17 كانون الثاني تاريخ لايمكن ان انساه

                                    

                             سلام توفيق


انتهينا من حفر حفرة بعمق متر وطولها مترين تقريبا اما عرضها فكان حوالي متر ونصف ... قلت لزميلي بولص من قرقوش لم نعد نقوى على الحفر اكثر من ذلك الارض صلبة جدا وقد ازف الغروب لنكمل ملجئنا بالحجار لنرفعه عن الارض بحيث يمكننا ان نقف منتصبي القامة فيه ... اتينا بالاحجار ورصفناها بشكل هزيل لانظامي ثم وضعنا مشمع من الجلد (كليم) في الاعلى وثبتناه من الاعلى بمزيد من الاحجار ...

الان اكتمل مايشبه الملجاء الذي يمكن ان يتهاوى في حال اي شدة خارجية بسيطة... كل مانريده هو ان لاننام في العراء تماما... بحثنا عن اية كسرة خبز نكسر بها جوعنا ... وجدنا بعض الصمون المتعفن والذي نبتت داخله حبات شعير كاملة لم تتطحن كصاحبتاها بسبب العجلة... لايهم ابو خليل يمكن ان ياكل حتى الصخر لو اشتد جوعه...
جاءنا امر الرعيل ملازم اول مجند اسمه سالم وهو مدرس من اهالي زمار... كان شديد القلق والهلع... سالته ماذا نعمل لو هوجمت مقر الفرقة 45 التي تتواجد داخل القلعة الرهيبة او تم انزال مظلي امريكي عليها ونحن سرية دبابات سلمونا هياكل لا تعمل الا بقدرة القادر الجبار وحده ... وحتى لو اشتغلت فهي مزودة ببضعة قذائف ضد الدروع فقط... حتى اسلحة شخصية ليس عندنا لحد اليوم !!! اجاب وهو يتلعثم من البرد والجوع والخوف : الله لايگولها ...
حل الظلام وعم السكون وانعدمت دلائل الحياة... حتى من كان قد حصل على سيكارة كان ينفرد بها بعيدا ويدخنها لوحده بتلذذ لافا اصابعه حول جمرها خوفا من ان ترصدها طائرات العدو التي تصول وتجول وحدها في سماء المعركة قبل وقوعها
تمددنا في تلك الحفرة ولم تكن الساعة قد شارفت على التاسعة مساءا ... قال بولص هل تعتقد ان بوش سيقصفنا فعلا لان المدة التي حددها لانسحاب العراق من الكويت انتهت امس 15-1-1991... قلت له اكيد سيضربون ولكن سيدمرون بغداد وليس الجيش في الجبهات لانه منتشر في صحراء طويلة يصعب ضربه بدقة ...
مع مرور الوقت ازداد الظلام حلكة والصمت الرهيب حولنا يزيد الموقف رعبا وسوادا... كلما انتبهنا على صوت اقدام بشرية او غير ها نمد يدينا لنهيء القضيب الحديدي (هيم) لندافع به عن انفسنا من الحيوانات الضارية ...قلت ل بولص لاتكن شكوكا كثيرا لا اعتقد ان الحيوانات الضارية قريبة منا لان المنطقة دبت فيها الحياة منذ اسابيع بعد قدوم الجيش لها ثم انها لن تجد فضلات طعام هنا لاننا اصلا بلا طعام وننافسهم على البقايا والمخلفات...
ضحك زميلي قائلا ... الا تذكر ماذا قال سائق سيارة اللاندكروز التاكسي الذي اوصلنا من السماوة الى قضاء السلمان...لقد نصحنا بعد ان عرف اننا من الموصل وحذرنا من الذئاب الكاسرة والواوية التي تهيم ليلا بحثا عن فرائسها ...بل اكثر من ذلك انها تحاول الهجوم على السيارات المارة في الشارع لانها جائعة جدا بسبب ندرة القنائص والفطائس في تلك الصحراء... شنو مو يمي ...استطرد قائلا

  

قلت ...افكر في تلك القلعة الرهيبة التي ذرعتها شبرا شبرا...انها شيء خيالي لم يدر بخلدي يوما انني ساكون في وسطها...يا الهي انه كابوس مرعب ... سلسلة سجون داخل السجن تفصل بعضها عن بعض بابواب حديدية ... يثير صوت صريرها الرهبة في النفوس... والاكثر ايلاما تلك الذكريات المكتوب والمرسومة على جدران غرفها القاسية في الداخل...ذكريات لاناس فقدوا الاحساس بالحياة واصبحوا يتمنون الموت تمنيا... والله لقد بكيت حينما عثرنا على لهايات ولعب الاطفال البلاستيكية... يا الهي انه شعور رهيب ...اطفال صغار يولدون ويعيشون في هذا القفص الحديدي البارد!!!
كفى لاتسترسل ارجوك لقد قتلني الشوق والحنين لاهلي ولاولاد اخي الصغار رغم اننا لم نلتحق الا قبل اسبوعين ولا اعرف ان كنتت سالتقيهم ثانية ...

الا تفكر بالهروب مرة اخرى انت لم تلتحق ولم تنتظم في الخدمة منذ استدعائنا للاحتياط في 5-8-1990 ...

قلت له بالتاكيد سافعل في اقرب وقت ليس جبنا فانا في حرب ايران خدمت 5 سنوات في كتيبة دبابات فعالة وشاركت في معارك كثيرة ومعروفة ولم اهرب ولكن الان الامر مختلف انها جنون مطبق ... جوع يقتلنا ... والاهم اننا وقود لمعركة قادمة...هل يصدق العاقل اننا سنحارب امريكا وحلفائها وننتصر عليهم ونحن بلا عتاد ولا سلاح شخصي حتى...
قال لماذا اذن وضعونا هنا...؟؟

قلت نحن لسنا الا كبش فداء لاقيمة له لان المهم عندهم ان يبقوا الحرس الجمهوري في الخلف للمعركة الحاسمة ... اسمع يجب ان يبقى احدنا مستيقظا والاخر ينام وهكذا لحد الفجر...نام انت الان ساوقظك بعد ساعتين...
كانت الساعة عندها قد شارفت على الثانية عشرة ليلة 16-17 ك 2 1991 ... مرت علي الساعتين وكانها دهرا وحتى بولص كان يتقلب ولكني كنت اشعر انه ليس نائما فالبرد والخوف والقلق والجوع والحنين تقتل النوم ...
ربتت على كتفه ... بولص اگعد صارت ساعة 2 ...

مددت جسمي المرهق على مايشبه الفراش ...ورحت في مايشبه الغيبوبة وكنت قد قررت الا انهض ثانية حين ينتهي واجب زميلي حتى لو اصبحنا فطورا شهيا لابو سرحان!! حلمت باصدقائي واهلي وفراشي الوثير وقدح الشاي الذي اعشقه!! وحلمت كثيرا ولم يقطع سلسلة احلامي الا صوت رهيب رفعني عن الارض ثم اعادني لها مرة اخرى ثم انهالت الاحجار على اجسامنا ورؤوسنا ولم يحميها من التمزق الا ذلك المشمع الجلدي الذي اصبح حاجزا بين الاحجار التي انهالت علينا وبين اجسادنا التي تعرضت لرضوض وخدوش غير خطيرة!!
كان بولص يان بشدة من الالم ...قلت له هل انت بخير؟...قال لا اعرف لا اعرف طلعني بسرعة ...

كان المنظر مضحكا مبكيا وانا استخرجه من تحت الاحجار...قلت له ابو راسين مو گتلك لاتخلي حجار كبار!! تفحصته كان سليما ولكنه تاذى اكثر مني لان شدة السقوط كانت من جهة تواجده!! كل ذلك حصل بعد سقوط اول صاروخ قادم من الطائرات الامريكية وقع على بعد عشرات الامتار من حفرتنا تلك
تعالت اصوات الصراخ والعويل وتوالت الضربات !! جنود يصرخون انضرب المقر قصفوه .. فلان استشهد خطية .. الجرحى هواية .. سووها والله ..
جاء ملازم اول سالم الذي كان ينام في حفرة ليست بعيدة كثيرا مع ضابط اخر من الموصل ..كانت الساعة تقترب من الرابعة والنصف صباحا .. كان لايقوى على الكلام .. اراد رفع معنوياتنا بغباء ..قال:

لاتخافون هاي ممارسة يجوز بالفرقة!!
قلت له سيدي دمروا مقر الفرقة واستشهدت ناس واتملخت ناس وتكوللي ممارسة؟؟!!
كان الخوف قد امتد به وبنا الى مالايمكن وصفه فنحن تحت رحمة طيران قاسي ومتمكن ومحترف لايجد من يرفع راسه ويرميه بطلقة واحدة!! لم يكن امامنا الا اللوذ في تلك الحفر البائسة حتى طلوع الفجر
مع امتداد اشعة الشمس تراءت لاعيننا حجم الدمار الذي خلفه القصف !! عدد كبير من الشهداء والجرحى وخسائر مادية كثيرة .. اذن بدات الحرب وستستمر حتى خروج الجيش من الكويت .. وقفنا مذهولين ننظر الى بعضنا البعض ونحن لانجراء ان نصرخ متى سيتوقف هذا الجنون .هذا الانتحار ..هذه المعركة الخاسرة ..هذا الكم الهائل من دماء الشباب .. لم نفق من صدمتنا الا بصدمة اخرى .. اوامر حركة ..لقد قررت القيادة نقلنا الى قاطع البصية والانتشار باتجاه منطقة حفر الباطن ..
انها كارثة اخرى ..سيتم نقلنا على ظهور ناقلات الدبابات (فاونات) الثقيلة الحركة والقليلة المرونة وستكون صيدا سهلا لطائرات العدو!! شبح الموت سيبقى يلاحقنا!!


لقد غدر الغادرون ...

في حوالي العاشرة صباحا تجمعنا عند مقر السرية ... كان تعدادنا لايتجاوز الثلاثين شخصا اي حوالي نصف الموجود الكامل المفترض ... اوجز لنا النقيب جواد غ ب الامر بان امر الحركة هو التحرك على ظهور الناقلات من منطقة السلمان الى منطقة البصية ثم بعد الاكتمال يتم الانفتاح في منطقة كسر الجناح مابين فرقتي المشاة 45 و26 ... ونطلب ان يكون اركاب الدبابات على الناقلات ابتداءا من الرعيل الاول فالثاني والثالث فمقر السرية في النهاية
... ثم امرني ان اقوم بتصعيد جميع الدبابات على رمبات الناقلات كونني الوحيد من بين سائقي الدبابات صاحب الخبرة اضافة لكوني معلم سياقة دبابات تي 55 الصينية بينما بقية السائقين كانوا من المواليد الجديدة وبعضهم لم يكن في الاصل سائق دبابة وانما ناقلة مدولبة او مسرفة ... ولان غالبية الدبابات كانت لاتعمل بالنضائد - بطاريات - كون اغلبها مستهلكة وكذلك فان اغلبها كانت لاتعمل عن طريق الهواء المضغوط في ايام الشتاء الباردة ... طلبت من امر السرية ان ابقى اخر دبابة لاتمكن من تشغيل جميع الدبابات عن طريق سحبها بحبل السحب من دبابتي ... فوافق مضطرا بعد ان تهكم قائلا اعرف راح تدزنا كلنا وبعدين تدير وجهك وتروح للبيت اسبوع ماترجع !!!

كان صوت الراديو يتناهى لاسماعنا من اماكن مختلفة بصوت الرئيس الراحل صدام حسين وهو يلقي خطابة الشهير الذي استهله بعبارة لقد غدر الغادرون.. من كان يقصد الامريكان الذين اعطوه الضوء الاخضر لدخول الكويت ام حكام الخليج الذين سمحوا لطائرات العدوان بالانطلاق من قواعد على اراضيهم
تم كل شيء بسرعة وانطلقت جميع الناقلات واخرها كانت تقل دبابتي التي بقينا على ظهرها انا وجندي اخر غير بولص الذي كان في طائفة دبابة اخرى وكانت طائفته قدد هربت بالكامل فلم يبقى امامه الا ان يغادر معها ... هذا الجندي كان اسمه باسم محمد مغتاب وهو من اهالي مدينة العزيزية ... جلسنا على ظهر الدبابة ونحن لانملك الا بضع اشرطة رصاص مقاومة الطائرات ... وكنا نتبادل الاحاديث حول المستقبل المجهول الذي ينتظرنا ونمني النفس بان يكون القاطع الذي سنمسكه افضل حالا من سابقه ... كان الطريق الذي يربط قضاء السلمان الى مدينة السماوة والذي يسمى بالمملحة طويلا جدا وموحشا ... لم يقطع الملل والبرود والشعور بخيبة الامل الذي ساورنا الا صوت انفجار من احد الاطارات الضخمة للناقلة ... توقف السائق واركن ناقلته على يمين الطريق ... تفحص الاطار وهز راسه ... ترجلنا نحن ايضا وسالناه هل الامر سيء؟؟ ... قال ليس عندي اي اطار احتياط وناقلاتنا مستهلكة من ايام حرب ايران واذا انفجر اطار اخر ستكون نهاية رحلتنا هناك!!...
لم تكن تفرق معنا كثيرا ... لم نهتم للامر ... سارت الناقلة مجددا وبعد اقل من 10 دقائق انفجر اطار اخر ... نزل السائق وطلب مني انزال الدبابة من على ظهر الناقلة لانه لم يعد بالامكان الاستمرار واكد لنا انه سيعود الى وحدته ليرسل لنا ناقلة اخرى وقد يسسغرق هذا بضع ساعات وربما حتى صباح الغد على اسوء تقدير ... لم يكن لنا اي خيار ... فطلبت منه ان يتحرك قليلا الى الامام بالناقلة ثم يضغط على الفرامل فجاة حتى تسرح الدبابة للخلف بعد تحريرها من السلاسل الحديدية المربوط ببدن الناقلة لمنع انزلاقها ... وفعلا تم ذلك بنجاح وتوجس كونه كان خائفا من عدم اشتغال الدبابة حينها عند تعشيق جهاز التبديل على السرعة الخلفية - الباك- وبالتالي لو انحرفت وتوقفت في منتصف الشارع العام فانها ستقطع الطريق على السيارات ... اذا ما لم تفلح محاولات تشغيلها بالهواء المضغوط او النضائد ... ولكن الامور سارت على مايرام وتوقفت الدبابة بمحاذاة الشارع على بعد قدم واحدة من حافته ...
كانت الشمس قد غابت ... وكل ماحولنا صحراء على امتداد البصر ... وقد انهكنا الجوع والبرد ... فطلب مني باسم ان نجمع مايمكن جمعه من مواد قابلة للاحتراق اضافة لبعض الاخشاب التي كنا حصلنا عليها من بعض صناديق العتاد  وقمنا بعمل موقد في سطلة الزيت الخاصة بالدبابة بعد ان ثقبناها من عدة جهات مستخدمين الكاز الذي في خزانات الوقود للدبابة والتي كانت شبه مملوءة ... وهكذا بقينا حتى حوالي التاسعة مساءا على ظهر الدبابة ... ثم قررنا ادخال الموقد بعد ان تحول مافيه الى جمر الى داخل الدبابة وقررنا اغلاق ابوابها من الداخل باحكام واللوذ فيها حتى الصباح ... حيث طويت انا كرسي السائق للخلف وتمددت باتجاه الخلف حيث كرسي رامي الدبابة بينما تمدد باسم تحت كرسي المخابر وهي اوسع نوعما ... بقيننا حتى الحادية عشرة هكذا ونحن نتبادل الاحاديث لقتلل الملل ... حتى استنفذ الجمر وبداء البرد يفرض سطوته علينا ... ومع مرور الوقت بدانا نسمع اصوات تصدر من حول الدبابة تتلاشى مع قدوم اي عجلة على الطريق ثم تعود للظهور بعد ابتعاد العجلة او المركبة ...
لم يتحمل باسم فقال سافتح باب المخابر في الاعلى لارى ما الامر ... قلت له خذ معك القضيب الحديدي - هيم - لاننا ليس معنا اسلحة شخصية ... دفع الباب للاعلى قليلا وسحبه مجددا بسرعة واغلقه ... قال هاي صوت ذيابة قريبة على الدبابة ... قلت له كيف عرفت انها ذئاب ... قال انا فلاح ابن فلاح من الكوت وقضيت عمري بالارياف وبالمزارع والحقول ...
قلت له اسمع ساشغل مصابيح الدبابة الرئيسية لفترة وجيزة وانت حاول ان تسترق النظر لكن لاترفع الباب كاملا للاعلى ... عندما انرت المصابيح صدرت منه شهقة قوية ... قال تعال شوف عيونها شلون تلمع يمكن بيها 7-8
قلت له اغلق الباب ولننتظر حتى الصباح فليس بامكاننا عمل اي شيء الان . ...
عند الصباح لم توحي لنا المشاهد انه سيتغير شيئا في الامر ... لم يكن احد يلتفت لنا ولايتوقف ليسالنا من انتم وماتفعلون هنا ... بقينا هكذا حتى عصر اليوم وقد انهكنا الجوع تماما ...توقف فجاءة بيكب ابيض فيه رجل خمسيني العمر مع زوجته سالونا ان كان معنا طعام او ماء ...فاجبنا سلبا ...قالوا سنعود اليكم او سنرسل لكم شيئا من الطعام ...قبل الغروب عاد نفس البيكب وكان الرجل نفسه ... احضر لنا جليكان ماء وخبز وتمر وبعض الخضراوات ... شكرناه كثيرا ...واعطيناه جليكان كاز لان الوقود كان اصببح شحيحا وصعب الحصول عليه من منافذه ... نمنا تلك الليلة كسابقتها ...وفي الصباح كنا نامل ان ياتينا الفرج دون جدوى حتى اذا حل المساء توقفت سيارة عسكرية نزل منها ضابط برتبة عقيد وسالنا عن وضعنا فشرحنا له الامر فوعدنا بالمساعدة وانه سيبلغ مقر الفرقة بالامر وتركنا مودعا وشكرناه لاهتمامه ... قلت لباسم اعتقد اننا سنبقى هنا لايام ...قال نعم هذا واضح لكني سانتظر اذا تريد ان تذهب لاهلك فلا تنتظر ... قلت هل ادعك لوحدك ...قال لاتفرق معي انا ابن الريف وربما سياتون غدا او بعده فقط ان كان معك ان تقرضني 5 دنانير ربما احتاجها لانه لم يبقى معي شيئا ... كان معي حوالي 20دينار فاعطيته 5 منها ...وبقينا رغم الظلام على ظهر الدبابة نلوح لاي سيارة قادمة من السلمان باتجاه مدينة السماوة ...مرت ساعات حتى تسرب الياس الى قلبي ...لكن شاءت الاقدار قبل ان اقرر البقاء مرور بيكب يستتقله عسكريون ومعهم جنود في الخلف - البودي - الذي كان دون غطاء متكومين على بعضهم البعض من الهواء البارد وزخات المطر المتقطعة ...هل تصلون للسماوة سالتهم ...فاشاروا لي بسرعة ...قفزت بسرعة مودعا باسم ... نلت من البرد مانلت ...حين وصلنا للسماوة كانت تغرق بالظلام كانت الساعة حوالي 11 ليلا واصوات صافرات الانذار والقصف الجوي بكل مكان ...نزلنا بسرعة من البيكب انتشرنا كل باتجاه ...ذهبت الى مراب السماوة كان خاليا تماما من الحياة ...لامفر يجب ان انام في الفندق حتى الصباح ...اتجهت الى فندق دنيا في وسط السوق كنت قد نمت فيه سابقا ...الباب مغلق ناديت على الحجي ...
جاء مع فانوسه ...رجوته ان يفتح الباب ...ففعل ... قلت اريد غرفة سريرين وشوية اكل ...قال غرفة انطيك بس ليش مال نفرين ...قلت له ملابسي مبللة تماما بالماء لاني غصت في حفر الشوارع وانا اركض من القصف والدنيا ظلام وراح انزع كل ملابسي واتغطى ببطانيتين ...قال طيب ولكن ليس عندنا اي طعام ليش ماتعرف الوضع !!
صعدت الى غرفتي لاحت لي في الممر سلات الاوساخ وجدت فيها ضالتي بعض بقايا الخبز وعظام دجاج فجمعتها واشبعت بها عصافير بطني ولو الى حين ... كانت ليلة رهيبة من اصوات القصف القريب مرت علي كانها دهر ...في الصباح توجهت الى الكراج مجددا وهناك كانت مفاجات جديدة بانتظاري حتى وصلت للبيت ...



يامحلى النصر بعون الله ..


نهضت صباحا وانا الذي لم انم الا سويعات قليلة بسبب اصوات القصف المستمر... كانت ملابسي العسكرية قد نشفت الى حد ما ... ارتديتها على عجل وغادرت الفندق بعد ان دفعت عدد من الدنانير...في الطريق الى مراب السماوة كان بائع ساندويجات بيض وعدد من الجنود حوله ...شققت طريقي بينهم وحصلت على واحدة دفعت ثمنها وبسرعة اتجهت الى حيث تصطف الباصات نحو بغداد...لم اجد لها اثرا...كان هناك باص واحد متجه للناصرية...اقنعني (السكن) او صبي السائق ان اصعد معهم الى الناصرية فمن هنا لن اجد باصا يقلني الى بغداد... حال وصولنا الى المدينة انزلنا السائق بعيدا عن المراب الرئيسي بسبب قصف الجسور وانقطاع الطرق... قرب احد الجسور كانت حفرة بعمق 4-5 امتار وبنفس القطر احدثتها احدى قنابل العدو التي اخطئت الجسر بامتار قليلة...ولكنها عادت فاصابته اصابة قاتلة واستشهد عشرات من مستخدمي الجسر عسكر ومدنيين... تم نصب جسر خشبي صغير لعبور النهر لايتجاوز عرضه متر واحد وطوله حوالي 50-70 متر وكان هناك منتسب من الانضباط العسكري في كل جهة يحث السابلة على العبور ركضا وكان يهتز بقوة من اثر تزاحم الناس على استخدامه ...بعد عبوري بدقائق سمعت انهم ضربوه ايضا واستشهد وغرق عدد من السابلة...
كان مراب الناصرية قد ضرب ايضا واضطرت الباصات الى تحميل الركاب من مقتربات الجسر...مفاجاة هناك التقيت علي وهو شاب صغير لايتجاوز عمره 18 سنة وهو مطوع على صنف الطبابة نسب الى سريتنا ... اقبل علي مسرعا وكانه وجد ضالته...ابلغني بانه يود ايضا الذهاب لاهله في مدينة صدام -انذاك- ولكن لم يبقى معه الا دينار وبضعة دراهم... احرجني الموقف لان ماتبقى معي يوصلني بالكاد الى الموصل . ..فقلت له اصعد لايهم ساقرضك بضعة دنانير...وسانزل في الاسكندرية عند بيت شقيقتي لاقتراض مبلغ يوصلني الى الموصل...رفض علي فكرة نزولي لانني قد لا اجدهم هناك فمئات العوائل تركت المتطقة وهربت كونها هدف حيوي لطائرات العدو بوجود منشات التصنيع العسكري هناك...صعدنا في باص الى مدينة الكوت ...كانت قد نالت نصيبها من القصف والقتل...مراب المدينة تحول الى بركة من دماء الشهداء الذين سقطوا نتيجة قصف الطائرات الامريكية... عبرنا الى الجهة الاخرى بزورق لايتسع ل4 اشخاص في الحالات الاعتيادية لكننا كنا 10 !!!!
كان يتمايل كما الريشة في مهب الريح ووصلنا بقدرة الجبار العظيم... حصلنا على باص حشر فيه ضعف عدد مايستوعبه ونمنا في ممراته ... المهم ان نصل الى بغداد احياء ...
هناك كانت اللوحة لاتختلف عن سابقتها من حيث الدمار والموت...وصلنا ونحن لم يبقى معنا درهم واحد...طلب مني علي ان اذهب معه الى البيت ليعيد لي ما اقرضته له وفوقها بضعة دنانير تكفيني لاصل للبيت...استوقفنا تاكسي وقلنا له سندفع عندما نصل الى البيت ...كان عراقيا شهما وافق دون تردد ورفض اخذ الاجرة الا بعد ان توسلنا به ... رفضت ان استريح او ابيت عند بيت علي ...كان والداه العجوزان طيبان جدا واعطوني 5 دنانير ثم اعطتني والدته بعض الطعام ودعوا لي بسلامة الوصول
كان الوقت ليلا وبعد معاناة وصلت للموصل ومن ثم الى البيت حيث بقيت عدة ايام ...حتى وجدت الظروف تجبرني على العودة وهذه كانت معاناة مضافة لن اتطرق لها وسابداء معكم من وقت وصولي الى منطقة البصية..
حال وصولي ارسل النقيب جواد امر السرية بطلبي وبداء بسيل من الشتائم والاهانات بسبب تركي الخدمة وهددني بانه سيحيلني الى انضباط الفرقة ثم الى المحكمة ثم ... الخ ...كان ملازم اول سالم من اهالي الموصل حاضرا ...ما ان انتهى امر السرية من محاضرته حتى بادرته بهجوم اعنف وافهمته بتركنا في الصحراء دون ان يسال عنا احد ثلاثة ايام ...وان عليه ان يرسل معي (ربعه) الهاربين وقلت له بالحرف الواحد هل تظنني مواليد 70 (كانت تلك المواليد مستجدة في الخدمة يومها) حتى تخيفني ...اذا اردت ادخالي الهروب فانا عائد الى البيت فالهروب هو اسبوعا كان ام شهرين...ولكني ايضا سامر على مقر الفرقة لاعطي لاستخبارات الفرقة اسماء الجنود الهاربين والذين تغطي عليهم ...في امان الله
تركته وكنت انوي فعلا ان اعود للبيت ولكن طبعا لن امر على مقر الفرقة لان نصفهم كان دخل الهروب ايضا !!! وتاهت الامور عليهم...لحقني ملازم اول سالم وهو يحاول اقناعي بالبقاء وهو يقسم ان امر السرية لم يدخلني الغياب اصلا...وجاءني بولص فاخبرني بانه لم يغيب ايضا فقنعت بالبقاء...
كانت الايام التالية صعبة جدا حيث لاتصلنا الارزاق ولا المياه الا بشق الانفس ... حتى سيارات الحوانيت لم يكن فيها الا بعض التبغ والتمر الخايس... كنا 3 جنود تعييننا هو كوب رز جاف واحد لكل 24 ساعة نستلمها من امر السرية...نسينا الشاي المحلى بالسكر فكنا نمضغ التمر مع الشاي المر.. حتى عندما ضرب مذخر الفرقة وتطايرت اكياس الطحين واختلطت حباته مع حبات الرمل كنا نذهب لنحضر بعض الطحين لعمل الخبز ولكم ان تتصورا كيف كنا نهضمه ونبتلعه مع حبات الرمل. جائنا يوما ضابط توجيه كبير اجتمع معنا فطلب منه احد الجنود ان يوفروا لنا شايا وصمون وتتن واقسم باننا سندافع حتى الموت رغم اننا لانملك الا قليل من العتاد والجبهة التي تمسكها سريتنا كسر جناح فرقتي مشاة 26 و45 طويلة جدا وتحتاج الى كتيبة على الاقل ...فكان جوابه توجيهيا لايغني ولايسمن ...ادركت حينها اننا في جيب مهلك ونهايتنا الماساوية مسالة وقت ليس الا...
كنا نتابع الاخبار المتضاربة حول موافقة العراق على الانسحاب تارة ونفيه تارة اخرى ثم تولد لنا شعور بان الهجوم البري ات لامحالة ... القشة التي قصمت ظهر البعير ذلك اليوم والذي يصادف تاريخه مثل اليوم تماما 23-2-1990 اي قبل 25 عاما بالضبط هو طلب امر السرية مني ان اشغل دبابتي واقوم بالمرور على جميع دبابات السرية المتفرقة على امتداد كيلومترات كونها لاتعمل الا بالسحب...وكان طلبا تعجيزيا ومعناه الموت المحقق لانني لن افلت من طائرات التحالف التي تتسيد الجو...فرفضت بشدة فعاد الى التهديد وهنا لم اتمالك نفسي فاجبته بما يستحق وقلت له انا ذاهب وانت تعرف انني انتظر الراتب فقط بعد ايام قليلة ولكن الان طز بالراتب في امان الله...
انطلقت الى الطريق النيسمي باتجاه تل اللحم- الناصرية ...لحقني هو وملازم اول سالم وهما يهددان تارة ويتوسلان تارة اخرى فلم التفت واصلت طريقي ...كانت الامطار حولت الارض الى طينية لزجة ...جمعت بعض الصمون المتساقط على الارض من احدى عجلات الايفا المقصوفة ونزعت ماحوله من الطين وحشيت جيوب قمصلتي العسكرية بما تيسر لي منه... مشيت ساعات وساعات اخرى اتنقل من عجلة الى اخرى ...وصلت الى الناصرية صعدت في باص متجها الى البيت كان صوت الرئيس صدام حسين ملعلعا في الراديو وهو يعد الشعب بالنصر مذيلا خطاباته بمقولته الشهيرة (يامحلى النصر بعون الله) !!! كنت اضحك في سري هل هو يتحدث عنا ام عن جيش اخر غير مرئي ..كيف ستنتصر على جيش جرار مجهز باحدث المعدات وجنوده مدللون وتصلهم الارزاق والماء وكل مايشتهونه ..في المقابل 11 دبابة مرمية في جبهة تمتد 50 كيلومترا وهي لاتعمل وليس فيها عتاد كاف وجنودها نصفهم هاربون والباقون منهكون بلا امل .. انها حرب غير متكافئة والشروع بها والسير باتجاهها هو منتهى الغرور والغباء ..وكنت اتسائل كم من الوحدات حالها كان مثلنا وربما اسوء..
وصلت الى البيت ..وفي صبيحة يوم 26 شباط اي بعد ثلاثة ايام تحديدا .كنت استمع للراديو وهو يعلن عن.شروع العدو بالهجوم البري على قطعاتنا وكان قاطعنا المهلهل هو الثغرة الاولى والاكثر ضعفا التي استغلتها قوات التحالف ولا اعرف مصير من تبقى من زملائي بما فيهم الضابطان الذين ذكرتهم ..ولكني اعرف ان زميلي بولص وحازم من الموصل كانا ايضا قد تركا السرية قبل وقوع الهجوم البري ونجيا بحياتهما والتقيتهم لاحقا
ولازلت الذكريات عالقة في ذهني كانني عايشتها بالامس فقط ..

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

720 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع