د. أكرم عبدالرزاق المشهداني
لقد كانت هجرة المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه من مكة إلى المدينة، نقطة تحوّل في التاريخ الإسلامي، كما كان لها دور في ترسيخ قواعد الدين الحنيف، وإنطلاقة دولة الحرية والعدل والمساواة.
وإذ يحتفل العالم الإسلامي بذكرى الهجرة النبوية فإن الاحتفال بحادث الهجرة العظيم هو مناسبة للتأمل والتدبر والوقوف مع النفس، فأن الأمة ينبغي أن تستلهم من الهجرة النبوية المباركة والسيرة الدروس والعبر ففيها الكثير للمتأمل والناظر، وفيها دروس للساسة وللعسكريين وفيها دروس للدعاة والمصلحين وفيها دروس للآباء والأمهات وفيها دروس للمعلمين ودروس للشباب ولكل فئات الأمة.
إن المتأمل والناظر في تاريخ الأمة الإسلامية عند إنطلاقة الدعوة يجد في تلك الحقبة الكثير من الأحداث العظيمة والمواقف المهيبة والصفحات البيضاء النقية، ومن هذه الأحداث العظيمة حدث الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة. ولنا فيها ولكل جيل معاصر أو قادم دروس وعبر من خلال هذه الرحلة المباركة
أولاً: إنه ما ترك قوم الحق والخير إلا أتى الله بقوم يحملون الخير والحق في نفوسهم ويبلغونه للناس، فبينما كانت قريش بتعسفها وعنتها وظلمها، رفضت هذا الحق، وبقيت «13 سنة» تحارب رسول الله في مكة فإذا بقوم من غير مكة ومن غير قريشها، يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شوقاً إليه وحباً فيه وفي ماعنده، وهم (الأنصار) إذ خرج الرسول من مكة مهاجراً ومشى في الصحراء وكأنما تلك الأقدام التي يخطها في الصحراء كأنما وقف على قطب الكرة الأرضية فحركها.. يخرج من موطنه مكة خائفاً... بينما يدخل المدينة الأبعد في استقبال عظيم وفي مشاعر فياضة حيث جميع أهلها رجالاً ونساءً شيوخاً وأطفالاً خرجوا يستقبلونه في أطراف المدينة، وهم يرددون نشيداً خالداً:
طلع البدر علينا...
من ثنيات الوداع.....
وجب الشكر علينا...
ما دعا لله داع......
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شَرّفتَ المدينة..
مرحباً يا خير داع..
ثانياً: الدرس الآخر من دروس الهجرة المشرفة أن مَعية الله مع المؤمنين دائماً إذا صدقوا في إيمانهم، فقد حاولت قريش أن تُلحق برسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الأذى، فوضعت «25» رجلا منهاً عند باب بيته بسيوفهم ليضربوه ضربة رجل واحد، فإذا به يخرج من بينهم وهم نائمون وذلك أن الله مع أنبيائه ومع أتباع أنبيائه من المؤمنين وصدق الله القائل : «الله ولي الذين آمنوا...».
ثالثاً: ومن دروس الهجرة أيضا، أنه لا يعلم جنود ربك إلا هو، فعندما وصلت قريش إلى فم الغار الذي اختفى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه الصديق أبو بكر رضي الله عنه، وما حال بينهما وبين قريش إلا خيوط العنكبوت، وحمامة بنت عشها على فم الغار ووضعت بيضها، وإذا بأوهن البيوت (بيت العنكبوت) يُصبح بإرادة الله، سداً منيعاً، لأنه استمد قوته من جبار السموات والأرض ثم رأينا كيف غارت حوافر فرس سُراقة عندما حاول اللحاق بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه وذلك قول الله سبحانه : «إنَّ اللهَ يُدافعُ عَنْ الذينَ آمَنوُا...».
إن لنا في قصة الهجرة أعظم الدروس في جوانب متعددة وخصوصاً في هذه الأيام التي تذكرنا بهذا الحدث التاريخي الهام العظيم في حياة الإسلام وأهله .. ونحن أمة مناسبات ومواقف وقد خلّد التاريخ وخلّدت السنّة المطهرة كثيراً من مواقف الرجال الذين شادوا صرح الإسلام، ونشهد في قصة الهجرة جوانب مُشرقة في حياة الحبيب الأعظم وصاحبه الصديق رضي الله عنه - وذلك من خلال استشعارنا للمقصد الأسمى من الهجرة النبوية، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يهاجر لغرض التجارة ولا لقضاء وطر آخر.. ولكنه هاجر لغرض نصرة الإسلام ورفع راية السلام، ولأجل ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه« ، وقال أيضاً : «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله« ، ولم يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم أولا ويترك أصحابه خلفه بل إنه تأخر حتى يُهاجر ضعفاء المسلمين لأنه لو هاجر أولاً لتمكنت قريش من منع ضعفاء المسلمين من الهجرة!.
ومن المواقف أيضاً التي تمثلت في شخص المصطفى أنه لم يقصد من الهجرة أن يستعين بمن يهاجر إليهم ليعود إلى أهل مكة ويأخذ بالثأر من أهلها، ولكنه كان يريد أن يجسد معاني الإسلام الحنيف في أوساط المجتمع الذي كان يزخر بالتناحر والتشاجر، وذلك أنه في أثناء سيره مع أبي بكر لحق بهم سراقة بن مالك القريشي ليقتل النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي برأسه لقريش لكي يحظى بالجائزة المعدة لذلك، وهي مائة من الإبل، ولكن النبي وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة لم يقتل هذا الرجل ولم يرض له بالهلاك حين ساخت قدما فرسه في الرمال، ولكنه عفا عنه وبشره بأنه سيلبس سوار كسرى، ورَجَع سُراقة منبهراً مما شاهد ورأى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاد يضلل الطريق على من أراد اللحاق بهم، وكان أن أسلم فيما بعد وصار له شأن في نشر الإسلام وتحقق وعد الرسول المصطفى له بلبس سوار كسرى حين فتح المسلمون بلاد فارس على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ونرى أيضاً في درس الهجرة، صدق التوكل على الله وقوة الثقة بالمولى، حين أحدقت بهم أسباب الهلاك وجاءهم الموت من كل أبوابه والنبي صلى الله عيه وسلم يقول لسيدنا أبي بكر الصديق «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» حين قال له الصديق يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.
إن في قصة الهجرة النبوية المباركة من العبر والعظات والدلالات العظيمة التي تعلم أمة الإسلام حسب أوطانهم ويتضح ذلك عند قول النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من مكة وهو يخاطبها: (والله إنك لأحب البقاع إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت.).
إن دراسة السيرة النبوية ضرورية لكل مسلم ليتعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس إلى دين الله بالحكمة والموعظة والمراحل التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتعلم منها ما هي الوسائل في كل مرحلة. كما أن دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ضرورية لكل جندي ومحارب تعلمه دروس الثبات والشجاعة. ودراسة السيرة النبوية ضرورية لكل قائد تعلمه كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقود المعارك ويسير السرايا ويخطط لها، التخطيط الناجح، الذي يقود الأمة من نصر إلى نصر ومن مجد إلى مجد. ودراسة السيرة النبوية ضرورية لكل مربي، يتعلم منها كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يوجد من هذه القبائل المتشاحنة وقد امتلكتها الثارات والأحقاد أمةً وصفها الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال : «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله». كما أن دراسة الهجرة النبوية ضرورية لكل حاكم يريد الخير لأمته وتعلمه كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقود أمته بالعدل والشورى.
وكذلك فإن السيرة النبوية ضرورية لكل تاجر وقاض وزاهد وصابر يتعلم منها دروساً في التعامل مع الناس وفي القضاء والنزاهة والزهد والصبر من أجل هذا كله نرى عظمة الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة وانها من أهم الأحداث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين، كان المسلمون قبل الهجرة أمة دعوة، يبلغون دعوة الله للناس دون أن يكون لهم كيان سياسي يحمي الدعاة أو يدفع عنهم الأذى من أعدائهم، وبعد الهجرة تكونت دولة الدعوة، هذه الدولة التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام في داخل الجزيرة وخارجها. ومن أجل هذا كله فلا غرو إذن أن ترى الصحابة رضوان الله عليهم يتفقون في السنة السابعة عشرة من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم على ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة النبوية حيث جمع عمر بن الخطاب الصحابة واستشارهم في وضع تاريخ للأمة، فقال قائل: أرّخوا بتاريخ الروم، فكره ذلك، وقال آخرون بمبعثه وقال آخرون بل بهجرته، فمال عمر رضي الله عنه إلى التاريخ بالهجرة، لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك.. ولهذا فقد أراد سيدنا عمر أن تكون الأمة الإسلامية الأمة المستقلة المتميزة عن سائر أمم الأرض أمة تعتز بتاريخها وأحداثها الجسام.. ومن المعلوم بداهة أن من مقومات الأمة تاريخها، الذي تعتز به وتفخر به لأنها صنعت أحداثه بجهودها، وموافقة الصحابة رضوان الله عليهم على ما رأى سيدنا عمر رضي الله عنه تدل على حرص الجميع على الاستقلال والتميز إذ لم يرضوا أن يكونوا في تاريخهم تبعاً لأمة من الأمم بل كانوا مبدعين في كل شيء ليسوا إمعات ولا ببغاوات يستوردون فكرهم وثقافتهم وتاريخهم من أعدائهم كما يستوردون غذاءهم وشرابهم، ومما يؤسف له أن يصل حال أمتنا هذه الأيام إلى درجة كبيرة من الضعف والتقهقر بعد أن أهملت تاريخها وانساقت وراء أعدائها الذين أذلوها، تؤرخ بتاريخهم وتنهل من سموم ثقافتهم وأولعت بذلك ولعاً شديداً.
إنه لمما يبعث على الأسى أن يأتي احتفال الأمة الإسلامية هذا العام بذكرى الهجرة النبوية الشريفة ، وسط ظروف حالكة وتحديات جمة تحيط بالأمة من كل جانب، منذ عدة سنوات ، إلى درجة أصبح فيها أبناء هذه الأمة يحلمون بنهار جديد يستيقظون فيه على واقع يجمعهم وإرادة تلمهم، وتوجه يجتاز بهم حالة الضعف والاستكانة التي طال أمدها.
تمر عليها ذكرى هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في هذه المرحلة، التي تشهد ثورة الشعب الفلسطيني هلى الصهاينة المجرمين وثورة الشعب السوري ضد الطاغية وثورة الشعب العراقي ضد الفاسدين، وسيثبت شباب الأمة أن إرادة الشعوب هي التي تنتصر وأن الظلم لايمكن أن يدوم.
867 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع