أ. د. عبدالـرزاق محمــد جعــفـــر
المسلسل التلفزيوني لقصة واقعية تنقصها الصراحة تـسـرد جانباً من الحياة الأجتماعية في العراق وليبيا وتونس لغاية منذ1932 ولغاية2003
المقدمة :
كانت الحقيقة تحكم البشرية، إلا أن العالم في نهاية القرن العشرين سقط في الانحطاط،.. وما من احد رفع صوته لردع ذلك الإنهيار والظلم أو ترميمه من دون خوف أو رهبة من المتسلطين على حرية البشر، ولذا تم اغتيال القِـيَـم التي آمن بها أجدادنا، فطحنت حضارتهم وتمزقت شَذَرَ مَذَرَ!!... ونتيجة لذلك، اندلعت الحرب الكلامية في أوساط طلائع الأمة المثقفة وتبادلوا التهم التي قادتنا إلى ما نحن عليه الآن !
وهكذا,...جعلونا نسير وفق مخططات علمية شئنا ذلك أم أبينا،.. وجلـُّنا أغمض عينيه حتى عن أبسط القيَـمِ الإنسانية وأُصبنا بالإحباط !..
ولم نترك شيئاً لم نتهمه لنعلـِّق فوقه أسباب إحباطنا والانتكاسات التي وقعت فوق رؤوسنا ،..لانعدام رؤيتنا للحقيقة ، وبسبب التخبط في التكهنات التي لا أساس لها من الصحة.، فزدنا جبناً في اتخاذ أي قرار ننهي به مشاكلنا.
قد يتعرض بعض الناس لبعض المطبات، التي تغير مجرى حياتهم، وبعد اليأس من تحسن وضعهم، يتجهون للاِنتقام ممن وضعهم في ذلك الموقف، وتأخذهم العزة بالإثم، ويشعرون بنشوة النصر... وهذا هو الوباء بعينه ، وقانا الله وإياكم منه، فلا يمكن لأي مثقف أن يلجأ لمثل تلك الحلول ، حيث قيل: " لا تصلح الخطأ بالخطأ "
كما ذكر الفيلسوف الهندي "باها كافان سري":
إن لم تكن مقتدراً على المساعدة فلن يلومك أحدٌ, وجاهد ان لا تؤذي غيرك
وذكرني هذا ببيتين من الشعر للامام الشافعي رحمه الله :
كن كيف شئتَ فإنَّ الله ذو كَـرم = وما عليك إذا أذنبْـتَ من بـاسِ
إلا اثنتين فلا تقربهما أبدـــدا : =الشرك بالله والاضرار بالناس
إنّ العالم ما زال مفعماً بالخير، والسعيد هو من يسعد الآخرين ومن يتعمد الإساءة فهو خطر على المجتمع ويجب إبعاده، كما قال الشاعر:
لا تربط الجرباء قرب صحيحة خوفي على تلك الصحيحة أن تجرب
كم من مرة سألت ذوي الأختصاص عن أسباب عدم التوفيق في عمل ما أو ما يسمى (بالنحس)،الذي يلازم عملنا بشكل مزري، ومسبباً لنا الإحباط المزمن !
لم اجد الجواب الشافي،... ولم استطع استنباط الواقع أو بعض الحقيقة، وهكذا عشت كغيري من ملايين البشر في شقاء دائب، أو كما قال المتنبي :
ذو العقل يًشقى في النعيم بعقلهِ
واخو الجهالةِ في الشقاوة يَنعَمُ
ذكر (سو مرت موم)، "كل شيء في حياة الكاتب يمكن استخدامه في قصة"، ولذا قررت كتابة قصة زميلي "صابر", لا للتسلية، بل لأكتساب العبرة وتجنب الأنزلاق في سراب الهناء!!... مستعيناً بما ذكره
"شيرورد اندرسون"، حول استخدام ما يبدو متناثراً ولا تربطه أية رابطة في حياتنا اليومية، في نسيج قصصي جميل من خلال التجارب التي تحدث لنا أو أمام أعيننا، وتلك العوائــق التي تبرق من حولنا بغير توقع، والتي يطلق عليها أسم: ((مطبات))!
حدثني " صابر", عن بعض ذكرياته منذ الطفولة، وكأنها مسلسل,...ومن تلك الأحداث، ما تكلس في أعماق ذاكرته،.... ولذا آل على نفسه سرد اليسير من سيرة حياته, في خضم الأحوال التي اجتازها منذ نعومة اظفاره, وهو مسلوب الأرادة !
تجنب "صابر", الإطناب في سرد سيرته والأحوال الأجتماعية التي اكتنفتها,.. حتى لا يسبب مللاً للقارئ الكريم، كما تجنب الصراحة المطلقة, في سرد بعض الحوادث حتى لا يدمي مشاعر من له علاقة من بعيد او قريب من احداثها.
لم يوفق "صابر", برؤية أي شيء بوضوح، وطالما تحدث عن أناس بلا حياء، إلا أنهم امتلكوا الحظ في حياتهم، وآخرون شرفاء لم يلمسوا سوى الخيبات,...على أمل أن يبزغ الفجر ليهزم الظلام الدامس المخيم على حياتهم منذ الولادة، وأدركوا أن الزمن لا يفتح أبوابه إلا لمن يحسن الأنتظار,..وقيل:
لا شيئ اقوى من الحقيقة, وانتظار الشيئ اصعب من وقوعه
ولذا وجب التعاون والتعامل مع الواقع مهما كانت قسوته، ويجب الاستسلام له،.....
فقيمة الظلام الكبرى، تجعلك في حالة ترقب وتحفز أنتظارًا للنور كما يجب تعيين موقع المرفأ المتجه له، فلا فائدة من الاعتماد على الرياح لتعبث في أشرعة سفينتك وخاصة عندما تفقد الإقامة وتكون حقيبتك وحدها هي الوطن،
كما ورد على لسان الشاعر "مظفر النواب"، (هذه الحقيبة وحدها وطني)!
مظفر النواب
ومرًت الأيام,..ووجدت في جعبتي العديد من االمقالات الصحفية التي دونها زميل الطفولة "صابر", .. اضافة الى ذكريات كان يحدثني
عنها حينما سكنا عربة واحدة في قطار العمر !!
ولذا آليت على نفسي كتابة المفيد منها بصراحة, متجنباً الأطناب وخدش المشاعر الذاتية لكل من اساء لصابرعندما كان اعمى في طريق مظلم !!
الحلقة/الأولى
ولد" صابر", في قضاء الـشـطرة / لواء المنتفك / محافظة ذي قار , ولم يتذكر أحداثاً لما قبل الابتدائية إلا اليسير وقد سـمع عن تاريخ عائلته، بأنها انحدرت من"جبل عامل" في لبنان, و في بداية القرن الثامن عشــر أسـتقرت في مدينة "النجف الأشر ف"، وامتهن "الجَّد" في مقتبل حياته تجارة الحبوب بين "النجف" وقرى جنوب العراق لفترة طويلة ثم أقامً في مدينة "الشطرة",.. بعدما اشترى ماكنة لطحن الحبوب، وجرش الشلب, لتحويله الى الرز الخالي من الشـوائب والصالح للأكل.
تزوج والد "صابر", مبكراً, امرأة من اسرة مهاجرة من بغداد, امتهنت صناعة الحلوى والشمع ، حيث كانت الهجرة في تلك الحقبة من الزمن تجري من المدن الكبرى إلى الصغرى، لأن سكان المدن الصغيرة والقرى لا تعرف أية مهنة سوى الزراعة وتربية المواشي، ولذا فجميع أصحاب المهن مثل الحدادة والخياطة هم من اسر مهاجرة.
ترسخت في ذاكرة "صابر", أحداثاً وقعت عندما كان في مرحلة الطفولة ,.. وسرد لي مشهدًا لنساء العائلة وهنَّ موشحات بالسواد وفي حزن شديد عند وفاة جَّده، وطريقة صراخهن ولطمهن على الخدود والصدور وهو لا يعي ولم يدرك مغزى التمادي بالحزن عند الموت ، ولذا لم يشارك في العزاء, ووقف بعيداً عن ذلك المشهد غير مكترث لما يجري، واكتفى بمراقبة تلك الأجساد الشبه عارية والراقصة في حركات أمتزجت بعويل مفتعل,... أو قل مُبالغ به إلى أقصى الحدود!
هزَّ ذلك الحدث الجسيم المدينة بكافة فئاتها لمكانة ذلك "الجدَّ" وكرمه المميز في أيّام الخير والقحط على حدٍ سواءْ، وخاصة موقفه في احد سنوات (القحط) القاسية التي أطلق عليها فيما بعد (بسنة لوعَّةْ).
تأثر "صابر", كثيراً بأسلوب والده عند التحدث مع العمال والزبائن وأسلوب معالجته للمشاكل اليومية، وقد تشبع بالأخلاق الحميدة التي كان يسمعها مباشرة, او يحس بها عن بعد في العلاقات العامة بين كافة أفراد العائلة, وان محبته للمقربين من الناس وعائلته وهبتهُ العزيمة ومنعته من الاستسلام لقوى الشَـر، إضافة لطموحاته التي لا حدود لها...
وقد كان محباً للغناء الشعبي , وكثيراً ما يردد اغاني داخل حسـن وحضيري ابو عزيز مثل ( للناصرية, تعطش وأشربك ماي بأثنين ايديً!!) ,..كما كان معجباً بقصيدة الشاعر التونسي ابو القاسم الشـابي , والتي تغنت بها المطربة سـعاد محمد, السورية / المصرية
أذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بُدَ أن يستجيب القدر
أبو القاسم الشابي
إذا ما طمحــت إلـى غــايـة ركبت المنى ونسيت الحذر
ومن لا يحب صعود الجبال يعـش ابد الـدهر بين الحفر
كان "صابر", يثق ثقة عمياء بكل من يتعرف به، ونادراً ما كان يجني الخير من أي شخص، وبعد تلقيه ضربات موجعة صار يشك بمن يتعرف عليه، وقال له احد زملائه:
يجب أن تفرض أن ذلك الشخص باطل الى ان يثبت العكس !
اصيب "صابر", بمنغصات عديدة عكرت علية حياتة ، أو قل جعلته في رهبة من كل شخص يضعه القدر في طريقة, ..فآمن أن الحياة بهذه الوتيرة تجعله في قلق شديد وخوف مستمر، وعذاب لا مثيل له !
لم يعرف "صابر", الكسل وكان يتعذب إذا لم ينجز عمله في حينه، أو إذا لمس عدم جدوى أفعاله، فقد منح عمله للحياة كلها وأحب كل البشر ولم يستسلم لقوى الشر وناضل من أجل مبادئه وأحاسيسه منذ نعومة أظفاره ، وطور حياته بطرق شريفة ولم يذعن للأصوات الباطلة، غير آبه بالمطبات التي اعترضته خلال مسيرته، إلى أن وصل إلى ما هو عليه,... غير نادم على ما فاته من متع الحياة.
كان "صابر" آخر الذكور، وإن خوف والدته عليه من الحسد جعلها تترك شعر رأسه مسترسلاً ولم تحلقه، ليكون أشبه بشعر الفتاة،... وإضافة لذلك، ثقبت أذنيه وألبسته حلقات من الذهب تسمى "ترجية"، وصار مظهره الخارجي كالفتاة تماماً !
اقترب موعد دخوله المدرسة الابتدائية، فأزيلت عنه مظاهر الأنوثة وابعد عن اللعب مع الفتيات، وخاصة مع تلك التي كانت بسن المراهقة والتي تعلقت به من دون أن يدرك سوء تصرفها ، فقد اغرته بأساليب خبيثة لم يستطع مخالفتها، وصار تابعاً لها تسيره وفق مشيئتها, وهددته امه بعقاب شديد وإعلام والده وإخوته إن هو عاود اللعب معها أو مع أي فتاة، لذا توجه للعب مع أولاد الحي،... وقد بدأ يدرك سـرثورة والدته، ورفض بعد ذلك الاستجابة لإغراء تلك الفتاة واحتقرها وعاد لوعيه تماماً، وصار كارهاً حتى التحدث العفوي مع الفتيات في مثل سنهِ وتصورهن على شاكلة تلك "المراهقة", او قل ,المتمردة على كل الأعراف السائدة في تلك المدينة الصغيرة لغياب الواعظ ، فهي يتيمة الأبوين وقد رعتها خالتها وتركتها تعمل خادمة في بيوت الأغنياء، ولم تخضع لأي وازع تربوي او ديني، ولذا تمادت بلعبها مع الذكور, الى ان اجتازت دور المراهقة وتزوجت من احد اقاربها المقيم في بغداد.
شاطَرَ صابر (الَصَّبي) أقرانه في المحلة، ولعب معهم شتى الألعاب المعروفة مثل (الدُعْبل) و(الچَّعابْ) و(الطفيرة) و(الشــًمطرَّه)، وكان يعود للمنزل قبل آذان المغرب بقليل خوفاً من عقاب والده!
1111 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع