الدكتور رعـد البيدر
خِطاب العراق وإيران في ظل حرب البلدين 1980 - 1988
أوراق من سجل العلاقات العراقية – الإيرانية
المقال الأول
من نافلة القول التنويه المُسبَق بأننا سنوجزُ خطاب البلدين ، وليس إدارة حرب البلدين بفكرة عامة وليست تفصيلية ؛ إذ لا يمكن أن تستوعب سطور المقال الكثير مما في خزين أفكار الكاتب أو القراء عن حرب استمرت (٨) سنوات ، لا سيما بوجود تلك الأفكار التي لم تُفارق ذاكرة الذين عايشوا تلك الحرب كمقاتلين أو متابعين ، وسنُجَّزأ محتوى العنوان إلى مقالات متتابعة يُكَّمِل بعضها البعض ؛ لتجَنُب الإطالة .
أعتبر بعض المراقبين نهج إيران مع العراق قبل نشوب الحرب أحد الأخطاء الاستراتيجية في علاقات البلدين ؛ لأنها وضعت العراق في امتحان صعب ، وضَيقَّت عليه المسالك؛ فأصبح أمام خيارين السهل منهما صعباً هما : إما تسليم العراق خضوعاً للرغبات والسلوك الإيراني بقبول تصدير أفكار الثورة الإيرانية ؛ وهذا يعني مساساً بالكرامة والسيادة العراقية، وإما كبح الرغبة والأطماع الإيرانية بوضع العصا العراقية في دولاب مسار النوايا الإيرانية التي ابتدأت بالتحرك غرباً نحو العراق كمثابة أولى ، ثم تتجه جنوباً وغرباً بعد تثبيت وجودها ؛ فأقدم العراق على خيار الحرب رداً على حصيلة استفزازات وتحرشات إيرانية كان قد ادعاها ، وثبتها بوثائق رسمية إلى إيران والمنظمات الإقليمية والدولية ، وسبق أن بينا تلك الاعتداءات في مقال سابق.
قيَّمَ فريق من المتابعين القرار العراقي بأنه قرار مُتسرع . بينما رأى فريق آخر أن القرار العراقي كان بُداً لا بُدَ منه لحماية أرضه وشعبه من تدخل دولة جارة تضمر عداءً متراكماً من جذور التاريخ إلى يومنا هذا - ليس على العراق فحسب ، وإنما على كل ما هو عربي .
قناعتنا إن الرأيين ينظران إلى الحقيقة بعينٍ واحدة - تُبصِرُ جوانباً مُحددة ، وتغضُ الطرفَ عن جوانب أخرى . وأصوب الآراء تقيماً هو الرأي الذي قيَّمَ قرار الحرب بكونه خطأً استراتيجياً لا يرقى إلى الإقناع المنطقي في السلوك السياسي رغم التبريرات التي تلتمس تفسيراً أو توضيحاً لمُغامرة ثبُتَ احتِسابها بطريقة مخطوئة ؛ فانزلق إليها الطرفان وتسببت بإهلاك الزرع والضرع ، وما زال الكثير من ضحاياه الأحياء يعانون من ويلاتها .
لقد كان خطاب كلا البلدين يجمعُ بين الصواب والخطأ في عرض قضية كل طرفٍ منهما للطرف الآخر أو للرأي العام . وإزاء مجمل تراكم ظروف الماضي ، وعلانية الحرب الإعلامية التي سبقت نشوب حرب الأسلحة الفتاكة - لم تتدخل أطراف دولية أو إقليمية بجدية للوساطة الفاعلة في تهدئة اندفاع الطرفين وراء العواطف والتصورات الضيقة ؛فذبح الطرف الحاد من سكين الحرب الكثير من رقاب شباب البلدين، وأهدر الطرف الآخر لها أموالاً طائلة ؛ لو وجِهَّت نفقات الحرب للتنمية لرفعت من شأن البلدين في مختلف مجالات الحياة ؛ ولما خَرج كل طرف منهما مخضباً بالدماء، ومُثقلاً بالديون .
شُخِّصَ على الخطاب العراقي والإيراني على حد السواء غياب ظاهرة النقد، واعتباره خُصومة وعداوة وخروجاً عن القواعد والطاعة والولاء للدولة ، وتفسيراً تختفي وراءه حقيقة مؤامرة كُبرى ، أو تدبيراً عدوانياً يستهدف كيان الدولة أو رموزها الحاكمة ؛ فجعل عامة الناس يخشون طرح أو مناقشة أي موضوع يتعلق بالحرب خارج توجيهات ورغبة السلطة .
أوجدَ الطرفان تشريعات قانونية تحد من حريات شعبيهما في التفكير وإبداء الرأي والنقد الصريح . إن مثل هذا النهج غالبا ما يلجأ إلى تطبيق أفكار جامعة من المفروض إنها تستقطب الغالبية العظمى من جماهير الدولة، بالتثقيف والترويج للأفكار الدينية أو الطائفية أو العرقية التي قد يُلبَّسُ بها الإطار القومي وفق الخطاب الذي أتبعته إيران ، وبتفعيل العاطفة القومية والوطنية والدينية أحياناً وفق الخطاب العراقي.
تمَكَّنَ الطرفان من الهيمنة على عواطف الناس وتوجيهها لتتجاوز التفاصيل التي يُعاني منها المجتمع حيثما توجد أو تُشخَّصُ ظواهر سلبية تفتك بالبنية الاجتماعية بسبب الأخطاء في إدارة السياسة العامة للبلد مثل: ضياع فُرَّص العمل عدا تلك التي تخدم متطلبات ديمومة الحرب، وتفاقُم البطالة والركود الاقتصادي، أو الفساد السياسي والأخلاقي، والتخلف الصناعي، أو الزراعي، أو التجاري.
أُنيطَ بوزارة الإعلام توجيه وإدارة ومراقبة النشاط الإعلامي وفقَ توجيهاتٍ مركزية في كلا البلدين؛ فكانت وزارة الإعلام هي الجهة المُهيمنة على قنوات البث ألتلفازي والإذاعي وعلى منشورات الصحافة، ومن الطبيعي في ظل هكذا أسلوب إن يكون لمقص الرقابة دوراً أساسياً بحذف وحجب ما تحسبُه ضاراً أو متقاطعاً مع توجهات السلطة وفق ما يُعرف في دراسات الإعلام وعلوم الاتصال بنظرية " حارس البوابة " الإعلامية، التي تعني التحكم بنوع المعلومات التي تتضمنها الرسالة الإعلامية اعتبارا من مصدر تحصيل الخبر حتى إيصالها إلى الجمهور المُستهدف ؛ فاختفت وتشوهت حقائق، وبُنيَّت أفكار على أوهامٍ وأخطاء .
كان للدبلوماسية العراقية والإعلام العراقي دورهما الواضح في إظهار الموقف السياسي الخارجي وكسب التأييد الإقليمي والدولي بسبب تجاوب العراق ورفض إيران لقرارات مجلس الأمن بدءً بالقرار المرقم (479) في 28 أيلول / سبتمبر وانتهاءً بالقرار (598) الصادر في 20 تموز/ يوليو 1987- الذي امتنعت إيران عن قبوله لفترة تزيد عن سنة، ثم أعلنت قبولها المتأخر للقرار بعد مماطلات دبلوماسية وهزائم عسكرية على امتداد جبهات القتال.
سنُخَصِص مقالاً قادماً نُسَلِطُ الضوء من خلاله على الموقف الدولي ومواقف البلدين التي أسهمت بوقف إطلاق النار، وكيف انتهت أطول حروب القرن العشرين في الشرق الأوسط .
للموضوع تكملة في المقال الثاني بمشيئة الله .
1472 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع