه – في اطار المسيحية عموما, وان موقف الكنيسة الروسية لم يكن صائبا تجاهه, ويتوجه الى المتخصصين الغربيين قائلا, انهم يجب ان يتحرروا من نظرتهم الى تولستوي , التي تؤكد فقط وبالاساس على الافكار الدينية البحتة عند تولستوي , وان مسيحيته ( الفوضوية) ليست الا تعبيرا عن ( متاهات) فنان عظيم , وفي الوقت نفسه, يتوجه اجيرتون الى المتخصصين الروس قائلا , انهم ايضا يجب ان يتحرروا من التركيز على التفسير السياسي- الاجتماعي لافكار تولستوي فقط , دون الاخذ بنظر الاعتبار الجوانب الدينية لديه, ويستشهد بمقالة تولستوي الموسومة ( حول الحياة), والتي يؤكد فيها على ايمانه المطلق ب ( الحياة بعد الموت ), على الرغم من ان هذه الحياة ( مخفية عن وعيٌ الان), الا ان هذه المواقف لم تكن تعني ابدا هروب تولستوي من محاولة ايجاد الحلول للمشاكل الحياتية المحيطة به, او المشاكل الموجودة ( على الارض), رغم انه كان ينظر اليها في هذا الاطار الفلسفي ويحاول ان يصل الى حلها بمساعدة هذه النظرة الفلسفية ايضا. ان افكار تولستوي هذه توضح لنا لماذا كان اتباعه لا يخافون من الاضطهاد او حتى من التعذيب او الموت, و لكنهم في الوقت نفسه لم يكرهوا هؤلاء الذين كانوا يضطهدونهم .
يستعرض الباحث بعدئذ تاريخ التجمعات والمستوطنات التي تبلورت على اسس دينية وفلسفية, ويصل الى استنتاج مفاده , ان مستوطنات التولستويين لا تتميز عن تلك التي سبقتها, اذ انهم جميعا انطلقوا من مبدأ اساسي واحد وهو – ( اللاعنف),ابتداءا من الهندوس في الهند وعبر انصار يان غوس في تشيكيا و الحركات المماثلة لها في انكلترا و في المانيا والنباتيين في روسيا ...الخ , ويتحدث هنا عن موقف السلطات الحاكمة تجاههم , والشك الذي كان يسود النظرة الرسمية لتلك السلطات بشأن هذه الحركات, وكيف كانت تعتبر نشاطهم هذا ( يحمل سمات سياسية, خصوصا عندما يرفضون حمل السلاح والمشاركة في الحروب انطلاقا من قناعاتهم الدينية), وبالتالي فانه ( مضاد للدولة), التي تحتاج الى جيوش وحماية الحدود , وكذلك الى محاكم وقوانين صارمة وقوى لحفظ النظام ...الخ. ثم ينتقل الباحث الامريكي بعدئذ الى القرن العشرين ويشير الى ان هذا القرن قد شهد تجربتين كبيرتين وناجحتين في هذا المجال, اولهما حركة تحرير الهند برئاسة المهاتما غاندي, والتي ادٌت الى حصول الهند على استقلالها بالطريقة السلمية, ويسهب بالطبع بالحديث عن تأثر غاندي بافكار تولستوي, الذي كان يسميه ( المعلم ), ومن المعروف ان تولستوي هو واحد من الرموز الكبيرة التي اقتدى بها غاندي , وكانت هناك مراسلات فيما بينهما. اما التجربة الثانية فهي قضية تحرير الزنوج في امريكا من العبودية والتمييز العنصري الذي كان سائدا آنذاك, ويتوقف البروفيسور اجيرتون عند مارتن لوثر كنج وتناغم افكاره مع مواقف تولستوي وفلسفته, ويستنتج ان تحرير الهند وتحرير الزنوج في امريكا عن طريق الحركات التي تعتمد على سياسة اللاعنف هي تاكيد واضح جدا على تاثير افكار تولستوي وفلسفته عالميا. ويتناول الباحث بعدئذ النتائج التي تمخضت عنها حركة تحرير الهند بالذات , ويبين ان هناك حدود للحركة السلمية وسياسة اللاعنف, اذ انها استطاعت بالطبع ان تخلق دولة ذات حقوق, الا ان هذه الدولة قد خلقت اجهزة قمع للحفاظ على بنيتها, اي انها ايضا اضطرت الى تشكيل جيوش ومحاكم وبوليس..الخ, ويتساءل الباحث- هل هذا يعني, ان افكار تولستوي وغاندي والاخرين لا تجدي نفعا في الواقع السياسي؟ ويجيب عن هذا السؤال قائلا – كلا, ولكن يجب الاقرار بوجود الربط الديالكتيكي بين العنف ورفض العنف,اذ انهما يسيران جنبا لجنب, وان توحيد تناقضاتهما المشتركة هي التي تؤدي الى الحرية والعدالة والمساواة, وان انفراد اي من هذين المفهومين لا يمكن ان يحقق الهدف, مشيرا الى ان الدولة ضرورية للادارة, وانها لا يمكن ان تلغي القوة والعنف, الا ان استمرار حركة المقاومة السلمية وسياسة اللاعنف توقف تحولات الدولة الى الظلم والطغيان.
ينهي البروفيسور اجيرتون مقالته بالتحدث تفصيلا عن مجاميع التولستويين في بلغاريا, وكيف انهم استطاعوا منذ عام 1926 تنظيم مستوطنات زراعية, وان الحكومة البلغارية التي جاءت في اعقاب الحرب العالمية الثانية قد اعترفت بتلك المستوطنات واحترمتها, وكيف ان هذه التنظيمات قد ازدهرت واصدرت الكثير من الكتب والصحف والمجلات, ويشير الى بعض نشطاء تلك الحركة, وان من بينهم اعضاء في اكاديمية العلوم البلغارية واثنان من كبار الفنانين ومجموعة من اساتذة الجامعات وشعراء وادباء وصحفيين..الخ, ويتحدث ايضا عن دورهم في نهوض المستوى الثقافي والاخلاقي للمجتمع البلغاري.
مقالة ( تولستوي والتولستويون ) – كلمة فكرية جديدة في تاريخ الادب الروسي , وهي تستحق التحليل والتأمل.
659 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع