د. محمد عياش الكبيسي
في ثنايا تأصيله للثورة على الأنظمة الظالمة الفاسدة راح الإمام الجويني في كتابه (غياث الأمم) -وهو الكتاب الفريد في علم السياسة الشرعية- يضع القواعد المنهجية الموجّهة والضابطة لسلوك (الثوار) بحيث لا تنحرف الثورة عن مسارها ولا تتجه لغير مقصدها.
بدأ أولا في الصفات الموجبة للثورة مفرّقا بين الفسق المقتصر على الذات، فهذا عنده ليس مسوّغا للخروج بحال -وقد أفاض في تأصيل ذلك-، وبين الفسق المتعدّي الذي تنشأ عنه المظالم الكبيرة والمفاسد العظيمة (فأما إذا تواصل منه العصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السداد، وتعطلت الحقوق... واستجرأ الظلمة، ولم يجد المظلوم منتصفا ممن ظلمه... فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم... فالبدار البدار قبل أن تزول الأمور عن مراتبها، وتميل عن مناصبها، وتميد خطة الإسلام بمناكبها) ص275.
في هذه الرسالة يردّ الإمام بنفسه ردّا واضحا وقاطعا على من يتهمه اليوم أو يتهم فقهاء المسلمين بأنهم كانوا يؤصّلون للاستبداد والطغيان، ويوالون السلطان كيفما كان.
وفي مقابل هذا يضع الإمام بين يدي الشعوب الثائرة قاعدة أخرى في غاية الأهمية والخطورة، وكأنه ينظر اليوم إلى واقع الثورات العربية وما آلت إليه (فلا نطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا، فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلموا وأبيروا، وكان ذلك سببا في زيادة المحن، وإثارة الفتن، ولكن إذا اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع... فليمض في ذلك قُدُما، والله نصيره، على الشرط المقدّم في رعاية المصالح، والنظر في المناجح، وموازنة ما يُدفع، ويرتفع بما يتوقّع) ص282.
إن الإمام يتكلم هنا بوضوح عن وحدة القيادة، فالثورة لا تجوز عنده إلا بهذا الشرط؛ درءاً للفتنة والفوضى المحتملة أثناء الثورة، وتلافيا لما يتكرر وقوعه بعد الثورة من احتراب واقتتال وتنازع على السلطان بمختلف الذرائع، فيكثر الهرج، وتتعدد الرايات والشعارات، وتكثر الدماء والأشلاء، حتى (لا يدري القاتل فيم قَتل، ولا المقتول فيم قُتل)، فينسى الناس أصل مصيبتهم، وسبب ثورتهم، وربما ترحّموا على الظالم الأول، مقارنة بما صدمهم بعد الثورة من كثرة الظالمين والقتلة السفّاحين، هذا باسم الدنيا، وهذا باسم الدين، فلا تكاد تنجو من سيف هذا حتى تقع تحت سيف ذاك.
إن الثورة التي تفشل في توحيد قياداتها من البداية وهي في مرحلة القهر والاستضعاف لا يمكنها أبداً أن توحّد قياداتها بعد دنوّ الغايات، ورفع الرايات، وكثرة الارتباطات، واختلاف الأولويات.
لقد رأينا (الإخوة) في أفغانستان والعراق ثم في أغلب الثورات العربية الذين ربما كانوا ينتمون لمدرسة واحدة، ويصلّون في مسجد واحد، كيف أن (الثورة) قد أحالتهم إلى أعداء أشد عداوة من عداوتهم للظالم الذي ثاروا عليه سواء كان (حاكما ظالما) أو (محتلا غاشما)، ولكل فريق تبريراته ومسوّغاته و (معلوماته) التي تبدأ عادة بالظنون الرديّة، وتنتهي بالقطيعة الأبدية.
هذه الرسالة ليست وَحيا مقدّسا ولكنها رؤية عالم عامل دوّنها قبل ألف سنة، وهي نموذج لما في تراثنا من ثروة مليّة وخبرة عملية، لو أحسنت الأجيال التعامل معها والاستفادة منها خاصة بالنسبة للذين يتصدّون للمسؤولية ويباشرون الأعمال الجماعية
861 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع