رسائل هادفة لمعالجة قضايا عراقية ساخنة / الحلقة الثالثة

                                         

   رسائل هادفة لمعالجة قضايا عراقية ساخنة/ح3


     

             

      

                        
انسحاب القوات الأمريكية من المدن هل سيؤدي إلى استمرار العنف في العراق؟

تتزايد تصريحات السياسيين والعسكريين والأمنيين منذ مدة ليست بالقصيرة بان انسحاب القوات الأمريكية من المدن نهاية حزيران 2009 تنفيذاً لنصوص الاتفاقية الأمنية العراقية – الأمريكية، سيتسبب بزيادة العنف في العراق، خاصة بعد أن شهدت البلاد منذ نيسان الماضي ولحد الآن تزايد التفجيرات التي أوقعت مئات الشهداء والجرحى في الأرواح، والخراب والدمار في الأموال والممتلكات، منطلقين من أن انسحاب قوات أمريكية قوامها (130) ألف من المدن والقصبات سيترك حتماً فراغاً امنيا لا تستطيع قوات الجيش والشرطة العراقية من ملئه، خاصة بعد أن صرح وزيرا الداخلية والدفاع عند استضافتها أمام المجلس السياسي للأمن الوطني عند مفاوضات الكتل السياسية بشأن توقيع الاتفاقية الأمنية، صرحا بعدم جاهزية القوات المسلحة بمؤسستيها الأمنية والدفاعية لضبط الأمن في العراق، ولا تزال الحاجة ماسة للاستعانة بالقوات الأمريكية لمساعدة القوات العراقية في توطيد الأمن الداخلي.
واللافت أن موضوع ضبط الأمن الداخلي ينظر إليه فقط من جانب قدرة القوات الأمنية والعسكرية على قمع الأعمال المسلحة والأعمال الإرهابية، دون النظر إلى العوامل الحقيقية المؤدية إلى استمرار العنف في العراق، والمتمثلة بالاتي:-
العامل الأول - هضم حقوق شرائح عريضة من الشعب العراقي:
لقد عمد النظام الجديد منذ الأشهر الأولى للتغيير عام 2003 إلى مصادرة حقوق شرائح عريضة من الشعب العراقي عندما اصدر الحاكم المدني بريمر بتحريض من سياسيين عراقيين قرار حل الجيش العراقي والشرطة والأجهزة الأمنية ودوائر ديوان الرئاسة والتصنيع العسكري والطاقة الذرية، وملاحقة كوادر حزب البعث بإصدار قانون اجتثاث البعث وقانون المساءلة والعدالة المستنسخ عنه، والتسبب بإقصائهم من وظائفهم وحرمانهم من حقوقهم التقاعدية، وهي (حقوق مكتسبة)، وإضافة إلى حجز الأموال المنقولة وغير المنقولة للقيادات السياسية والعسكرية والأمنية، وتجريدها حتى من مساكنها الشخصية، وتجاوز ذلك إلى استملاك تلك المساكن والاستحواذ عليها هي وأثاثها بصورة غير مشروعة ومخالفة لأحكام القوانين النافذة، ومساكن أخرى قد تم سرقة أثاثها، ثم سرقة كل ما يمكن فصله من تلك المساكن من أبواب وشبابيك وغيرها، فضلاً عن ذلك فان كل عناوين الدولة العراقية قبل نيسان 2003 أصبحوا هدفاً للاعتقال أو الخطف أو القتل، ولمن أراد أن ينجو بنفسه وعائلته فقد اضطر مكرهاً للهجرة خارج العراق.
وبلا شك فان أعداد هذه الشرائح المهضومة حقوقها والمستهدفة في حياتها وعائلاتها وأولادها وإخوانها وأقاربها يعدون بالملايين، لا يمكن الافتراض بأنهم يستسلمون، وخاصة الشباب منهم لمصيرهم المحتوم بالتهجير والاختطاف والاعتقال والقتل، مما يسهل اجتذابهم من قبل القوى التي عملت في الساحة العراقية بعد الاحتلال، سواء بصيغة المقاومة المسلحة المشروعة ضد الاحتلال، أو في معرض الدفاع عن النفس، أو في الأعمال الإرهابية..
وعليه ما لم يتم إعادة الحقوق المهضومة لهذه الشرائح العريضة لا يمكن التسليم بانتهاء العنف في البلاد.
العامل الثاني - الإبعاد والإقصاء للوطنيين:
لقد تشكلت الحكومات منذ نيسان 2005 ولحد الآن على أساس المحاصصة العنصرية والطائفية، بل قد تجاوز الأمر نطاق الطائفة أو القومية إلى المحاصصة الحزبية، فعمد الوزراء من كل حزب إلى إقصاء اغلب الموظفين العاملين في وزاراتهم، من غير أتباع الأحزاب التي ينتمون إليها، وقد شخص العديد من السياسيين بما فيهم المسؤولين في الحكومة أو مجلس النواب أن عدداً من الوزراء، قد جعلوا وزاراتهم حكراً على عناصر أحزابهم، أمثال وزار ة الصحة ووزارة التربية ووزارة الداخلية ووزارة الخارجية ووزارة الأمن الوطني وغيرها، أما القيادة العامة للقوات المسلحة ومنتسبي الجيش والشرطة الاتحادية فقد غلب على معظم مفاصلها طيف واحد، بل غلب على قياداتها حزب رئيس الحكومة نوري المالكي وحزب الدعوة، وقد سبق أن شكى التحالف الكردستاني من هذه الظاهرة مشيراً إلى تجميد صلاحيات رئيس أركان الجيش الفريق الأول بابكر الزيباري...
إن إقصاء الموظفين من دوائرهم بذرائع مفتعلة، وحرمانهم من مصدر رزقهم، والحيلولة دون قدرتهم على إعالة عوائلهم، يثير حفيظتهم ونقمتهم على النظام الحالي وحزب الدعوة بالسيطرة على كل مفاصل الدولة، مما يدفعهم إلى الإقدام على ارتكاب أية أعمال انتقامية ثأراً لإبعادهم وقطع أرزاقهم...
العامل الثالث - اعتقال الأبرياء:     
لقد تميزت الحكومات وخاصة (حكومة رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي) منذ نيسان 2005 إلى الآن بشن حملات مستمرة لاعتقال المواطنين في عموم العراق تحت ذرائع الإرهاب، ولقد صرحت المحامية سحر الياسري في مؤتمر مناهضة الإرهاب في (بروكسل) قبل أكثر من سنتين أن عدد المعتقلين العراقيين قد تجاوز (400) ألف معتقل بضمنهم (10) آلاف امرأة و(9500) آلاف حدث، 95% منهم مغتصبين، وعند مقاربة هذا الرقم مع تصريح الناطق باسم مجلس القضاء الأعلى القاضي عبد الستار البيرقدار قبل أكثر من ثمانية أشهر، من أن عدد المشمولين بقانون العفو العام رقم (19) لسنة 2008 قد بلغ (316) ألف في حينه وان اللجان مستمرة بنظر قضايا باقي المعتقلين، فقد رد عليه في ساعته النائب عبد الكريم السامرائي من على شاشة الشرقية، من أن المعتقلين المفرج عنهم فعلياً المسجلين لدى لجنة الأمن والدفاع هو (17) ألف معتقل فقط.
لقد شهد عاما 2006 و2007 تصفية عدد من المعتقلين ورمي جثثهم في الشوارع والساحات وشبكات الصرف الصحي والمزابل، حتى أضحت ظاهرة يومية لعدة أشهر.
لقد تكررت لعدة سنوات مضت تصريحات السياسيين والبرلمانيين من اتهام أجهزة الحكومة (حكومة نوري المالكي) بالاعتقالات العشوائية لآلاف المواطنين الأبرياء، ثم طفت على السطح ما عرف بالاعتقالات بناءاً على إفادات (المخبر السري)، وتميزت طروحات نواب التيار الصدري وأعضاء لجنة حقوق الإنسان في مجلس النواب، وخاصة نائب رئيس اللجنة المرحوم الدكتور حارث العبيدي الذين فضحوا من على شاشات الفضائيات على خلفية مقابلاتهم للعديد من المعتقلين والمعتقلات من النساء، لقد فضحوا جميعاً من خلال مشاهداتهم لآثار التعذيب الجسدي للمعتقلين، والتي تم عرضها على شاشات الفضائيات، وقد زادوا عليها كشف عدد من المعتقلين والمعتقلات جرائم اغتصاب بحقهم، مما أثار سخط الرأي العام، ودفع برئيس مجلس الوزراء نوري المالكي ووزير الداخلية باقر صولاغ وجواد البولاني ورئيس مجلس القضاء الأعلى مدحت المحمود إلى تشكيل لجان للوقوف على هذه الظاهرة الخطيرة، والتي لا تزال أصداؤها تخدش ضمير العراقيين خاصة والعالم عامة، ولكن لم تظهر أية نتائج لهذه اللجان كما حصل مع عشرات اللجان التي سبقتها.
يضاف إلى ما تقدم الاحتفاظ بالمعتقلين لعدة سنوات دون عرضهم على القضاء لتقرير مصيرهم، ولا أدل على صحة ذلك من اعتراف قانون العفو العام رقم (19) لسنة 2008 بالمادة (3) منه على بقاء أعداد من المعتقلين أكثر من ستة أشهر دون عرضهم على قاضي التحقيق، وبقاء آخرين أكثر من سنة دون عرض قضاياهم على محكمة الموضوع، ورغم مرور أكثر من سنة على شمول الكثير منهم بالعفو إلا انه لم يطلق سراحهم من المعتقلات، لا بل صدر قرار رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي بإعادة المعتقلين المفرج عنهم إلى السجون العراقية، بحجة تدقيق ملفاتهم.
إن شعور المعتقلين بالظلم الواقع عليهم، لتيقنهم عدم ارتكابهم ما يبرر اعتقالهم، ويضاعف من مرارة شعورهم صيغة الإذلال والاهانة التي تمارس عند اعتقالهم ووضع الأكياس على رؤوسهم والأصفاد في أيديهم والضرب المبرح على أجسادهم أمام عوائلهم، وطول مدة اعتقالهم وتوافق ذلك مع التعذيب النفسي والجسدي، وبقاء عوائلهم دون معيل، تعاني من وطأة الحاجة والعوز والتشرد أحياناً، كل ذلك ينعكس بآثار نفسية حادة عليهم وعلى إخوانهم وأبنائهم وعوائلهم يمهد لانخراطهم في الأعمال المسلحة أيا كانت توصيفاتها..
 
العامل الرابع - القصف العشوائي:
شهدت عدد من المحافظات قصفاً عشوائيا من قبل قوات التحالف خاصة محافظات (بغداد والانبار وديالى ونينوى وصلاح الدين) وبنسبة اقل المحافظات الأخرى، على مدى سنوات ما بعد الاحتلال في التاسع من نيسان 2003، تسبب ذلك القصف باستشهاد وجرح وعوق آلاف العراقيين، وتدمير وتخريب مئات المنازل والمحال التجارية والمعامل، والآليات، بل تجاوز آثار القصف إلى تدمير عشرات المساجد، دون أن تبادر قوات التحالف أو الحكومة بالاعتذار للمتضررين، وتعويضهم عن ضحاياهم، وعن الأضرار المادية التي طالت ممتلكاتهم، من باب جبر الضرر المعنوي والمادي، الذي لو حصل لرفع معنوياتهم ومهد لانخراطهم في المجتمع مجدداً، ولكن تعمد إهمالهم وتجاوز معاناتهم، يحفز الكراهية في نفوسهم ويدفعهم إلى معاداة نظام المحاصصة العنصرية والطائفية، وربما إلى استهدافه، في سياق صيغ المقاومة المسلحة، التي تغذي الثقافة الدينية مشروعيتها.
العامل الخامس - البطالة:
تشير إحصائيات المنظمات الدولية وكذلك وزارة التخطيط إلى تزايد معدلات البطالة إلى 40% من حجم القوى العاملة في العراق، وهذه الظاهرة تمثل سببا من أسباب انخراط العاطلين في أعمال العنف، بسبب الحاجة والفاقة والعوز، حيث تجد فصائل المقاومة المسلحة، أو القوى الإرهابية أو أية كيانات سياسية متطرفة، أو منظومات استخبارية إقليمية، أو دولية، الطريق ممهداً لاستقطابهم في الأعمال المسلحة.
العامل السادس - التدخل الإيراني:
تواترت تصريحات وزارة الدفاع الأمريكية، وقيادات قوات التحالف وخاصة الأمريكية والبريطانية، وكذلك تصريحات قادة حكوميين وبرلمانيين، من أن إيران تتدخل في شؤون العراق من خلال تجنيد وتأهيل وتدريب وتسليح وتمويل ودعم المجاميع الطائفية المسلحة (الميليشيات الطائفية)، لدفعها إلى ارتكاب أعمال الخطف والاغتيال والتفجيرات لغرض زعزعة الوضع الأمني الهش في العراق، وقد تجسد ذلك بضبط القوات الأمريكية والحكومية لمرات عدة أكداس من الاعتدة والمتفجرات في محافظات عديدة مصنعة حديثاً في إيران، ومن ضمنها ضبط قوات الحدود في منطقة الكحلاء يوم 17/4/2009 زورقا محملاً بالأسلحة والصواريخ قادما عبر المياه الإيرانية إلى داخل المياه العراقية، بهدف إرسال رسائل إلى الولايات المتحدة الأمريكية بان استقرار الوضع الأمني في العراق مرهون بموقفها الايجابي من إيران، خاصة وان فيلق القدس الإيراني يمتلك من قدرات السيطرة والتحكم على مفاصل حيوية وقيادية في جهاز الجيش والأجهزة الشرطية والأمنية، يمكنه من تفجير الوضع الأمني في العراق باستمرار لإرغام الطرف الأمريكي بالاستجابة لشروط إيران فيما يتعلق بمشروعها النووي مقابل تعاونها في تعزيز الأمن في العراق.
العامل السابع - عجز الأجهزة الاستخبارية:
لقد استقرت أدبيات العلوم الأمنية على أن المعركة مع الأعمال المسلحة داخل أي بلد، هي حرب معلومات، تقوم على المراقبة السرية على مجمل الفعاليات والأنشطة المشبوهة، بحيث توفر المعلومات المتحصلة عن تحركات المسلحين إلى إمكانية إجهاض محاولاتهم قبل إقدامهم على تنفيذ مخططاتهم، وهنا تكمن أهمية وقيمة العمل الاستخباري، والواقع المفروض في العراق هو قدرة المسلحين على التخطيط لعملياتهم، والانتقال إلى الأعمال التحضيرية، بل وتنفيذ الركن المادي لتلك الأعمال المسلحة، دون أن تتمكن الأجهزة الاستخبارية من إجهاض محاولاتهم قبل تنفيذها، وعليه طالما كانت الأعمال المسلحة تضرب البلاد طولاً وعرضاً، إذن يتأكد فشل تام لنشاط الأجهزة الاستخبارية، رغم مرور أكثر من ست سنوات على أعمال الخطف والقتل والتفجير، وعند التمعن في سبب إخفاق هذه الأجهزة يتأكد أن معظم العاملين فيها متطفلون على العمل الاستخباري ولا يتمتعون بأية مؤهلات علمية في الاختصاص الأمني، أو أية مهارات مهنية، والانكى من ذلك أن اغلبهم لا يمتون للأجهزة الأمنية والاستخبارية بأية صلة، وقد فرضوا عليها لاعتبارات حزبية أو عنصرية أو طائفية، تقوم على الولاءات بصرف النظر عن الكفاءات، مما ينعكس سلباً على حياديتهم ونزاهتهم التي يستلزمها العمل الاستخباري.
العامل الثامن - غياب المعايير المهنية في تجنيد عناصر الجيش والشرطة:
بعد خطيئة الحاكم المدني (بول بريمر) ومن ناصره على جريمة حل الجيش العراقي الأصيل والأجهزة الأمنية والتضحية بموروث هذه الأجهزة الوطنية من الخبرة والمهارة، وقاعدة المعلومات المتوفرة عن الأنشطة الجنائية والمعادية لأمن العراق، ثم تجنيد عناصر الجيش والشرطة بشكل عشوائي، دون اعتماد أية معايير جدية ومنضبطة للاختيار والتعيين، وفقاً لقواعد أدبيات العلوم الإدارية والقيادية، التي تقوم على أساس تحليل الوظيفة المراد إشغالها لاستنباط الشروط اللازم توفرها للإيفاء بالتزاماتها، والتي يجب توفرها في المتطوعين، وليس من شك أن أية صيغة للانتقاء مرهونة بطبيعة وخطورة الدور الموكول للأجهزة تنفيذه، ودراسة واقع أفراد المجتمع الذي يؤدى فيه واجب ضبط الأمن الداخلي، وحفظ النظام العام من حيث مستوى تعليمهم وثقافتهم وطبائعهم المدنية والعشائرية والعقائدية، وتجانس نسيجهم الاجتماعي، إذ لم يعد اختيار المتطوعين مقتصراً على تحديد شروط اللياقة البدنية والنفسية والأخلاقية والدرجة العلمية وإنما يتعدى ذلك إلى نوع الوسط الاجتماعي الذي يؤدى فيه الواجب الأمني...
لقد أقدمت الكيانات السياسية العنصرية والطائفية والحزبية الضيقة بدفع عناصرها إلى التطوع في الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، ومن ناحية أخرى تمكنت هذه الكيانات من استصدار القرار رقم (91) لسنة 2003 بدمج المليشيات العنصرية والطائفية والحزبية في جهازي الجيش والشرطة، ولذلك فقدَ منتسبوها أهم شرط من شروط الخدمة بان يكونوا فوق الميول والاتجاهات باعتبار وظيفة هذه الأجهزة هو ضمان سيادة القوانين على الجميع، دون تمييز لأية أسباب حزبية أو عنصرية أو طائفية أو مناطقية، وتمثيلها لعموم الشعب والدفاع عنه وليس الاقتصاص منه وهذا ما لم يتوافر لهذه الأجهزة، لان ولاءات كل تشكيل هو للأحزاب السياسية التي شكلته، مما يجعل أدائها ذا توجه عنصري أو طائفي أو حزبي، يسمح بالاختراقات الأمنية التي وجدت آثارها في الانفلات الأمني الذي عصف في البلاد منذ نيسان 2003 ولحد الآن.
العامل التاسع - ضعف برامج تأهيل عناصر الجيش والشرطة:
لم تعد برامج تأهيل عناصر الجيش والشرطة والأمن الوطني، ثابتة في كل زمان ومكان، فحيث أن تعريف التأهيل يتمثل بتغيير واقع منتسبي أي جهاز من الواقع الذي هو عليه إلى واقع مأمول، ولتحقيق هذه الغاية لا بد من دراسة متطلبات ذلك الواقع المأمول، المتمثل بمواجهة الأعمال المسلحة في المدن والقصبات والبساتين والمزارع والطرق الخارجية والجبال والتلال والأنهار والمناطق المفتوحة والصحاري، لغرض تصميم تلك البرامج بما يكفل إعداد وتأهيل منتسبي الجيش والشرطة والأمن الوطني للقيام بوظيفة التصدي للأعمال المسلحة والأعمال الإرهابية، سواءاً ما يتصل بتطوير لياقتهم البدنية والنفسية أو دقة استخدامهم للأسلحة النارية لمواجهة مفاجئات المسلحين والعبوات والأحزمة الناسفة والسيارات والدراجات المفخخة.
والاهم من كل ذلك توفير قناعة المقاتلين بشرعية مهمتهم في مواجهة الخارجين على القانون، وتلك مهمة ليست باليسيرة على القائمين على برامج التأهيل، خاصة عند تكليف المنتسبين بواجبات المداهمات والاعتقالات العشوائية لمواطنين عراقيين من بني جلدتهم، حيث عمدت قوات الاحتلال على غرس صيغ العنف والقسوة والامتهان لكرامة المعتقلين أمام ذويهم في محاولة لإذلالهم واستفزاز أهاليهم وأبناء مناطقهم، وسرقة ونهب ما خف حمله وغلا ثمنه، وما عدا ذلك استهداف مساكنهم ومحلاتهم بالتخريب والتدمير التي تعرضها شاشات الفضائيات كل يوم.
وهذا الافتراق بين شرعية الواجب وممارسة التعسف والاعتداء والاهانة والسرقة والتخريب والتدمير يزيد من الهوة بين المواطنين المستهدفين وقوات الجيش والشرطة والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي الذي يصدر الأوامر بذلك، ويعاظم الحقد والكراهية عليهم ويؤسس لرغبة الانتقام منهم حالما تحين الفرصة لذلك، مما يحفز إمكانية انخراطهم في أعمال المقاومة المسلحة أو الأعمال الإرهابية، وهذا الوضع حرم الأجهزة الحكومية والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي من تعاون المواطنين معها كنتيجة حتمية للإضرار بهم عند التعامل معهم في سياق ممارستها التعسفية  والغير مهنية لواجباتها.
العامل العاشر - تدني مستوى تسليح جهازي الجيش والشرطة:
يتضح من الوقوف على مفردات تسليح الجيش والشرطة العراقية أن قوات الاحتلال التي أشرفت على برامج التسليح تعمدت أن يظل تسليحها بسيطاً، يفتقر إلى الأسلحة الضرورية المناسبة لانجاز مهمات التصدي لأعمال الإرهاب، وخاصة المليشيات العنصرية والطائفية والمجاميع الخاصة وعناصر القاعدة، لاسيما أن قيادات حكومية ومنها الناطق باسم خطة فرض القانون (قاسم عطا) والناطق باسم وزارة الداخلية (كريم خلف)، وقائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال "اودرنو" يؤكدون في احدث تصريحات لهم للأيام 27 و28 و29/6/2009، بما فيها تصريح قائد القوات المركزية الجنرال "بترايوس" بعد لقائه مع الرئيس المصري في القاهرة يوم 28/6/2009 بأن طهران مستمرة في دعم المجاميع الخاصة لاستمرار أحداثها الاختراق الأمني، وزيادة وتيرة العنف في العراق.
ومن الجدير بالذكر أن احد أهم أسباب تجنيد وتأهيل وتسليح وتمويل الإرهابيين والمليشيات الطائفية والمجاميع الخاصة ودفعهم إلى داخل العراق بسبب الحدود المفتوحة وخاصة مع إيران لمسافة تتجاوز أكثر من 1200كم، إذ أن قوات الاحتلال وعلى مدى السنوات الست المنصرمة تركت الحدود مشرعة لكل من هب ودب لتسلل الإرهابيين، وتهريب الأسلحة والأعتدة والمتفجرات والمخدرات والأدوية والأغذية الفاسدة.
إن عدم تسليح القوات العراقية بالطائرات المروحية والطائرات بدون طيار والأسلحة الثقيلة والمتوسطة، يحول دون قدرة تلك القوات على ضبط الحدود بما يسمح لبقاء تلك الحدود مفتوحة أمام المتسللين من الإرهابيين، الذي ينعكس بالتأكيد بأثر سلبي على ضبط الأمن الداخلي في البلاد، ويتعذر عند ذلك من منع زيادة وتائر التفجيرات التي عصفت بالمدن العراقية منذ نيسان 2009 ولحد 30 حزيران 2009، مما ينذر باستمرار الاختراقات الأمنية لتعذر تحجيم العوامل المؤدية لها.
العامل الحادي عشر - الهجوم على الصحوات:
إن توقيت الهجوم على الصحوات تحت ذرائع غير مقنعة رغم دورها الحقيقي في تحجيم نشاط القاعدة والمليشيات والمجاميع الخاصة في مناطقها لا بد أن ينعكس بأثر سلبي على الأمن العام، فعزوفها عن دورها في حده الأدنى في حفظ الأمن في مناطقها بحد ذاته كفيل بإتاحة الفرصة للاختراق الأمني من قبل قوى الإرهاب، وفي معرض ذلك أبدى "الكولونيل كولماير" أن اعتقال 15 قائد من الصحوات، والبحث عن 5 آخرين ولد انطباعاً بأن الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي تستهدف الصحوات، مما قد يؤدي إلى تعريض ايجابيات عملها في مناطقها، إلى التراجع، كما وجد تجسيده في وقوع عشرات التفجيرات بسيارات ودراجات مفخخة وأحزمة وعبوات ناسفة في بغداد وعدد من المحافظات، خاصة (نينوى وديالي والانبار وبابل) في الشهرين الأخيرين.
إن استهداف قيادات وعناصر الصحوات بالاعتقالات والاغتيالات منذ نيسان 2009 ولحد الآن، وسحب الدعم عنهم، وحجب رواتبهم، يزعزع الثقة بمصداقية الحكومة ورئاسة مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي وتعهداتها بدعم أية قوة تتحالف معها لضبط الأمن في البلاد، أو تترك العنف لتنخرط في العملية السياسية.
إن قيادات الصحوات قد أعربت عن قلقها بان انسحاب القوات الأمريكية من المدن، وتخلي الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي عن دعمها، قد يعرضها أو يعرض مقاتليها إلى هجمات شرسة من عناصر القاعدة والمليشيات الطائفية والمجاميع الخاصة المدعومة من إيران، وان هذا التخوف قد يدفع عناصر الصحوات اضطراراً إلى الانخراط مرة أخرى في الأعمال المسلحة دفاعاً عن نفسها، أو رداً على تخلي الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي عنها والتنكر لدورها في تطهير مناطقها من عناصر القاعدة والمجاميع المسلحة، مما ينعكس بأثر سلبي في النتيجة على الاستقرار والأمن الداخلي في البلاد.
نخلص مما تقدم أن فلسفة الحكومة الحالية رئاسة مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة تقوم على أن ضبط الأمن الداخلي في العراق مرهون بما وفرته من قوة قوامها (750) ألف منتسب من وزارتي الداخلية والدفاع، إضافة إلى (220) ألف منتسب شرطة لحماية الوزارات والمؤسسات الأخرى، وفقاً لتصريحات (كريم خلف) الناطق باسم وزارة الداخلية و(قاسم عطا) الناطق باسم قوة فرض القانون و(محمد العسكري) الناطق باسم وزارة الدفاع، تم نشرهم في عموم العراق كتهيء سبق انسحاب القوات الأمريكية من المدن، في حين لم يتجاوز منتسبي وزارة الداخلية في النظام السابق، من منتسبي مديريات الشرطة العامة والمرور والجنسية والحدود (70) ألف منتسب، بمعنى هذا الرقم مضروباً بأكثر من 10، والاختراقات الأمنية مستمرة والخسائر فادحة...
انه لمن الجدير بالذكر أن استقرار الوضع الأمني في البلاد لا يتحقق بعسكرة الشارع من خلال نشر (750) ألف عسكري و(220) ألف من شرطة حماية المؤسسات، وإنما من خلال معالجة العوامل الأحد عشر المؤدية إلى الاختراقات الأمنية، ويأتي في مقدمتها تفعيل مشروع المصالحة الوطنية، وتحويله من شعار للدعاية وللكسب الحزبي والسياسي، أو لمواجهة مطالب جهات عربية بضرورة رأب الصدع ولكن حقيقة الأمر أن هذه المحاولات ما كان غرضها سوى كسب الوقت لتيئيس وإحباط المواطنين، وإصرار الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي على التلاعب بالألفاظ وعدم التعامل بمصداقية وشرف المسؤولية مع مشروع المصالحة السياسية، وهو ما دفع الرئيس الأمريكي "باراك اوباما" يوم 1/7/2009 إلى تكليف نائبه جوزيف بايدن (العمل على تفعيل جهود المصالحة السياسية في العراق)، بما يكفل إعادة الحقوق المهضومة السياسية والقانونية والمادية والمعنوية لشرائح عريضة من الشعب العراقي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية تمثل كل عناصر الطيف العراقي، على أساس المشاركة بالمسؤولية والقرار وليس على أساس المحاصصة المقيتة، ومغادرة صيغ الإبعاد والإقصاء التي طبعت منهج الحكومات التي شكلت منذ نيسان 2005 ولحد الآن، لتجاوز شكوى الكيانات السياسية مثل التوافق والتحالف الكردستاني والتيار الصدري وحزب الفضيلة والمجلس الأعلى والقائمة العراقية، التي أكدت على غياب المشاركة الجماعية في القرارات السياسية لمجلس الوزراء الذي استقال على أثره 17 وزيراً عام 2007، وضرورة الإسراع بتفعيل المادة 142 لتعديل الدستور الذي ظل محل خلاف في كثير من مواده، والعمل على تعويض الشهداء والجرحى والمعاقين والمعتقلين والأبرياء، وكذلك ملاك المنازل والمحال التجارية والصناعية.
يضاف إلى ما تقدم وجوب تسريع معالجة ظاهرة البطالة التي تجاوزت 40% من القوى العاملة والأرامل والأيتام، وإعادة الممتلكات المصادرة لأصحابها إحقاقا للحق، ورفع مستوى المعيشة المتدني للشعب العراقي الذي يعاني 43% منه العيش تحت خط الفقر، وهؤلاء بمجموعهم بسبب الحاجة والفاقة والعوز يمكن استقطابهم من قبل قوى مختلفة متمثلة بالكيانات السياسية المتطرفة، أو منظومات استخبارية إقليمية أو دولية، ودفعهم إلى الانخراط في الأعمال المسلحة أو الإرهابية.
وبشكل متزامن مع كل الحلول والمعالجات المقترحة فان العامل الأكثر ضرورة بالتصدي هو الحد جدياً من التدخل الإيراني في الشأن العراقي بعد الإجماع المستمر بتوكيد وجوده على مدى السنوات المنصرمة، والتي توجت بأحدث التصريحات لقائد القوات المركزية "الجنرال بترايوس" يوم 28/6/2009 بعد لقاءه بالرئيس المصري في القاهرة، باستمرار إيران بتدريب وتسليح وتمويل المليشيات التي تقوض الأمن في العراق، وأكد ذات المعنى "الجنرال اودرينو" قائد قوات التحالف في العراق والسفير الأمريكي "هيل" يومي 27 و28/6/2009، فضلاً عن تصريحات وزير الخارجية العراقي (هوشيار الزيباري) باستمرار تدخل إيران في الشؤون الداخلية للعراق، كما أكد الناطق باسم وزارة الداخلية (كريم خلف) والناطق باسم خطة فرض القانون (قاسم عطا) والنائب (عزت الشابندر)، بان الأعمال الإرهابية والاختراقات الأمنية تقف وراءها المجاميع الخاصة المدعومة من إيران، إضافة إلى وجوب تسريع تسليح القوات العراقية بطائرات مروحية وطائرات بدون طيار وأسلحة ثقيلة ومتوسطة وتطهير قوات الحدود من العناصر الطائفية ذات الولاءات الإيرانية، وتعزيزها بالأسلحة والمعدات الضرورية لضبط الحدود الدولية ومنع التسلل للمجاميع الخاصة والميليشيات الطائفية والقوى الإرهابية، فضلاً عن تطهير وزارات الداخلية والدفاع والأمن الوطني وجهاز المخابرات والمحافظات من التغلغل الإيراني الذي يقف وراء معظم الأعمال الإرهابية في العراق باعتراف اغلب المسؤولين والقياديين الحكوميين والأمريكيين.
وعلينا قبل ختام البحث الإشارة إلى أن ذكر المقاومة بجانب الإرهاب كتحصيل حاصل لتراكم الأخطاء وبؤس السياسة لا يعني المساواة بينهما، فالمقاومة جهاد وعمل شريف وطريق يختاره من لا يمتلك وسيلة أخرى لإنقاذ البلاد من الكارثة التي ألمت به، أما الإرهاب فهو جريمة وفتنة وضلالة.
وصفوة القول إن مشكلة قيادات النظام السابق أنها لم تعترف بأخطائها التي أوصلت البلاد إلى التغيير واحتلال العراق، وإذا كان الاعتراف بالخطأ فضيلة فلا بد للكيانات السياسية التي تحكم العراق منذ نيسان 2003 إلى الآن أن تعترف بان العراق كان في ظل النظام السابق أيا كانت سلبيات ذلك النظام، بلداً نظيفاً تماما من عناصر القاعدة وأعمال الإرهاب والمليشيات العنصرية والطائفية والمجاميع الخاصة المدعومة من إيران، ومن الاختطافات والتفجيرات والعبوات الناسفة، والانتحاريين بالسيارات والدراجات المفخخة والأحزمة الناسفة، وتهريب الأسلحة والاعتدة والمتفجرات والمخدرات والأدوية والأغذية الفاسدة، وتسلل الإرهابيين عبر الحدود التي كانت محكومة السيطرة عليها تماماً، والحد من شيوع ثقافة التعصب العنصري والطائفي والحزبي والمحاصصة المقيتة، والخطف والاعتقال والتهجير والقتل على الهوية، والتي كان من نتائجها الأليمة مئات الألوف من الشهداء وضعفهم جرحى ومعاقين ومعتقلين ومليون أرملة و3 مليون يتيم و5 مليون مهجرين في الداخل والخارج، وهجرة الكفاءات العلمية اضطراراً، فضلاً عن شيوع ظاهرة الفساد المالي والإداري التي سرقت من خلالها عشرات المليارات من الدولارات والتي صنفت المنظمات الدولية العراق تسلسل رقم 3 بالفساد بعد مانيمار والصومال من أصل 180 دولة في العالم.
وعليه فإن حكام ما بعد التغيير وخاصة القادمون مع التحالف الغربي، مطالبون بان يدركوا تماما بان معضلة العراق سياسية واجتماعية واخلاقية قبل أن تكون أمنية أو عسكرية وما المشكلة الأمنية إلا نتيجة لها وليست سببا فيها... فلا خيار لإنقاذ البلاد مما يعصف به من اضطراب امني مدمر غير الحل السياسي الذي يرضي كافة شرائح المجتمع العراقي دون إقصاء أو تهميش أي مكون لأسباب عنصرية أو طائفية أو حزبية أو مناطقية، بعد أن ثبت على مدى ست سنوات منصرمة استحالة حكم العراق من قبل قومية أو طائفة أو حزب واحد مهما أوتي أي منها من قوة أو دعم إقليمي أو دولي، وتلك حكمة التاريخ وحري بكل حاكم أن يستوعب التجارب التاريخية ولسوف يجد انه لن يبقى في ذاكرة الزمن مشرقا إلا حكم يقوم على العدل، والمساواة، وتقوى الله في عباده فما كانت القوة حصنا لحاكم ولا يغرن احد بالله الغرور.

الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز المفتي
عمان 12 حزيران 2009
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2191 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع