الخدم.. أهو الإحسان ما ينقصهم؟

                                         

                           هند السليمان


كهبة إلهية أو لعنة سماوية أو لعله كلاهما، تفجرت هذه الأرض المليئة بالأسرار والحكايا بسائل أسود، وليكتمل سحر هذه الأرض وسحر الحكاية لم يكتشف هذا الكنز إلا غرباء أتوا من مكان وزمن آخر، لينتقل أبناء هذه الأرض وخلال فترة محدودة لزمن آخر. لنجد أنه خلال أعوام قصيرة وبشكل مفاجئ، حاصرتنا الحداثة بكل منتوجاتها وقيمها بشكل سريع ومكثف.

أبهرتنا المقتنيات المادية لتلك الحداثة وبدأنا بالغرق فيها استهلاكاً وخضوعاً. وأن كنا -وما زلنا- نحاول مقاومة المنتج غير المرئي من الحداثة بقيمها وفلسفتها، هذه المقاومة لا تعني هزيمة القيم الغربية ومفاهيم الحداثة في منطقتنا، بقدر عدم القدرة بعد على إنتاج نظام قيمي ومفاهيمي ينطلق من امتزاج الواقع الجديد مع الامتداد التاريخي والثقافي لهذا المكان.

خلال فترة زمنية قصيرة، انتقلت بيوتنا من بيوت طينية إلى إسمنتية تستلزم معها «إكسسوارات المنزل الحديث»، من أفران كهربائية وغسالة وأدوات منزلية تعمل بضغطة زر. ولأن الانتقال إلى منازل كبيرة يتطلب نمطاً معيشياً مختلفاً، بتفاصيل وإدارة منزل مختلفة، وهذا قصة أخرى تحكى في وقت آخر، هذا الانتقال أوجب الحاجة إلى مساعدات منزليات أو ما يطلق عليهم «خدامات». ليتزامن استدخال الأدوات المنزلية مع دخول العاملات المنزلية، ليتم التعامل معهن وكأنهن إحدى أدوات أو «إكسسوارات المنزل الحديث». ومن هنا وجود الخادمات داخل البيوت أحدث خللاً وإرباكاً لكل من أصحاب المنزل وللعاملات أنفسهن. ولعل صحفنا وأحاديث المجتمع تمتلئ بقصص لا تنتهي عنهن من أحاديث عن كسلهن وتلاعبهن إلى جرائمهن داخل البيت من سرقات للممتلكات أو الأزواج، وأحاديث عن تعذيب للأطفال وسحر لأهل البيت والقائمة تطول. كل هذه الأحاديث وأخرى نسمعها من أرباب العمل. وأخيراً بدأنا نسمع قصصاً من الجهة الأخرى من الحكاية تحكيها العاملات المنزلية في صحف أجنبية عن سرقة لرواتبهن واستغلال جسدي وجنسي وعنف...، فما الذي يحدث داخل بيوتنا؟ ولماذا يحدث على هذه الصورة؟

دخول العاملات المنزلية ومختلف أنماط العمالة المنزلية لبيوتنا لم يأتِ إلا بعد فترة زمنية قصيرة من وقت إصدار قانون منع الرق في السعودية. هذا القانون كانت السعودية آخر دولة توقع عليه.

القانون لم يأتِ من وعي مجتمعي بمفاهيم كالمساواة والآخر والعمل والأجر، وكل المنظومة المفاهيمية المرتبطة بقضية الرق. ومن هنا فإن ما حدث هو منع للرق قانوناً، ولكن لم يتم اقتلاعه من البنية الذهنية والثقافية للمجتمع، وهذا ما يفسر جزءاً من إشكال علاقتنا مع العمالية المنزلية.

لعل مثالاً في حالة كهذه قادر على استيضاح الفكرة: اشتكت لي إحداهن من كثرة خلافاتها مع سائقها، وأنه أصبح كثير التذمر والاستغلال المادي على رغم أن راتبه بحدود ٢٠٠٠ ريال. قلت لها حينها: ضعي نفسك مكان هذا العامل، لا رئيس واحد ومحدد في العمل، فوالدك ووالدتك وأنت وأبناؤك، كل منهم يرفع سماعة الهاتف ليصدر أوامر لهذا السائق، وقد يحدث أن تتضارب هذي الأوامر. الأمر الآخر، لا مواعيد دوام ثابتة، فعليه أن يكون جاهزاً بأي لحظة لتشغيل السيارة والانطلاق. وهذا يحرمه من الحصول على إيقاع يومي ثابت، ومن ثم استقرار ما. الأمر الأخير أتخيل نفسي وأنا أقود سيارة في مدن أصبحت شوارعها مجالاً للتنفيس عن ترفيه مفقود أو ضغط نفسي، لينتهي الشخص، وهو يقود السيارة وسط حلقة جنون لا يعرف إن كان سيخرج منها سليماً. وفوق هذا وذاك، هو يقود السيارة ولا يقودها. فأنت تجلسين في الخلف لتقولي له: «يمين، يسار، على طول» وعليه أن يكون مستعداً بكل لحظة لتغير مسار الطريق وإلا اتهم بالغباء. ألا ترين أن طبيعة العمل بغموضها تسبب إرباكاً وإزعاجاً للسائق. ومن هنا فالحل ليس في زيادة الراتب، فقد فعلتِ ذلك سابقاً ولم يحل المشكلة إلا لفترة زمنية. عليك من أجل أن تحلي المشكلة أن تحددي مواعيد عمل ثابتة له، وتضعي جدولاً لمشاويرك بما يتناسب مع مواعيد عمله المحددة، فلا تتوقعي أنه تحت يدك ٢٤ ساعة، فمن حقه أن يشعر أنه موظف بمواعيد ثابتة واضحة. حين أنهيت حديثي وجدت علامات التعجب تحيط بها. تعجب مشبع بعدم اقتناع ورفض كبير للفكرة. هذه المرأة من أكثر الناس طيبة وإنسانية، ولكن في عُرف قوانين العمل تعتبر امرأة مُستغلة، فما الذي صنع هذه المفارقة؟ هل يرجع الوضع السيئ إلى عمالتنا المنزلية، إلى افتقارنا إلى الحس الإنساني؟ وهل نفتقر إلى حسنا الإنساني؟ لا أدري بشكل جازم، ولكن حين تستحدث بعض المبادرات الإنسانية نجد مشاركة وتفاعلاً كبيراً، فلعل للقضية بُعداً آخر. غياب مفهوم الحقوق لدى رب المنزل وبقية أسرته جعل رب المنزل يتعامل مع العمالة بمفاهيم لا ترتبط بالحقوق، ومن هنا فقد العامل جزءاً كبيراً من حقوقه. بعبارة أخرى: كيف لشخص لم يتربَّ في ثقافة ذات منظومة حقوقية واضحة أن يعامل عامله المنزلي وفقاً لهذه الحقوق؟ حين تغيب ثقافة الحقوق لدى المجتمع فلماذا نتفاجأ حين يعامل رب العمل عاملة المنزلي وفقاً لمنطق «الإحسان» لا «الحق». والفرق بين الإحسان والحق كبير. فالإحسان يقوم على علاقة تراتبية يمنح فيها رب العمل الامتيازات ساعة يشاء ويمنعها ساعة يشاء من دون أن يتعرض لأية مساءلة، وهذا ما لا يمكن أن يحدث في علاقة تقوم على مفهوم الحقوق. ومن هنا ألا يعني هذا أننا حين استقدمنا العمالة المنزلية وضعنا ووقعنا عقود عمل، ولكن في تعاملاتنا مارسنا ما استبطنه عدم وعينا عن مفهوم الجارية والعبد. ليصبح الحل لمشكلات العمالة ليس تنمية الحس الإنساني بالعطف والشفقة، بل بتكريس ثقافة الحقوق وانتزاع ثقافة الرق الموجودة بشكل صامت وغير واعٍ داخل مجتمعنا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1191 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع