زينب حفني
تُوفيت مؤخراً الكاتبة الجنوب أفريقيّة «نادين غورديمر» عن عمر يُناهز التسعين عاماً في منزلها بمدينة جوهانسبرج.
ومن لا يعرف سيرة حياة هذه الكاتبة، فهي كاتبة وروائيّة وناشطة حقوقيّة ناهضت نظام التمييز العنصري بجنوب أفريقيا الذي كان سارياً في عصرها.
«غورديمر» كتبت ثلاثين كتاباً، ما بين الرواية والقصة القصيرة، وكانت محور موضوعاتها تدور حول الفصل العنصري والمنفى والاغتراب، وهو ما دفع الحكومة وقتها إلى منع عدد من كتبها من التداول داخل جنوب أفريقيا، ولكن هذا لم يقف عائقاً أمام فوزها بجائزة «بوكر» الأدبية عام 1974 عن روايتها «الناشطة البيئيّة»، وحصولها بعد ذلك على جائزة نوبل في الأدب عام 1991 ،بعد أن لفتت كتاباتها الإنسانيّة المنادية بالمساواة والعدالة والحريّة لجنة تحكيم الجائزة.
«غورديمر» كانت امرأة شجاعة، وهي إلى جانب كونها كاتبة من الطراز الأول، كانت عضواً قياديّاً في المؤتمر الوطني الأفريقي، ودافعت بشراسة عن المناضل نيلسون مانديلا ودعت لإطلاق سراحه، وربطت بينهما صداقة قوية بعد خروجه من سجنه.
ظلّت هذه الكاتبة تكتب حتّى أواخر حياتها رغم تقدمها في السن، وسطّرت عام 2012 روايتها الأخيرة «لا وقت كالوقت الحاضر» التي يتحدّث محتواها عن مناضلين ضد نظام الفصل العنصري، وكيف تعاملوا مع القضايا الشائكة التي يُعاني منها مجتمع جنوب أفريقيا حالياً. قلتُ لإحدى صديقاتي: «لا أظن أنني سأصمد لو أمدَّ الله في عمري في امتهان مهنة الكتابة! لابد أن يأتي وقت أشعر بالوهن وأصابعي سترتجف وأنا ممسكة بقلمي!».رفعت حاجبيها عجباً من كلامي وعلّقت قائلة: «الكتابة في رأيي ليس لها عمر معيّن، وطالما أن الإنسان قادر على العطاء لماذا لا ينفع مجتمعه! تذكري بأن الله حباك عن غيرك بهذه الموهبة الرائعة».سرحتُ في كلامها، فأنا أجهل كيف سيكون حالي حينها، وهل المناخ العام في عالمنا العربي يسمح للكاتب أن يظل قلمه مورقاً زاهي اللون؟
في عالمنا العربي يتعرّض الكاتب الحر صبيحة كل يوم لانتكاسات على المستوى الشخصي والعام! فعلى الدوام يتم إقصاؤه، ويُنظر لأدبه على أنه من المحرمات التي يجب وأدها في المهد قبل أن تُشاع بين الناس.
ويتم التعامل مع نتاجه بحذر وريبة! بجانب القلم الأحمر الذي ما زال الرقيب العربي يستخدمه حين يُفكّر الكاتب في التحليق خارج سرب الأغلبية التي تُجيد التطبيل ورفع شعارات الولاء المزيفة!
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية لا يُمكن أن يصل الكاتب لهذا العمر، وهو يرسم ابتسامة الرضا على وجهه! فهو يشعر طوال الوقت بأنه يؤذّن في مالطة، وأن لا أحد يهبُّ واقفاً لإقامة الصلاة، مما يجعل اليأس يتسرّب لقلبه، وأنه يهدر وقته في تحقيق المستحيل! الكتابة بالنسبة للكاتب العربي عملية انتحاريّة، فهو يُلقي بنفسه صبيحة كل يوم في خضم الكتابة ولا يعرف إن كان سيصل سالماً، أم يجد على الشط الآخر حرّاساً يحملون أغلالاً حديديّة لتلقينه درساً قاسياً بوجوب أن يمشي بجانب الحائط مغمض العينين صامّ الأذنين ملجم اللسان كي يعيش آمناً بين قومه.
من أجل هذه الأسباب من الصعب أن يصمد الكاتب حتّى الرمق الأخير من عمره! فالكتابة تحتاج إلى مناخ صحي خال من النكبات كي يستمر عطاء صاحبها، وللأسف أغلبية أوطاننا تُفاجئنا بين حين وآخر بأوبئة من الصعب علاجها! الكتّاب العرب الذين يكتبون بأقلام ناصعة أشجع بكثير من الكتّاب الغربيين، كونهم يحاولون طوال الوقت رفع رايات الحرية في مجتمعات لم تعد تُميّز ألوانها منذ أمد بعيد واستحلت القيود كي تُوفّر لقمة عيشها!
1125 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع