بعد سن البلوغ في بغداد وسوريا

                                                         

                                      هيفاء زنگنة*

اذا ابتعدنا قليلا، عن الآثار المادية للعنف اليومي من اقتتال وقصف وتهجير، وهو الظاهر المستشري في العديد من بلداننا، من سوريا والعراق إلى اليمن وليبيا والسودان، سيواجهنا سؤال مهم، قلما يتم التطرق إليه وهو: ماهي الآثار النفسية التي سيخلفها العنف، مستقبلا، على الناس، خاصة الأطفال؟

سنلاحظ، إذا أخذنا العراق نموذجا ينطبق على بقية البلدان، بروز صورة قاتمة، تحمل في ثناياها خطرا كبيرا ما لم يتم العمل الجدي على تداركه. وهذا ما يتناوله بحث علمي عنوانه «العلاقة بين خبرات الطفولة السيئة والمروعة على الصحة بعد البلوغ في بغداد»، أجراه د. أميل الشاوي و د. رياض الجبوري، وكلاهما مختصان في علم النفس المجتمعي. أجريت الدراسة خلال الفترة من كانون الثاني/يناير 2013 إلى نهاية كانون الثاني/يناير 2014، في بغداد. استجاب لاستطلاع البحث ألف شخص تتراوح أعمارهم بين 18- 59 سنة. الاناث تمثل النسب الأعلى (58٪) من العينة، 60٪ منهم لديهم دراسة جامعية أو دبلوم كأعلى مستوى تعليمي.
لا تقتصر الدراسة على عنف النزاعات والحروب فقط بل تتناول، أيضا، العنف الأسري والمجتمعي، وإنْ كان من الصعب، أحيانا، تفكيك آثار هذه الجوانب، كل على حدة، لفرط تداخلها. كما تعالج التاثيرات السيئة ومدى المرونة التي قد يتمتع بها الطفل مستقبلا. فالخبرات السيئة تقلل من إمكانية التعامل بشكل مرن مع ما يواجهه المرء. والمرونة، حسب خلاصة البحث، هي « القدرة على معالجة الأزمات، المواقف الصعبة والمهام التنموية».
يلخص الباحثان آثار ثلاثة عقود من الحروب والحصار والاحتلال. إذ كان (ولايزال) العنف هو السبب الرئيسي للوفاة لدى البالغين، الرجال، خاصة، بين سن 15 و 59 عاما، خلال الثلاث سنوات التالية للغزو، عام 2003.
إذ كان معدل الوفيات قبل الغزو 5.5 لكل 1000 شخص سنويا مقارنة مع 13.3 لكل 1000 شخص في 40 شهرا بعد الغزو. يتعرض الأطفال والشباب العراقي إلى ظروف كارثية، بدءا من المرض والجوع إلى الصدمات النفسية والإحباط والموت. إنهم، كما تشير الدراسة، يعانون من القلق، والاكتئاب والخوف من احتمال نشوب حرب، ويعانون من الكوابيس، و40 بالمائة منهم، فقط، يعتقدون أن الحياة تستحق أن تعاش. وأفاد بحث آخر أن الأطفال الذين تعرضوا للقصف الأمريكي لملجأ العامرية، عام 1991، لا يزالون يعانون من الحزن وخائفون من فقدان أسرهم لسنوات في أعقاب حرب الخليج.
ويستند البحث إلى تقارير العديد من المنظمات الدولية، من بينها استطلاع أجرته المنظمة الدولية للهجرة ووزارة المهجرين العراقية والهجرة، ذكر فيه : أن اسباب النزوح الرئيسية هي أما التهديدات المباشرة بالقتل (61٪)، وجود العنف (47٪)، والخوف (40٪). وكشفت دراسة أخرى عن ارتفاع معدل انتشار أعراض اضطراب ما بعد الصدمة المعقدة بين طلاب من جامعة بغداد. يخلص الباحثان من دراستهما إلى تعرض العراقيين، في بغداد، إلى مستويات عالية من العنف الأسري والعنف المجتمعي خلال فترة الطفولة مما يجعلهم أكثر عرضة من غيرهم لاستخدام المواد المهدئة أو المخدرة، محاولات الانتحار، أعراض الاضطرابات النفسية والأمراض العضوية المزمنة بعد مرحلة البلوغ. مما يجعل الحاجة « إلى اعتماد برامج علمية رصينة للتأهيل النفسي وذلك للتخفيف من السلبية للتعرض للعنف بمختلف أشكاله» ضرورة ملحة، حسب الدراسة. ذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، في 12 آذار/مارس، أن نحو 14 مليون طفل يعانون جراء النزاع المتصاعد الذي يجتاح المجتمعيْن السوري والعراقي، فإذا أضفنا إلى ذلك تدمير البنى التحتية، خاصة المدارس والجامعات والمستوصفات، فضلا عن إطالة أمد العمليات العسكرية وما يصاحبها من تغييرات اجتماعية ونفسية للمجتمع المستهدف، لوجدنا، كما يحذر د. الشاوي، أنها ستخلف نسيجًا اجتماعيًا ونفسيًا هشًا ومتمددًا ليشمل الأجيال المقبلة. مما يعني ولادة أجيال « منكسرة ومنعزلة اجتماعيًا أو مندفعة ومتهورة نحو استخدام العنف؛ حيث إن العنف يولد مزيدًا من العنف» و أثبتت الأبحاث الطبية « أن الآثار السلبية الناتجة من تعرض المجتمع للعنف والعمليات العسكرية قد تتعدى الجيل الحالي إلى أجيال قادمة طبقاً لنظرية «عدوى المشاعر» مما يسبب تراكمات نفسية واجتماعية رهيبة مستقبلية على المجتمع برمته، وقد تتعدى آثاره إلى دول المنطقة أيضاً».
ويصف أنطوني ليك، المدير التنفيذي لمنظمة اليونيسف، تأثير العنف المتواصل على أطفال العراق وسوريا، قائلا : « أضحت هذه التجربة المريعة كل ما يعرفه أصغر هؤلاء الأطفال، إذ تَــــلوّنت صورة العالم في أعينهم بالنزاع والحرمان، أما بالنسبة للشباب والبنات اليافعين الذين يمرّون بأعوام تكوّن شخصياتهم، لم يشوّه العنف والمعاناة ماضيَهم فحسب، بل يرسمان مستقبلهم أيضاً».
تساعدنا هذه الدراسات والتقارير الدولية على تشخيص آثار الوضع الحالي على المستقبل وليس التشاؤم، لأنها تحاول، عبر التوصيات، إيجاد الحلول، لتجاوز الحالة الراهنة، ولو نسبيا، لحين التوصل إلى حل جذري للمأساة المركبة. تؤكد معظم التوصيات على ضرورة إيجاد برامج مجتمعية، وتأسيس عيادات لعلاج الصدمات النفسية من إحباط، وفقدان الرغبة بالحياة بالإضافة إلى أعراضها الجسدية من إرهاق، وتشتت ذهني، وهلع، وعجز جنسي، وحالات تبول لا إرادي. أما بالنسبة إلى الأطفال، أبناء الحروب والتهجير، فإن العمل، ينصب، حاليا، في أوساط المهجرين، مثلا، على تمكينهم على التأقلم.
إن هذه المحاولات العلاجية، ضرورية، وقد تكون مفيدة على المدى القصير، وإنْ كان إنهاء الاقتتال ونزيف الدم اليومي، في بلداننا، هو الحل الجذري، والتعاون ما بين المؤسسات الحكومية، وكافة المنظمات المعنية، محليا ودوليا، هو المنقذ الحقيقي لمستقبل أطفالنا وبلادنا.

٭ كاتبة من العراق

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

980 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع