آرا دمبكجيان
تسليح الأخوة في الدم (الجزء الثاني من ثلاثة اجزاء)
ظلت تركيا تسلح الآذربيجانيين على مدار الساعة، و لم تُخفِ هذه الحقيقة بل أعلنتها رسميا و مراراً. فقد صرَّحت صحيفة "مللييت" التركية: "إن أنقرة تساعد باكو حسب احتياجات معينة في آذربيجان"، و أضافت صحيفة "حرِّييت": "... مع الأسف، لم نتمكن من مساعدة البوسنة بالمقدار نفسه في غاراباغ." و لكن، كما شهدت "واشنطن تايمز" فإن مسلمي البوسنة حصلوا على كفايتهم من السلاح. فمن ناحية كانت تركية تمدّهم بالسلاح المناسب، و من ناحية أخرى، تقوم عدد من الدول العربية بالمهمة نفسها. إذ كانت شركات وهمبة في لبنان و السعودية تدفع ثمن السلاح الذي يُرسل بحراً من لبنان الى ميناء إزمير التركي، و يُبعَث من هناك تحت أسم "مساعدات أنسانية" الى بلغاريا، رومانيا، هنكاريا ثم الى البوسنة. و كان السلاح يُرسل ايضا الى الكروات عن طريق مطار بليسو و موانئ رييكا و سيليد "لتأجيج نار حروبٍ جديدة في مناطق البلقان و القفقاس" كما جاء في الجزء الأول من هذا البحث.
في 7 تموز 1994 وصل الى باكو رئيس الأركان التركي كوريش محاولاً تنسيق العمل العسكري بين تركيا و آذربيجان. و في سؤال لمراسل صحيفة "ازفستيا" الروسية عن مدى مساعدة تركيا لآذربيجان و هل من الممكن أن يحارب الجيش التركي الى جانب الآذربيجاني...تهرَّب سليمان ديميريل من الإجابة المباشرة، مشيرا فقط الى انه يؤيد أعمال "مجموعة مينسك" لإحلال السلام. و كان مفهوما من ردِّه ذلك انه ليس بإمكانه قول الحقيقة عن المساعدة العسكرية لآذربيجان. في الوقت الذي كان يخدم في الجيش الآذربيجاني 5-6 آلآف عسكري تركي من قوات الأحتياط من الفئة العمرية 30-35 سنة بين جندي و ضابط تركي. و تتدرب في تركيا مجموعات كبيرة من العسكريين الآذربيجانيين. و قدَّمَ المدعو خليل باشا (خليل كايلاجي) خدماته الى آذربيجان، و كما ذكرت صحيفة "مللييت" بأن الأنتصارات العسكرية توالت في آذربيجان بعد تسلّم خليل باشا مسؤولياته.
نعتقد أن المعطيات في أعلاه كافية لتُقنع أن السلطات التركية ليست مهتمة بتسليح تركيا وحدها، بل تقوم بالتحضيرات اللازمة لتسليح مسلمي آذربيجان و البوسنة و غيرهم في مناطق أخرى. فهي تحضِّر الآذربيجانيين لآحتلال (آرتساخ) أي غاراباغ الجبلية، و (زانكيزور) في أرمينيا، و مساحات أخرى من جورجيا و ايران المجاورتين. و أما في البلقان، فحساباتها في يوغوسلافيا كانت واضحة للعيان. ، أي تلعب بورقة الدين ايضا و تتستر بها من أجل تحقيق أحلامها الطورانية.
في ايام الحرب التي اعقبت انهيار يوغوسلافيا، تتوضح الصورة اكثر لو تساءلنا لماذا طلبت تركيا معدات عسكرية من روسيا مقابل دّيْنٍ للأخيرة لها في 1989 بمقدار 404.5 مليون دولار، و لماذا كانت تترجى بعيون دامعة الدول الأعضاء في حلف الناتو لرفع الحظر عن إرسال السلاح الى البلقان، و بعد مباحثات طويلة، وافقت ألمانيا على رفع حظر تصدير السلاح الى...تركيا.
و تعلم تركيا جيدا ان ليست هناك اي دولة تفكر بالأعتداء عليها، ففي هذه الحالة، لماذا تتسلح اذن؟ لعل هي التي تفكر في إنشاء (الطوران الكبرى).
روسيا ... السد المنيع أمام الإمتداد الطوراني
أختلقت تركيا مناسبات عديدة في خلال خمسة قرون من تاريخها للتصادم مع روسيا. فقد أوجدت ذرائع للحرب 13 مرة مع جارتها العملاقة و حاولت السيطرة على القفقاس، البلقان، القرم و شواطئ البحر الأسود. و ليس غريبا أن نعلم ان من مستلزمات الخطط الحربية الطورانية لخلق تركيا الكبرى هي احتلال مساحات واسعة من روسيا...و حاولت تركيا تحقيق تطلعاتها في اعلاه بعد انهيار الدولة السوفييتية و ذلك بطرق سلمية، اي الولوج اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا... بعبارة اخرى، قامت بالتقرب الى الشعوب التركية اللسان في القفقاس و آسيا الوسطى عن طريق إلهاب المشاعر القومية، و تطبيق إرثها الدبلوماسي الملتوي. و اخيرا...التأثير الروحي – الديني، اي استغلال ورقة الدين ايضا.
تعمل تركيا باتجاهات ثلاث لوضع تلك الجمهوريات المستقلة بعد الأنهيار السوفييتي تحت نفوذها، و لتفصيل اراضي هذه حسب الهوى التركي، ولإفشال الخطط الروسية المضادة لتحجيم مساعيها. و هذه الأتجاهات هي:
1- خلق علاقات صداقة متينة مع روسيا مع بذل الجهود للتغلغل في المناطق الأسلامية و تحريض سكانها ضد الروس.
2- محاولة فصل القفقاس و آسيا الوسطى عن روسيا لتأمين (الأستقلال) للشعوب ذات اللسان التركي و ذلك عن طريق بذل الوعود المعسولة بسخاء لهذه الشعوب، و كذلك عن طريق العمل الدبلوماسي مع السعي لنيل الدعم السياسي الدولي.
3- التقرّب من الشعوب المسيحية لخلق الظروف الضرورية و المناسبة لتحقيق برامجها المستقبلية في إنشاء الدولة الطورانية المرتقبة.
فمن ناحية تغازل تركيا روسيا و تدعوها الى علاقات اخوية بينهما، و من ناحية اخرى تحث الجماعات الأسلامية-التركية في روسيا على الأنفصال عن الأخيرة مثل تاتارستان، باشكوردستان و جيجنيا (الشيشان). و تجددت المشاكل قبل عدة سنوات في منطقة داغستان و الشيشان فأدت الى أعمال ارهابية و تحرك روسي مضاد.
في اثناء زيارات المسؤولين الأتراك الى آسيا الوسطى و آذربيجان، و رجوعا الى ايام سليمان ديميريل، حاول هؤلاء إخراج الشعوب التركية اللسان من منطقة نفوذ الروبل الروسي و تأسيس بنك دولي في تركيا نفسها و بذل المال لتأسيس جبهة مضادة للروس. و بعد أن صدق ديميريل اكاذيبه، صرَّح في أوزبكستان: "ينفتح المستقبل الزاهر الآن امام الشعب التركي و إن الحكومة التركية واعية لمسؤولياتها." و قصد ديميريل بقوله ذلك...خلق عالم تركي متوحد. و يتبين من الوهلة الأولى ان كلامه موجَّه نحو روسيا. و يتوضح المخفي من تصريح أحد السياسيين الأتراك، إذ قال: "اذا لم تعرقل الولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ خططنا، فإن بإمكان الأتراك تحرير كل آذربيجان مع الأراضي الواقعة شمال نهر آراكس و منطقة القفقاس في خلال 48 ساعة و التوغل نحو موسكو، قلب روسيا."
يعتبر هذا الكلام العنجهي دليلا على احلام القوميين العنصريين الأتراك الذين اصابتهم عدوى الأفكار الطورانية، و هذا واقع يتلمَّسه القادة الأتراك أنفسهم. فتركيا ليست فقط تسلِّح آذربيجان، بل تحاول ان تتدخل في العمليات العسكرية. و صرح الجنرال ي. شابوشينكوف القائد الأعلى السابق للقوات المسلحة لدول مجلس التعاون و الأمن (بعد الأنحلال السوفييتي) عام 1995: "ان التدخل الخارجي في مسألة جمهورية غاراباغ الجبلية يمكن أن يُشعل شرارة حرب عالمية جديدة." و من جانبه، اعطى :. بوربوليس، عن وزير خارجية روسيا الأسبق جوابه بالإيجاب على سؤال من الصحفيين عن إمكان تدخل القوات الروسية لحماية أمن أرمينيا.
شوَّشت التصريحات المذكورة في اعلاه محيط القيادة التركية آنذاك و كانت زيارة وفد روسي الى أرمينيا في الأيام الصعبة التي مرّت بها الأخيرة سببا كافيا لكبح جماح القيادة التركية. في حين فسَّرت "فاينينشال تايمز" تلك الزيارة: "ان أرمينيا تدخل ضمن نطاق المصالح الروسية." و وصفت صحيفة "الكارديان" زيارة وزير الدفاع الروسي الى ارمينيا انذارا الى تركيا.
و في تلك الأثناء لجأ سليمان ديميريل الى الحيلة. ففي 25 أيار 1992 ذهب الى موسكو على رأس وفد مكوّن من 150 شخصا، و كان (سلاحه) الرئيس وعوده بتقديم مساعدة مادية الى روسيا. فحمل معه 30 طنا من الأدوية و المستلزمات الطبية بقيمة 1,2 مليون دولار كعربون صداقة. و كانت تركيا قد وعدت بريماكوف مسبقاً، مندوب ميخائيل كورباتشيف، برفع التبادل التجاري بين البلدين الى 4 مليارات دولار، فحلف ديميريل أغلظ الإيمان برفع ذلك الرقم الى 12 مليار.
و لكن بوريس يلتسين أبدى التحفظ حيال موقف روسيا الأتحادية بشأن تطوير العلاقات مع الشعوب التركية اللسان ضمن حدود الأتحاد الروسي. فاقترح ديميريل توقيع اتفاقية للصداقة و العمل المشترك بين البلدين، فجوبه بالرفض الروسي. و لم يستطع الوفد التركي الحصول على أي تنازل روسي بشأن قضية آرتساخ (غاراباغ الجبلية) و لا حتى في مسألة الشعوب التركية اللسان في آسيا الوسطى. و جاء الصدى في صحيفة (بويكون) في حزيران من السنة نفسها: "يتحفظ يلتسين على إبداء رأي محدد و صريح عن الوقائع التي تجري في ناخيتشيفان و غاراباغ و آذربيجان." و على الرغم من كل الجهود التي بذلها ديميريل في إقناع يلتسين أن الأرمن قد أحتلوا غاراباغ، فقد رفض الأخير تصديق ذلك.
لجأ ديميريل الى اسلوب آخر للتأثير على موسكو. فمن المعروف ان روسيا تحاول ضم جميع اراضي الأتحاد السوفييتي السابق ضمن نطاق نفوذ روسي. فتجرّأ هذا و أقترح المشاركة في حكم منطقة ما وراء القفقاس (أرمينيا و آذربيجان و جورجيا) لتأسيس حكومة "كوندومينيوم" مشتركة تعمل على التنازل المتبادل للقضايا العالقة. و لكن في 25 حزيران، و بعد مؤتمر التعاون الأقتصادي المشترك للدول الواقعة على البحر الأسود، حاول يلتسين إبعاد ديميريل عن أفكاره في أعلاه معربا له عن شكره لجهوده "إيجاد سياسة متوازنة في منطقة ما وراء القفقاس و الحيلولة دون وقوع صراعات فيها."
و كانت النتيجة ان وعدت تركيا اعطاء روسيا قرضا بمبلغ مليار دولار، و وعدت الأخيرة بدورها زيادة حصة جارتها في الجنوب من الغاز في 1995 من 4,2 مليار متر مكعب الى 4,7 مليار متر مكعب.
إن العلاقات الأقتصادية المتبادلة لا تلائم المتعصبين الأتراك الذين يحملون جرثومة مرض أستعمار الأراضي المحيطة بتركيا. فهذه الفئة من القياديين الأتراك العنصريين يتذمرون لأن روسيا تعمل جل جهدها للحفاظ على وحدة اراضيها و حدودها التي ورثتها من القياصرة و السوفييت. كتب (بويكون): "اذا لم نلجأ الى اساليب صارمة و محددة في الوقت الحاضر ستكون مسألة قيام جمهوريات تركية في المستقبل القريب مجرد سراب و و هم."
اجبرت هذه الأمور القوميين الأتراك على (اتخاذ اساليب محددة)، فهم يبذلون جهدهم في حل قضية غاراباغ لصالح آذربيجان، أولاً، و خلق نطاق مُعادي للسلافونية حول روسيا، كحروب البوسنة، ثانياً، و بذر بذور الفتنة لإيجاد اوضاع معارضة للروس في جيجنيا (الشيشان)، القرم، أوكرايينا، مولدوفا و تاتارستان و غيرها. و ها نحن نرى ان نتائج جهودهم قد (ازهرت و اثمرت) نوعا ما في مناطق جيجنيا و داغستان في القفقاس و البوسنة و كوسوفو في اوروبا بعد ان جلبت الدمار للجميع.
و تعمل الدبلوماسية الروسية في جهتها على إبطاء الخطوات التركية في هذا المجال. فقد طالب ف. سداركوف، المستشار في السفارة الروسية في ارمينيا في حينها ألا تكون الأعمال القائمة لحل النزاع في غاراباغ على حساب التقليل من مصالح روسيا. ثم حذّر آ. تشيرينيشيف، السفير الروسي في انقرة ان دولته لن تسمح اي دولة بوضع آذربيجان تحت نفوذها المباشر. و في 24 حزيران 1993 صرح آ. كوزيريف بما يفيد المعنى نفسه. و يتعجب الأميرال ي. كاسادونوف النائب الأول لقائد الأسطول البحري الروسي ان تركيا تعلن صراحة "ان مصالحها الجيو-سياسية تصل الى المناطق الاسلامية في الاتحاد الروسي."
و جاء تصريح س. فيلادوف، مدير طاقم العمل الأسبق المحيط بالرئيس الروسي، كصدى للتحذيرات المباشرة و غير المباشرة الصادرة من المسؤولين الروس، إذ قال: " سوف لن تسمح روسيا لأي تغيير في ميزان القوى في تلك المنطقة."
و لكبح جماح تركيا، ذهب وزير الداع الروسي الأسبق كراجوف اليها. إذ كانت روسيا قد اضطرت إيقاف بيع السلاح الروسي الى تركيا و تقليل كميات الغاز المرسلة اليها. ثم صرح كراجوف ايضا تصريحه القاسي على تركيا حيت ألحَّ ان أرمن جمهورية غاراباغ الجبلية بحاجة ماسة الى ممر عبر ارمينيا للأرتباط و الأتصال بالعالم.
و قد ادت كل هذه المجريات الى تقاطر الوفود التركية الى روسيا. و كان اول الواصلين وزير خارجية تركيا الأسبق جيتين الذي تعهد بتقوية اواصر الصداقة بين البلدين، ثم تبعته رئيسة الوزراء تانصو جيلير التي صرحت قبل وصولها الى موسكو: "لن يتم حل قضية آذربيجان الا عن طريق الوساطة التركية. على حيدر علييف ان يطلب تدخل الجيش التركي، و في خلاف ذلك ستكون عودة الشيوعية حتمية." نرى هنا أن تانصو جيلر بدأت تلعب بورقة الشيوعية لإخافة المنطقة منها مع ورقة الدين الأسلامي التي يستعملها الأتراك على عادتهم. عندما وصلت جيلير الى موسكو تغيَّر رأيها رأسا على عقب، إذ صرحت أن عقدة آذربيجان لن تُحل إلّا عن طريق تركيا و روسيا و أرمينيا من دون تدخل أي طرف رابع. و لكنها غيّرت رأيها مرة اخرى بعد مقابلتها المبعوث الأمريكي تالبوت فأضافت الولايات المتحدة الى المجموعة المذكورة في أعلاه.
فشلت المساعي الروسية في هذه المرة ايضا لتحويل المناطق المتنازع عليها الى ما يدعى بـ (منطقة واقية أو محايدة) Buffer Zone و لحقت الهزيمة بها لفشلها في تحويل آسيا الوسطى الى منطقة نفوذ تركية في الصراع التركي – الروسي، و لم تنجح في لم شمل الشعوب التركية اللسان. و حسب تقرير صحيفة (بوسطن كلوب): "يشعر المسؤولون في انقرة انهم اصبحوا منبوذين و من دون حماية و هم يرون بأعينهم كيف ان النفوذ الروسي يزحف نحو جورجيا، آذربيجان، طاجيكستان و غيرها من الجمهوريات في آسيا الوسطى و هم جالسون لا يقومون بشيء." و قد حاول هؤلاء المسؤولون عدم الأنصياع للأمر الواقع، ففي أيار 1994 صرح الجنرال كوريش ان روسيا اصبحت تشكل تهديدا مبائرا لتركيا. و أما سليمان ديميريل فقد ألتجأ الى المنظمات الدولية طالبا منهم عدم السماح لدخول جمهوريات آسيا الوسطى ضمن منطقة نفوذ روسية.
آرا دمبكجيان
(سيكون موضوع الجزء الثالث و الأخير من هذا البحث عن عصر جديد من النضال التركي ضد روسيا و التشكيل الرسمي للحلقات النهائية لطوران الكبرى)
1072 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع