إبراهيم الزبيدي
لم تكن ليسابق معرفة بالفريق الأول الركن نزار الخزرجي، ولكن الإشاعات التي دارت حوله وحول دوره في "مجزرة حلبجة" دفعتني إلى التحقق من تاريخه، ومن حقيقة الدور المزعوم فيها.
وقبل أن أتحدث معه سألت أشخاصاً كثيرين أثق بشهاداتهم أمثال المرحوم سعد صالح جبر وصلاح عمر العلي والمرحوم الدكتور هشام الشاوي ووسام الصميدعي وعدد من الأكراد العراقيين الأكثر معرفة بمن ساهم في تلك المذبحة الهمجية ضدّ أطفالهم ونسائهم وشيوخهم في المدينة المنكوبة "حلبجة".
ثم علمت بأن الدكتور إياد علاوي "أمين عام الوفاق الوطني" هو الذي تولى إقناع الخزرجي بالهرب من بغداد إلى كردستان، ومنها إلى عمّان، على أمل أن يضمه إلى "الوفاق". لكنه رفض الانضمام إلى الحركة متذرعاً بأنها حركة صغيرة لا تليق بقائد عسكري من وزنه وبرتبته وتاريخه المهني الطويل. وقيل لي إن "إياد" كان هو السبب في تخلي الأميركان عنه، الأمر الذي حمله على اتخاذ قرار الرحيل من الأردن إلى الدنمارك كلاجيء سياسي.
أما عن مزاعم علاقته بـ"مجزرة حلبجة"، فقد حصلت على رسائل موقعة من الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الوطني الكردستاني والحركة الإسلامية الكردية، ومقرّها حلبجة، ومن عدد آخر من الأحزاب والتنظيمات المعارضة تشهد ببراءة الخزرجي من تلك التهمة، بل إن الأكراد تعاونوا مع "الوفاق"، وسهّلوا أمرهروبه في 4 نيسان/إبريل 1996، واستضافوه. ثم حين حاولت شخصيات سياسية كوردية (دانمركية) مقاضاته، وهو في الدانمرك، عن دوره المزعوم في حلبجة قيل إن وراءها معارضين عراقيين كبارا، تدخل جلال ومسعود لوقف تلك المحاولات.
وفي ضوء هذه المعلومات والشهادات اتصلت بالفريق الخزرجي وأجريت معه حديثاً إذاعياً مطوّلاً عن تلك المجزرة، أكدّ لي فيها أن الجيش النظامي العراقي، والذي هو رئيس أركانه، كان بعيداً عن العمليات السرية التي قام بها النظام بأوامر مباشرة من صدام حسين شخصيا. وقال إنه علم بالمجزرة بعد حدوثها، وأبلغ بها عدنان خير الله وزير الدفاع آنذاك، والذي لم يكن قد استشير بشـأنها ولم يُبلغ بحدوثها. ثم أكّد أيضاً أن العملية تمت بإشراف علي حسن المجيد المعين قائداً للمنطقة الشمالية.
ولم أكتف باللقاء الإذاعي، بل طلبت منه أن يكتب لي هذا الكلام بخط يده ويرسله إليّ عن طرق الفاكس. بعد ذلك تواصلت المكالمات الهاتفية بيني وبينه ولم تنقطع، ففي كل مناسبة وطنية كنا نُشركه إما بتصريح أو بلقاء على الهواء.
وقبل اندلاع العمليات العسكرية الأميركية البريطانية في 20 آذار/مارس 2003، وبالتحديد في منتصف كانون الثاني/يناير تلقيت من الفريق الخزرجي مكالمة هاتفية مفاجئة يوضح لي فيها أنه لا يستطيع أن يظل مكتوف اليدين لا يقدم شيئاً ذا قيمة لوطنه وشعبه في هذه الظروف الخطيرة. وأبدى استعداده للهرب من الدنمارك والعودة إلى الوطن. وطلب مني مفاتحة المسؤولين السعوديين بإمكانية منح ولده تأشيرة للحضور وشرح التفاصيل.
وقد حضر ولده الأصغر محمد لأداء فريضة الحج، بعد ذلك بأيام قليلة. وفور وصوله التقى، بحضوري، مع مسؤول أمني سعودي كبير أبلغه فيه بتفاصيل رسالة والده.
قال إنه تلقى رسائل عاجلة من قادة صنوف متعددة في الجيش العراقي متواجدة في أنحاء مختلفة من العراق يشرحون له فيها حقيقة الوضع الدقيق للحالة المعنوية للضباط والجنود، ويؤكدون فيها أنهم وضباطهم وجنودهم لن يقاتلوا الأمريكان، لعدم تكافؤ القوتين، أولا، وثانيا لعدم حماسهم في حماية نظام آيل للسقوط، وثالثا لأسباب أخرى تتعلق بالإهانات المتكررة التي كانت توجه لقادة الجيش من أقارب صدام، خصوصا وأن منهم جنودا أو ضباط صف صغارا كانوا يعلمون تحت أمرتهم قبل انقلاب 17 تموز/ يوليو 1968.
وأكد أن كثيرين منهم عبروا له عن خشيتهم من أن يغادر كثيرون من الضباط والجنود ثكناتهم، ويتوجهوا إلى منازلهم إذا ما بدأت الحرب، ونظراً لسمعته وخبرته وتاريخه العسكري فإنهم يطلبون منه الحضور لكي يلم شمل الجيش، ويَحُول دون تفتته وتشرذمه في حال حدوث اجتياح أميركي للعراق. وطلب بالتحديد ما يلي:
- مفاتحة الأميركان واستحصال قبولهم بالسماح له بمحاولة الحفاظ على تماسك قطعات مهمة من الجيش، لضبط الأمن الداخلي في المرحلة الانتقالية، على الأقل.
- وأكد أن الجيش لا ينوي أبداً ممارسة العمل السياسي، بل سوف يكتفي بتهيئة الظروف الآمنة لإجراء انتخابات نزيهة تتمخض عنها حكومة ذات شرعية حقيقية تتسلّم السلطة، ثم تعود القطعات العسكرية بعد ذلك إلى ثكناتها.
- تقديم بعض الدعم المالي لتغطية تكاليف سفره وسفر عدد من الضباط العراقيين المنتشرين في دول مختلفة من العالم، والجاهزين للانطلاق معه في هذه المهمة التاريخية الصعبة.
- تسهيل مهمة خروجه من الدنمارك بجواز سفر سعودي.
- حث أجهزة الإعلام العربية على دعم تحركه عندما يحين الوقت اللازم لذلك.
وفي اليوم التالي جاء رد الأميركيين، وهو يتلخّص بأنهم لا يثقون بأي عسكري عراقي في الخارج. (ربما لهذا الموقف علاقة بخلافات أياد علاوي وأحمد الجلبي مع الخزرجي). لكن إذا كان الخزرجي متأكداً من قدرته الفعلية على عمل شيء يحفظ تماسك الجيش ووحدته، فإنهم لن يعرقلوا جهوده: "ليفعل أولاً لكي نرى، وبعد ذلك نقرر الخطوة التالية". واعتذر السعوديون عن المشاركة في عملية تهريبه من الدنمارك.
بعد ذلك بأيام قليلة خرج الخزرجي من الدنمارك بجواز سفر سويدي إلى إسبانيا، ومنها إلى المغرب. ومن المغرب إلى القاهرة، ومنها إلى دمشق.
في صباح يوم 20 آذار/مارس سمعت من الإذاعات أن العمليات العسكرية الأميركية قد بدأت بقصف مواقع حيوية في بغداد والبصرة وغيرهما.
بمناسبة الحديث عن الخزرجي أصرّح هنا بأنني صُدمت حين وجدت إذاعات ومحطات تلفزيون عالمية وصحفاً كبرى مثل "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" تنزلق إلى اختلاق وتلفيق حكايات وقصص لا وجود لها عن الخزرجي وهربه من الدنمارك، فقد زعمت "نيويورك تايمز"، ونقلت عنها صحف العالم وإذاعاته، أن الـ"سي آي إيه" هي التي قامت بتهريبه، ونقلته إلى واشنطن، ومنها إلى الكويت. وأكدت أنه الآن في العراق يقود القوات العراقية المرافقة للقوات الأميركية، في الوقت الذي كان فيه وحيداً يعاني وطأة الملل وقسوة الفراغ في فندق صغير في مصيف بلودان بسوريا، لم يخرج منه إلا بعد سقوط النظام بفترة طويلة.
وحكاية أخرى. قائد معارض عراقي مقيم في أوروبا تحدّث لإحدى شبكات التلفزيون الأوروبية فأعلن أنه تحدث مع الخزرجي في الكويت، وأكّد أنه متوجّه إلى العراق لقيادة الجيش العراقي، وحين سألت الفريق نزار عن ذلك القائد المعارض أكّد لي أنه لم يكلمه، ولا يعرفه شخصياً أبداً.
وهو في سوريا اقترحت عليه أن يصدر بياناً سياسياً يوضح فيه موقفه من الأحداث، ويدعو الجيش العراقي إلى التماسك، وعدم التخلي عن الواجب. وبعد مشاورات مع بعض أعوان الفريق الخزرجي والجهات العراقية الأخرى المؤيدة للعملية، قمت بكتابة البيان، على ألا يُذاع ويُنشر إلا بعد عبور الفريق وأعوانه إلى العراق وبدء نشاطاتهم. لكنه رفض الموافقة على نشره، معترضاً على ما ضمنته من عبارات الدعوة إلى إسقاط النظام، مبرراً رفضه بأن ضباط الجيش لا يريدون أن يَظهروا وكأنهم متواطئون مع الاحتلال. وقد أدى رفضُه توقيع البيان إلى خسرانه عدداً من أنصاره ومريديه ومساعديه، لأنهم وجدوا أن البيان يحقق هدف إبقاء الجيش موحداً لحماية المواطنين وأموالهم، والحفاظ على المؤسسات والأموال العامة، والحيلولة دون حدوث حالة انفلات أمني. وكان تحليلهم للحالة يتلخص بما يلي:
- إن الغزو أصبح مؤكداً.
- إن قوات الاحتلال لن تقوم بمهمات أمنية، وهي منشغلة بتنفيذ أوامر القيادة في إسقاط النظام، وعليه فإن المهمة ملقاة على عاتق العراقيين أنفسهم.
- إن الأميركيين لن يسمحوا لنا بالحفاظ على بقاء الجيش إذا لم يطمئنوا إلى أن هذا الجيش لن يدافع عن نظام صدام حسين.
والحقيقة أن تحركه جاء متأخراً كثيراً، فقد تسارعت الأحداث، وانفرط عقد الجيش.
لقد أصر المعارضون العراقيون السبعة الكبار، وبالأخص عبد العزيز الحكيم وجلال ومسعود، على ضرورة إقناع الأمريكان بحل الجيش، وتشكيل جيش جديد، بذريعة أنه جيش صدام حسين، وأنه خطر على النظام الديمقراطي الجديد الذي ينوون إقامته في العراق. وقد حققت لهم أمريكا ما يريدون.
1448 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع