د .محمد عياش الكبيسي
تجري الانتخابات في كل شعوب العالم بعيدا عن الفتاوى والمجادلات الدينية، حيث إن المجتمعات تمارس هذا الحق دون الشعور بالحاجة إلى الاستفتاء الديني، ومن ثم فإن أهل الفتوى أيضا لا يجدون أنه من المناسب إقحام أنفسهم في مثل هذه الممارسات إلا في حالات قليلة أو نادرة.
في المجتمع العراقي الأمر مختلف تماما، وأذكر بهذا الصدد أنه في الانتخابات المصرية الأولى ظهر الشيخ يوسف القرضاوي على التلفزيون وأعرب عن قناعته الشخصية بانتخاب عبدالمنعم أبوالفتوح من دون فتوى طبعا، فجاءه الرد المفصّل والمؤصّل من أحد علماء العراق بتحريم هذا الاختيار مع الأدلة العقلية والنقلية، حيث رأى (المجتهد العراقي) أن الواجب الشرعي هو انتخاب محمد مرسي حصرا! وإذا سمحت (الفتوى العراقية) لنفسها أن تتدخل في الانتخابات المصرية بهذه الحدّة، وأن ترد على علَم بوزن الشيخ القرضاوي، فما الذي يمكن أن نتصوره عن مستوى تدخلها في الانتخابات العراقية؟
إن الطرف الأول في هذه الظاهرة هو المجتمع العراقي نفسه وليس العلماء، فالمجتمع العراقي ينتظر الفتوى بشغف ويطالب بها ويتداولها ويتفاعل معها (مؤيدا أو معارضا) بشكل غريب، وقد وصل الأمر إلى حد انتقاد الفتاوى لأنها تذكر الحكم الشرعي بشكل عام ولا تعطي الموقف التفصيلي من المرشّحين! وقد كتب لي أحدهم: لا تجعلونا كالمعلقة، قولوا لنا بصراحة: من ننتخب؟!
إن هذا السلوك بحاجة إلى دراسة تحليلية وتقويمية عميقة، وهو لا شك سيستغل من قبل الأحزاب السياسية (المشاركة والمقاطعة) لدفع بعض المشايخ المنتمين والمؤيدين لإصدار الفتاوى، وهنا تختلط الفتاوى النزيهة بالفتاوى المسيّسة، مما يتسبب في حيرة المتلقي أكثر.
لقد عايشت التجربة التركية كثيرا، وحضرت أكثر من مرة انتخاباتها العامة، فلم أسمع فتوى، ولا شبه فتوى، فالأتراك بكل شرائحهم الإسلاميين وغير الإسلاميين يرفضون تدخل الفتاوى في (حياتهم الانتخابية)، لأن الانتخاب عندهم حق شخصي وأمانة ومسؤولية أخلاقية لا يصح فيها التقليد ولا المجاملة، وهذا يتطلب من كل ناخب أن يكون واعيا بواقعه ومتابعا لبرامج المرشحين وسلوكهم من قبل ومن بعد.
إن هذه المقارنة الأولية تؤكّد أن السبب الأوّل لتشكيل هذه الظاهرة هو قلة الخبرة، فالشعب العراقي لا يعرف شيئا اسمه (انتخابات) في كل تاريخه، وآخر ممارساته (الانتخابية) قبل الاحتلال كانت لاختيار مرشح واحد من مرشح واحد لمنصب رئيس الجمهورية! وكانت النتيجة الرسمية التي أعلنها نائب رئيس الجمهورية %100، واللطيف هنا أن روّاد تلك التجربة ينتقدون التجربة الحالية لأنها (مهزلة) وتفتقر إلى العدالة والنزاهة! مع الفارق الذي لا ننكره بين المرحلتين في التوجهات والممارسات الأخرى.
إن المواطن التركي يعتبر أي توجيه له بانتخاب فلان وعدم انتخاب فلان هو إهانة له، حتى لو صدر هذا التوجيه من مسؤوله الحزبي، أو من أبيه وأمه، أو من شيخه وأستاذه، ويسميها (ولاية القاصرين)، وهذا يعني أن المواطن التركي مشبع بفلسفة الانتخابات وأبعادها العميقة ثقافيا وتربويا وسياسيا، وهذا هو ما يفتقر إليه المواطن العراقي، وربما نستثني المجتمع الكردي في إقليم كردستان بحكم ممارسته المتقدمة بعض الشيء، ولذلك تقل (الفتاوى الانتخابية) عندهم، رغم كثرة علمائهم وتعدد توجهاتهم، ومن المفارقات هنا أن بعض علمائهم يصدر فتاواه الانتخابية باللغة العربية فقط ويوجهها للسنّة العرب لشعوره بحاجتهم لمثل هذه الفتوى.
أما المجتمع الشيعي فإن ارتباطه بالفتوى لا حدود له، فربما يستطيع السيستاني وحده وبسطر واحد أن يطيح بحكومة المالكي وبحزب الدعوة وتاريخه وتجربته السياسية بالكامل! ويبدو أن بعض السنّة العرب قد تشكلت عندهم قناعة جديدة بضرورة أن يكون لهم سيستانيهم الخاص على قاعدة (ذات أنواط)، بغض النظر عن مشروعية مثل هذا التوجه وخطورة نتائجه على الأرض، ومن المرجّح أن السنّة بطبعهم وثقافتهم سينقلبون على مرجعيتهم حتى لو تشكلت، لأن المجتمع السنّي مجتمع مدني بطبعه وتاريخه وثقافته ومرجعيته عبر التاريخ إنما هي الدولة ومؤسساتها، أما الفتوى فستبقى عنده في إطار الاجتهاد العلمي المتعدد والمتنوع ولا يمكن أن تنتقل عنده إلى مستوى القرار والقيادة، ولولا غياب الدولة اليوم لما كنا بحاجة لمناقشة هذا الموضوع من الأصل.
إن السياسيين السنّة من الطرفين المتقابلين (المشاركين والمقاطعين) والذين يحاولون اليوم استخدام (العمائم) كسلاح في حربهم العبثية، عليهم أن ينتبهوا إلى طبيعة المجتمع السنّي نفسه، وإلى خطورة هذا السلاح على وحدة المجتمع وبنيته الثقافية والتربوية، وأن محاولة تقليد التجربة الشيعية لا تخلو من مجازفة وخطورة، فالمرجعية الشيعية منضبطة بالدور المناط بها ضمن المشروع الشيعي وقواعده المتفق عليها عقدا أو عرفا راسخا، انظر (المعالم الجديدة للمرجعية الشيعية) لمحمد حسين فضل الله، وهذا غير موجود في الثقافة السنّية، ولذلك تجد (العالم السنّي) فور حصوله على قدر ما من التعاطف الشعبي يتصرف كقائد مطلق وصاحب قرار، ولنتذكر أن الذين أحبطوا مشروع أردوغان لحماية بغداد و (تأمين عراق ما بعد الحرب) هم مجموعة (مشايخ) لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة دون استشارة السنّة ولا حتى استشارة أقرانهم من العلماء والمشايخ.
إن الدور الكبير لأهل العلم في كل مجتمع ليس محل خلاف أو شك، لكن الذي ينبغي التنبه له أن الفتاوى السياسية في مساحتها الأوسع لا تستند إلى (النص) وإنما إلى تقدير (الواقع) وقراءة حيثياته ومعطياته واحتمالاته، والفقيه هنا لا يملك أكثر مما يملكه غيره، بل الصحيح أن غيره ممن خاض التجربة وعايشها متفوق عليه قطعا، وهنا لا بد من التمييز بين مرحلتين؛ مرحلة (تشخيص الواقع) ومرحلة (تنزيل الحكم الشرعي) فالأولى لأهل الميدان، والثانية لأهل الفقه.
لقد غيّر أحد المفتين فتواه من (إباحة ضمنية بشروط) إلى (حرمة حاسمة ونهائية) إلى (رأي شخصي غير ملزم) في غضون أيام، وقطعا أن النصوص الشرعية لم تتغير في هذه الفترة! وإنما تغيّرت المعلومات الواقعية التي ترد على الشيخ، وهذا مؤشّر على مصداقية الشيخ وموضوعيته، بيد أنه من الناحية الموضوعية أيضا كيف نستطيع أن نتثبت من هذه المعلومات، وأنها فعلا قد فاتت على الآخرين من علماء وسياسيين، مع أن غالبهم يعيش في الميدان ويمارس التجربة بنفسه؟
إنه حينما يقال مثلا: إن الانتخابات (مسرحية) و (النتائج محسومة مسبقا) وأن (أسماء الفائزين موجودة في المطبخ الأميركي الإيراني) ثم في الوقت نفسه يقال: إن المالكي يوزّع الرشاوى على الناخبين، وأنه يغرق بعض المناطق ويضرب مناطق أخرى بالهاونات لمنعهم من الانتخاب، وأن بعض المرشحين يشترون البطاقات الانتخابية، ويتدخلون في عمليات العد والفرز، إضافة إلى الأموال الطائلة التي تنفق على الدعايات الانتخابية، فهل هذه الخروقات الموثقة تعني أننا في معركة جادة، وأنه ينبغي أن نعدّ العدة الكاملة لها، أو أنها مجرد (مسرحية عابثة) ينبغي أن نتنزه عنها؟ ثم هل هذه الخروقات مرتبطة بالنظام فقط؟ أو أنها مشكلة مجتمع وثقافة شعب؟ إنه حينما نعلّق مشروعية المشاركة بزوال هذه الخروقات وتأسيس دولة العدل التي ليس فيها تزوير ولا ظلم ولا احتقان طائفي ولا ولاء للأجنبي، فما الحاجة إلى فتاوى المشاركة بعد ذلك؟
951 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع