معضلة أهل السنّة في العراق

                                         

                     د .محمد عياش الكبيسي

             معضلة أهل السنّة في العراق

             الحلقة الثانية من (مجادلات دينية)2-2

لقد كان رفض العملية السياسية لدى جمهور السنّة العرب نوعا من الاحتجاج على جريمة الغزو الأجنبي واحتلال العراق، وكان في الوقت ذاته دافعا لحمل السلاح وإعلان المقاومة، بيد أن الذي فات السنّة العرب أن هذا الموقف المبدئي من الممكن أن يؤتي ثماره في بلد متجانس ومتفق من حيث المبدأ على التوجهات العامة، أما في الحالة العراقية فالأمر مختلف تماما، فالمكونات الأخرى كانت ترى في الاحتلال فرجا وتحريرا، وهذا الخلاف أنذر منذ البداية بانقسام حاد لا يمكن تداركه فيما بعد.
لقد تمكن السنّة العرب من طرد المحتل فواجهوا واقعا جديدا لم يكن يدور بخلدهم، ولم يحسبوا له حسابه، حيث استأثرت المكونات الأخرى (الشيعية ثم الكردية) بكل مؤسسات الدولة، بل وباللعبة السياسية بكاملها، ولم يعد أمام السنّة العرب إلا واحد من خيارين؛ إما القبول بقواعد اللعبة كما هي وسيكونون الطرف الأضعف بلا شك، وإما الرفض، وهذا الرفض إن كان بمعنى الورع والاعتزال فهو الموت البطيء لهم ولهويتهم، وإن كان بمعنى الثورة المسلحة فهو إعلان للحرب الأهلية التي لا تبقي ولا تذر، والتي قد تنتهي بتدمير البلد أو تقسيمه بحدود النار والدم، أما فكرة إسقاط الحكومة بالقوة وتحرير العراق كله وإعادة تشكيل حكومته الوطنية فهذا نوع من الأماني الطوباوية التي تفتقر إلى المنطق العلمي والواقعي.
نعم، لقد أثبتت معارك الأنبار الأخيرة أن جيش المالكي ليس سوى تشكيل ميليشياوي مرتزق، لكن في المقابل هل تمكن الثوار من حسم المعركة على أرضهم وبين أهلهم؟ فكيف لو ذهبوا إلى بغداد وكربلاء والنجف؟
إن الحقيقة العسكرية التي لا ينبغي التغافل عنها أن غاية ما يمكن أن يحققه الثوار لو سارت الرياح بما تشتهيه سفنهم، هو بسط نفوذهم على مثلثهم السنّي، وهذا وقوع عملي في فخّ التقسيم الذي يرفضه الثوار.
إننا لسنا أمام حالتين إحداهما صح والأخرى خطأ، بل نحن أمام خطأين وخطيئتين، وواجب المجتهد البحث في الحالتين من كل وجه، أما التخندق خلف الحالة التي تناسب المزاج النفسي والعاطفي، والتقاط الشواهد والشوارد لإثبات خطأ الآخر، فهو مع كونه خيانة علمية فهو مجازفة بمصير أمة كانت وجه العراق الحضاري لأربعة عشر قرنا.
إنه من المؤسف أني لم أجد لحد اللحظة دراسة علمية جادة للمعضلة العراقية، أو للمعضلة السنّية في العراق، بل إن غالب الفتاوى كأنها تحيل إلى قلب المفتي، ولذلك فهي لا تؤثّر إلا في المتخندقين أصلا ممن تجمعهم بهذا المفتي أو ذاك علاقة القرابة أو التنظيم أو العاطفة الساذجة، ولذلك بقيت الصفوف في الغالب كما هي منذ 11عاما، والنتيجة المريرة أن جهد كل فريق أصبح منصبا لإسقاط الفريق الآخر، وهو ما يعني خصم شطر أهل السنة من وزنهم الحقيقي في كل مواجهة أو منافسة، بل الصحيح أن الفريقين قد خسروا جمهورهم بعد تغييبه في دهاليز الحيرة والتردد وفقدان الثقة، فالعلماء الذين أفتوا بوجوب (المشاركة الانتخابية) لن يستطيعوا أن يضبطوا سلوك السياسيين، وربما انقطعت حبال المودة مع إقفال الصناديق، وأما (فتاوى الجهاد) فسيأخذها (المجاهدون) وسيلة للتجنيد، لكن وفق برامجهم التي لا يعرف عنها المفتون شيئا، ولذلك حين خرجت (داعش) باستعراضها العسكري وسط الفلوجة وأعلنت رسميا (ولاية الأنبار) و (إمارة الفلوجة الإسلامية)، لم يستطع عالم واحد أن يفتي المسلمين فيما إذا كان هذا الإعلان أو هذا الاستعراض يصب في صالح القضية أم لا؟ لقد أحرج المشايخ فعلا وظهروا وكأنهم يؤدون عملا وظيفيا لهذا التنظيم أو ذاك لا أكثر، وربما زاد الحرج حينما أصدروا الفتاوى التفصيلية بضرورة الحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة وسلامة المدنيين والشرطة (المسالمين)، ثم تأتي البيانات (الجهادية) الموثقة بالصور بقطع رأس المرتد فلان، وهدم بيت الكافر علان. إن منهجية الفتوى السياسية لم ترق إلى مستوى الحل، بل ما زالت تتسم بالانتقائية والتجزيئية، ومشوبة بردود الفعل والعاطفة الآنيّة، فضلا عن وجود حالة من التخندق واستغشاء الثياب وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
إن تحرير محل النزاع من أولى قواعد الحوار والمناظرة، وحين نقفز على هذه القاعدة فإننا سنتحوّل إلى حالة أشبه بـ (حوار الطرشان).
في تقديري أن الفريقين ينبغي أن يعترفا أولا بالمساحة المشتركة بينهما في هذه المعضلة، ويمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
أولا: أن العملية السياسية بدءا من مجلس الحكم ثم كتابة الدستور ثم الحكومات المتعاقبة والمحاصصة وطريقة بناء المؤسسات والبنى التحتية للبلد كلها باطلة ومؤسسة على باطل.
ثانيا: أن هناك فشلا عاما للأداء الحكومي أوصل العراق إلى مستوى البلد الأسوأ للعيش بين بلدان العالم.
ثالثا: أن هناك ظلما مقصودا وممنهجا من قبل الحكومة للسنّة العرب كيفما كان توصيفهم وفكرهم وسلوكهم.
رابعا: أن الدفاع عن النفس والدين والعرض وردّ العدوان المسلح بمثله حق مشروع وواجب مقدّس، وأن من قتل في سبيل ذلك يستحق الشهادة بنص الحديث الصحيح.
هذه الأربع أستطيع أن أجزم أنها محل اتفاق قد يصل إلى مستوى الإجماع إلا من لا يعتد بخلافه ولا بوفاقه.
أين تكمن المشكلة إذاً؟
إن جوهر المشكلة ليس هنا، فالثلاثة الأُوَل إنما هي توصيفات لواقع ملموس يدركه حتى الأعمى والأصم، وأما الرابعة فهي حكم شرعي لا يخالف فيه عاقل، وحصر الجدال في هذه النقاط يعبّر عن أزمة حقيقية في فهم الآخر وقصور في إدارة الخلاف والحوار.
إن جوهر المشكلة يكمن فيما بعد التوصيف، والتبعات والتحديات التي ستواجهنا في كل سبيل نراه للحل، فالتوصيف ليس حلا، وأذكر هنا أننا اجتمعنا في أربيل مع قادة الحراك الشعبي، وكان أحد الشيوخ الفضلاء يركّز على ضرورة التحالف العربي الكردي، ثم لما شرعوا بالحديث عن المطالب بدأ هو بذكر إسقاط الدستور وتغيير النظام، فقلت له: إن الذين تسعى للتحالف معهم هم ركن في هذا النظام وهم متمسكون بهذا الدستور، وإن طرح هذه المسألة سيفجّر لنا مشكلة جديدة مع الكرد وحكومة الإقليم، فهل أنتم مستعدون لذلك؟ ومثل هذا ما ذكره لي أحد العلماء الأفاضل، أنه اتصل بالشيخ الجليل الذي أفتى بحرمة الأقاليم لأنها في نظره مشروع صهيوني لتقسيم العراق، قال: قلت له إن إخواننا الكرد يرفضون هذه الفتوى بسياسييهم وعلمائهم وكل شرائحهم، فاضطر الشيخ لإصدار توضيح أن تحريم الأقاليم لا يشمل الكرد لأن لهم وضعا سابقا، ونسي فضيلة الشيخ أن الكرد لهم طموح في الانفصال لا يخفونه، وآخر استبيان شعبي أظهر أن %95 منهم مع الانفصال، فإذا كان مناط التحريم عنده هو الخوف من التقسيم، فاستثناء الكرد لا يبدو مبررا على الإطلاق، وإن كان لخصوصيتهم القومية، فإن خصوصيتنا الدينية والتي تتعرض للسحق والاستئصال على يد المشروع الصفوي الطائفي أولى بكثير، وهكذا لو قلنا بوجوب الجهاد فإن هناك أكبر من مشكلة ستعترضنا في تحديد الأرض والعدو والصديق والاحتمالات الواردة والنتائج وهكذا، والوقوف عند مجادلات الفتوى لن يقدم حلا، وهذا يؤكد أننا بحاجة إلى دراسات علمية مفصّلة وهادئة بعيدا عن المزايدات الاستعراضية والخطابات التعبوية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1115 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع