علاء الدين الأعرجي
مفكر/باحث عراقي يقيم في نيويورك
في الاجتماع الذي نظمه البروفيسور محسن الموسوي، بالاشتراك مع الدكتور نائل الشافعي، في جامعة كولومبيا،(29/10/2015) تنويهاً وتأبيناً لذكرى الصديق العزيز، الأديب، والكاتب المعروف جمال الغيطاني، الذي انتقل إلى جوار ربه في 18/10/2015، تحدث عددٌ من الأكاديميين والباحثين عن شخصية الأديب الأريب، وحللوا بعض أعماله المتميزة بتقدير موضوعي عالٍ، وهم (حسب ترتيب إلقاء كلماتهم): بروفيسور محمد سلامة والأستاذ بلال فضل ثم كاتب هذه السطور، فالدكتور نائل الشافعي فالبروفيسور محسن الموسوي.
وبهذه المناسبة يشرفني أن أقدم الشكر الجزيل إلى كل من البروفيسور الموسوي والدكتور الشافعي على جهودهما في تنظيم هذا الاجتماع، وإتاحة هذه الفرصة للتعبير عن تقديرنا للفقيد الذي أضاف إلى الأدب العربي المعاصر الكثير من الأعمال الجديرة بالتنويه والاعتزاز.
ولئن دُعيتُ للمشاركة في هذا الاجتماع، فقد أعددت نفسي للحديث عن الفقيد، في ثلاث فقرات؛ الأولى؛ نتفٌ قصيرةٌ من تعليقات بعض المفكرين البارزين على أعماله، الثانية؛ بعض ذكرياتي الفكرية معه، الثالثة؛ تقويم بعض كتاباته وخصوصاً "رسالة في الصبابة والوجد"، نموذجاً، وهي الرسالة التي لم تحظ بالبحث والاهتمام من جانب الناقدين. ونظراً لضيق الوقت، في ذلك اللقاء، اضطررت للاكتفاء بالحديث عن النقطتين الأولى والثانية، حيث توسعتُ فيهما قليلاً في هذا المقال. ثم رأيت أن أضيف الفقرة الثالثة، لإتمام الفائدة.
1-نبذة من تعليقات بعض المفكرين على كتاباته:
في دراسة مسهبة بالأسبانية تحت عنوان الأصالة والمعاصرة في أعمال جمال الغيطاني، يقول الباحث خوان جو يتسيلو: "قليلون وقليلون جدا الكُـتـَّاب الذين يحافظون على الصبر المطلوب للعمل الأدبي المُتميِّز. لكن أعمال جمال الغيطاني الباهرة، تشكل عمارة ضخمة رائعة، مِعمارها وشكلها يمكن الإحساس بهما عبر مسافة طويلة، وهي تحنو على التجربة الشخصية، التي يبدو فيها الظاهر غلافاً وكاشفاً عن الباطن العميق".
وتعليقاً على كتاب" رسالة البصائر في المصائر"، يقول المفكر المعروف السيد ياسين" تمثل المغامرة الإبداعية لجمال الغيطاني، واحدة من أخصب المحاولات الأدبية التي قام بها عضو بارز من جيل الستينيات، وهو أديب جسور لم يقنع بشتى الأشكال الأدبية التي ورثها عن أسلافه. ولكنه، بعد بداية تقليدية – (وإن كانت لفتت إليه الأنظار، منذ وقت مبكر إلى موهبته، ونعني مجموعته القصصية بعنوان "أوراق شاب عاش منذ ألف عام")- أقول بعد تلك البداية التقليدية، غاص بنفسه في محيط التجريب الزاخر بالأخطار والتيارات العاصفة". انتهى الاقتباس.
وبمناسبة استضافتنا له لإلقاء محاضرة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك،(13/1/2000) في إطار أنشطة النادي العربي، قال كاتب هذه السطور ، بين أمور أخرى، "حين يشير الغيطاني ‘إلى أن الأدب العظيم هو الذي يفجِّر من الأسئلة أكثر مما يقدم من الأجوبة‘ ، يكون قد أدركَ بدقة المعنى العميق للأدب الإنساني الخالد الذي يتجاوز جميع الحدود القاريّة والزمنية. ذلك لأنه اختصر بهذه العبارة مدى الشوق الذي يكنّه "العقل الفاعل " إلى إدراك الوجود، بما فيه "الأنا" و "الآخر"، رافضاً سلطة "العقل المنفعل" والتابع، الذي ظل يقدم الأجوبة ولا يثير الأسئلة.
وفي إحدى رسائلي المتبادلة معه كتبت له: (أقصد جمال الغيطاني)
"أعجبتني "تجلياتك" التي تكتبها في موسوعة المعرفة والتي نبهني إليها صديقنا العزيز نائل الشافعي". وأضيف قائلاً " النقطة التي أراها جدّ مهمة هي أنك كأديب عميق الغور ترى في الأشياء ما لا تراه عين الإنسان العادي. وهذه نقطة فلسفية أعتقد أنها جديرة بالبحث والتحليل، في ضوء نظرية"العقل الفاعل والعقل المنفعل". بمعنى أن صاحب العقل الفاعل، يدرك الشيء بشكل يختلف عن إدراك صاحب العقل المنفعل للشيء نفسه.
2-نتفٌ من ذكرياتي الأولى معه:
اعتاد الصديق العزيز الدكتور نائل الشافعي، صاحب موسوعة "المعرفة" WWW.marefa.org وزوجته الدكتورة منى، على استضافة نخبة من المثقفين العرب المقيمين أو الزائرين لمدينة نيويورك ، وذلك في دارتهم الرافهة، التي ما برحنا نعتبرها موئلاً لصالون فكري متميز.
ففي جلسةٍ أدبية فكريةٍ في يوم من عام 2005، حضرها أديبنا الفقيد الغيطاني وزوجته الأديبة والكاتبة الصحفية ماجدة الجندي والمرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري، صاحب موسوعة "اليهود اليهودية والصهيونية"(ثمانية مجلدات) والكاتب محمد الخولي والناقد الأدبي فتحي أبو رفيعة والشاعر الرسام أحمد مُرسي , والدكتور مدحت رؤوف رئيس الجمعية الطبية المصرية الأمريكية وغيرهم، أقول في تلك الجلسة الثرَّة، أهديت إليه كتابي "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"https://drive.google.com/file/d/0B7-yP9NKQgUrZHdPdlZCSUtPYTg/view?usp=sharing
ترك المناقشة الحامية وتصفحه لفترة باهتمام، ثم رنا إليّ قائلا: "خطير! سأقرأه اليوم قبل أن آوي إلى الفراش ونتحدث عنه غداً". ابتسمت متصورا ً أنه يمزح أو يجامل متلطفاً تأكيداً لاهتمامه بالكتاب. عندما قابلته في اليوم التالي، حسب موعدنا لزيارة بعض المتاحف والمكتبات في نيويورك، تفاجأت، لأنني أدركتُ أنه استوعبَ بعض من أهمِّ ما ورد فيه، حين أمطرني بأسئلة دقيقة أسفرتْ عن مناقشات مُسهَبة استغرقت معظم ذلك اليوم وأيام أخرى قضيتها معه. لهذا رجوته، فيما بعد، أن يكتب تصديراً للطبعة الثالثة من كتابي ذاك، التي صدرت تحت إشرافه من دار 'أخبار اليوم' القاهرية. وهكذا توطدت علاقتنا الحميمة خلال زياراته المتكررة لنيويورك وزياراتي المتعددة إلى القاهرة، لاسيما بمناسبة مشاركتي في المؤتمر القومي العربي وفي مؤتمر القاهرة الدولي، وخلال الاحتفال بصدور الطبعة الثالثة من كتابي "أزمة التطور..." المذكور أعلاه وبحفل توقيع الكتاب واستضافتي في برنامجه التلفزيوني الأسبوعي "علامات".
3-تحليل بعض أعماله:
نعود إلى أعماله الكثيرة التي تجاوزت الخمسين. أهداني عدداً منها، ولئن اعترف بقدرتي النسبية على الاستيعاب. أجلتُ مطالعة بعضها، وقرأت البعض الآخر.
تمتعت مثلاً بـ'ملامح القاهرة في ألف عام'، واحتفلت بها؛ تاريخاً وتوثيقا ً ووصفاً وتحليلا ً، وانبهرت بـعمق بـ'الزيني بركات'، الذي ما زلت بحاجة إلى مزيد من الإمعان والحفر فيه. أما ' رسالة في الصبابة والوجد'، فقد سحرتني لغتها الغرامية/ الصوفية العميقة، التي تناجي القلوب والعقول معاً، والتي ستكون موضع اهتمامنا في هذا المقال، بوجه خاص.
هل نجح الغيطاني في ردم الفجوة العميقة بين الفكر واللغة؟
بعد إنعامي العميق في هذه الرسالة الأدبية البارعة، قررتُ إعادة النظر في رأيي المتواضع الخاص بالعلاقة بين اللغة والفكر. فأنا أميل إلى نظريتي القائلة بوجود فجوة بينهما( اللغة والفكر). لأن اللغة هي الأداة الاجتماعية التي نستخدمها عادة للتعبير عن الفكر. فالفكر هو الأصل واللغة تابع، أو هي مجرد أداة للتعبير. ومن جهة أخرى، الفكر نابع من جوهر الطبيعة البشرية العاقلة ذاتها، فهو غير محدود، على عكس محدودية اللغة التي تُمثل مصطلحات لفظية رمزية نشأت وتشكلت تبعاً للسيرورة التاريخية والصيرورة التطورية لكل مجتمعٍ من المجتمعات، أو لكل "وحدة مجتمعية".فاللغة مُنتج اجتماعي محض، مقابل الفكر كمُنتج طبيعي محض، لا سيما في أصوله وجذوره. واللغة مُنتج موضوعي، مقابل الفكر كمُنتج ذاتي. نعم، هناك تفاعل جدلي معقد ودائم بينهما، لكن هذا التفاعل المعقد ذاته يكشف عن الفجوة القائمة بين الفكر واللغة بكل جلاء. ويطول الحديث بهذا الشأن، ما يخرج عن موضوعنا.
وتتجلى الفجوة بين اللغة(أية لغة) والفكر بوجه عام، مثلاً فيما يعاني منه الكاتب/المفكر، (أو الشاعر) من فارق دقيق بين الأفكار العميقة والواسعة -غير المحدودة- التي تدور في ذهنه، والأداة التعبيرية اللغوية المحدودة أو الضيقة،(مهما كانت اللغة ثرَّة) التي تخضع للعقل المجتمعي. أي ما تعارف عليه المجتمع من تركيبات رمزية لغوية اعتبارية، كما أسلفنا، والتي يضطر الكاتب لاستخدامها في سبيل التعبير عن تلك الأفكار، التي يشعر أحياناً أنها تتجاوز تلك الأداة اللغوية، مهما كانت متطورة، ومهما كان الكاتب متمكناً منها، لا سيما إذا كان واسع الفكر متشعب الإدراك المتعدد الأبعاد والأطياف، كما في حالة أديبنا الكبير جمال الغيطاني، مع مراعاة اختلاف قدرات الكـُتـَّاب والمفكرين في الأداء اللغوي والتعبيري. وقد تشكل هذه النقطة مؤشراً على تخلف اللغة عن الفكر. ورأيي المتواضع هذا قد يقترب من نظرية الفيلسوف الفرنسي المعروف بيرغسون 1857- 1941، ولكنه يخالف الكثير من نظريات وآراء علماء اللغة الذين يؤكدون على تلازم اللغة بالفكر، ما يتجاوز بحثه هذا المقام.
ونعود إلى هذا النص، الذي نشره الغيطاني تحت عنوان 'رسالة في الصبابة والوجد'، فأرى أن اللغة لم تـَعُـدْ، في كثير من العبارات والتركيبات الوصفية التحليلية، مجرد رمز للمفهوم القابع في ذهن الكاتب، ذلك الرمز اللغوي، أو اللفظي، الذي قلنا إنه قد لا يعبِّر بِدِقَة عن فكر الكاتب؛ بل تحوَّلت تلك اللغة نفسها إلى 'مفهوم' مجرد قائم بذاته، مستقل عن فكر الكاتب. بمعنى أن الكلمة/ اللفظة وبالأحرى العبارة توحي بمفهوم معين، ليس بالضرورة المفهوم الكامن في ذهن الكاتب، بل يكتسب هذا المفهوم معناه ومغزاه من المفهوم اللغوي ذاته، الموحي بسيل من المعاني والمشاعر المتدَفـِـقة، من السِحر المعنوي العميق لفحوى الألفاظ والتركيبات المتناسقة في إطار سُلّمٍ بلاغي غير عادي.
وهكذا أرى أن الغيطاني حاول، عن طريق الإبداع في استخدام "جدلية الخفاء والتجلي"، بالاستعارة من كمال أبو ديب، أن يتجاوز الفجوة التي تحدثنا عنها بين اللغة والفكر، بلباقة ودقة .
1858 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع